لم يكن الأمر ان رواد المسرح وأهله في روسيا نهاية القرن التاسع عشر، بدأوا يسأمون واقعيته - وواقعية اجتماعية ? هبطتا عليهم من اعلى من طريق مثقفين صاروا هم كل المبدعين وفارضي آرائهم التقدمية على الحياة الفنية بأسرها... بل كان ان مجتمعاً مثل المجتمع الروسي، يستخدم الرمزية حتى في خطابه اليومي وفي حياته الاعتيادية، ما كان في امكانه ان يغيّب تلك الرمزية عن الفن الذي كان، في ذلك الحين، ذا الحظوة الاولى لديه: فن المسرح. طبعاً لم تكن الرمزية اختفت تماماً... بل كانت موجودة ولكن في مسارح ومسرحيات شديدة الشعبية، تصل الى حدود الابتذال، في وقت كان فيه مختلف الكتاب الكبار"الطالعين من معطف غوغول"كما قال دوستويفسكي ذات مرة، قد ابتعدوا عن الرمزية سالكين دروب الواقعية، والمثالية، انطلاقاً من مفاهيم فلسفية او فكرية عامة. من هنا حين تمكن انطوان تشيكوف من ان يعيد اللحمة بين النزعة الواقعية والتوجه الرمزي، تنفس كثر الصعداء وكان لسان حالهم يقول: ها هو المسرح الروسي استعاد حياته الحقيقية اخيراً. حدث ذلك في العام 1896، في"مسرح الفن"في موسكو يوم كان العرض الاول لمسرحية"طائر النورس". وهذه المسرحية لم تكن، بالطبع اول عمل مسرحي يكتبه تشيكوف الذي كان، في ذلك الحين، في السادسة والثلاثين من عمره، لكنه سيدخل تاريخ المسرح وسيرة هذا المؤلف الكبير، بوصفه اول عمل له يحقق نجاحاً مدوياً... ومن هنا ما قيل دائماً من ان"طائر النورس"احدث ثورة تجديد في كل المسرح الروسي. ثورة تجديد؟ أجل. ومع هذا، كان كل ما فعله تشيكوف في كتابته لهذه المسرحية، ان مزج"الحداثة"الواقعية بالاصالة"الرمزية"وكانت"الخلطة"ناجحة بالتأكيد. وهي، في الحقيقة لا تزال ناجحة حتى اليوم، اذ لا تزال هذه المسرحية الى جانب"الخال فانيا"و"الشقيقات الثلاث"من اكثر اعمال تشيكوف تقديماً، بلغات شتى وعلى خشبات العالم كله. ومع هذا، لا يعدم الامر سيدة فرنسية تشاهد المسرحية لتخرج منها مدهوشة قائلة:"لكنني لم اشاهد أي طائر نورس على المسرح!". بالتأكيد لا يعدو هذا القول كونه نادرة لا تخلو من طرافة.. اذ خلال سياق تقديم المسرحية، يدرك أي مشاهد ان رمزية المسرحية انما تبدأ هنا في عنوانها. فمن المعروف ان طائر النورس الذي هو من أجمل الطيور تكويناً فيزيائياً، يمضي حياته وهو يحلق فوق مياه البحار والبحيرات... انه رمز للحرية وللانطلاق. ولا يُصاد عادة لأن لحمه لا يؤكل، ما يضاعف من احساسه بالأمان والحرية. ومع هذا فان المأساة تكون دائماً في انتظاره، في هيئة صياد أرعن لا يتردد في اطلاق النار عليه وقتله، لا لشيء، الا من اجل لذة القتل نفسه. ومن هنا يعتبر هذا الطير رمزاً لسقوط الكائن ضحية لحريته وتألقه، من دون ان يكون لسقوطه سبب الا الحماقة ومسرى الحياة كما هو. هذا الرمز، هو - في كلمات اخرى - رمز السقوط من اعلى في عز لحظات النجاح والاحساس بالحرية. تدور احداث"طائر النورس"في الازمان المعاصرة - لزمن تشيكوف - أي في روسيا نهاية القرن التاسع عشر... ايام كان الروس جميعاً ميالين الى تمجيد شؤون الحياة اليومية، اجتماعياً واخلاقياً، تحت سماتها الاكثر انسانية. اما"بطل"المسرحية فهو قسطنطين الشاب المولع بالادب والفن، ارثاً من والدته، الممثلة الكبيرة والشهيرة. لكن قسطنطين لا يريد ان يعيش على امجاد أمه، بل يريد ان يشق لنفسه في عالم الفن طريقاً خاصاً به.. ويزيد من حدة رغبته هذه انه يريد ان يبرهن لجارته وحبيبته الحسناء، نينا، انه ليس بأي حال من الاحوال"ابن أمه"كما يقال، بل هو فنان في اعماقه. وهكذا، في سبيل المجد الشخصي كما من اجل نينا يكتب صاحبنا نصوصاً مسرحية ها هو يحاول اليوم تقديم واحد منها على الخشبة، واذ ينجح في مسعاه اول الامر ويصل الى حد تقديم المسرحية بالفعل، تتولى والدته، لاسباب خاصة بها، الى ارباك العمل ككل، ما يسفر عن فشل تلك المحاولة الاولى وسقوط كل احلام قسطنطين، الذي لا يجد امامه اتجاه ما حدث الا ان يخلد الى صمت كئيب. كآبة الحياة التي يحياها، هو على أي حالة، والتيار في الوقت نفسه - يلفتنا كم هي - أي هذه الكآبة - طاغية على كل الشخصيات. ذلك ان الكآبة هي المناخ المهيمن هنا، على رغم محاولات بعض الشخصيات اثارة شيء من الطرافة بين الحين والآخر. ولئن كانت هذه الطرافة قد اغرت قسطنطين بعض الشيء في البداية. فانها ستغيب عنه تماماً بعد ذلك الفشل الذي صنعته أمه. اذ منذ ذلك الحين انضم قسطنطين الى قافلة الخائبين الكئيبين من الذين، حسب دارسي هذه المسرحية"يكتئبون حتى حين يأملون ويحبون ويكرهون، كما لو ان الوهم هو سيد هذا العالم". الذي يحدث بعد ذلك هو ان فشل المحاولة المسرحية الاولى يؤدي بين نتائج اخرى الى انفصال نينا عن قسطنطين، فهي كانت ستحبه، فقط، لو نجح في محاولته اما الآن، فها هي تعود الى واقعها الذي تعيشه مفضلة فيه الابتعاد عن الفاشلين. ففي نظرها قسطنطين فاشل، لا يستحق حبها. فهي الاخرى ترنو بدورها الى النجاح والى المجد... وتذهب الى موسكو حيث يخيل اليها ان هذين في انتظارها، من دون ان تدرك ان حقيقة ما حدث هي ان ام قسطنطين سجلت عليها انتصاراً مدروساً. المهم ان نينا تذهب الى موسكو مع تريغورين، وهو اديب ناجح يعيش ايامه ومجده في راحة تامة. معه تجد نينا اولى خطواتها الى المجد، فتحس التصاقها به. غير انه - على عادته التي لم تفهمها نينا اول الامر - سرعان ما يتخلى عنها... ومع هذا، فانها حتى وهي مهجورة وخائبة تفضل من الآن وصاعداً ان تبقى اذنها صماء امام توسلات قسطنطين وآماله بعودتهما الى بعضهما البعض... انها لا تريده، لانه فاشل مرة سيبقى فاشلاً الى الابد. اما هي فانها ستتجاوز نكبتها مع تريغورين وتواصل البحث عن المستقبل والنجاح حتى تصل اليهما. واذ يدرك قسطنطين ان قرارها هذا نهائي، وان لا أمل له في اي عودة للحب بينهما، لا يجد امامه الا الانتحار وسيلة للخلاص. للخلاص ولكن ايضاً ربما لمعاقبة أمه التي قد يعتبرها السبب الحقيقي لما حلّ به. ان قسطنطين هو هنا طائر النورس. فمن هو الصياد الاخرق الذي"يطلق عليه الرصاص ويرديه"يا ترى؟ هل هو أمه؟ هل هو نينا؟ هل هو المجتمع ككل؟ تشيكوف هنا لا يجيب بوضوح، ولكنه يعطينا المفاتيح وعلينا نحن ان نعثر على الجواب. بالنسبة اليه حسبه هنا ان يصور لنا كائنات يعذبها مثل اعلى لا يتناسب فيها حجمه الكبير مع الحجم الصغير لامكاناتها. هذه الكائنات، حتى حين تنجح نجاحاً ما، لا تعيش نجاحها طويلاً، لان الظروف سوف تنتفض بسرعة لسحقها وهي في قمة ذلك النجاح. وكان هذا في الحقيقة شعوراً عاماً يهيمن على المجتمع الروسي في ذلك الحين. المجتمع الذي كان انطوان تشيكوف 1860 - 1904 يعرفه جيداً، وعبر وسيعبر عنه ستانسلافسكي، عند الحقبة الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وهي مسرحيات لا تزال حية ومؤثرة حتى يومنا هذا، في المسرح ولكن في السينما وفي غيرها من الفنون ايضاً.