من ناحية مبدئية، إذا كان التاريخ يذكر كتاب"تأملات حول الثورة الفرنسية"للكاتبة مدام دي ستايل، فإنه بالكاد لا يذكره إلا بصفته الكتاب الذي أثار غيظ ستاندال وجعله، بين العامين 1817 و1818، ينفق زمناً لتأليف كتاب عن نابوليون يرد فيه على بعض ما جاء في كتاب دي ستايل. وكتاب ستاندال هذا هو غير الكتاب الآخر عن"حياة نابوليون"الذي ألفه بعد عشرين سنة، وضم إليه النص الأول الذي لم يكن أصلاً قد اكتمل بسبب الظروف السياسية التي عاشتها فرنسا في زمن كتابة النص الأول هذا. المهم ان كتاب ستاندال سيعيش. أما كتاب مدام دي ستايل، فانه، بعد حياة عاشها طوال عقود من القرن التاسع عشر، طواه النسيان التام منذ آخر طبعة له، في ذلك الحين، في العام 1881، ليعود ويحيا من جديد بعد ذلك بمئة عام ولكن كطرفة أدبية - تاريخية، لا ككتاب تاريخي يعتمد. خصوصاً أن الكاتبة لم تكن"منصفة"تجاه الإمبراطور، ولا حتى تجاه الثورة الفرنسية التي جعلت كتابها كله محاولة لتهشيمها، حتى من دون أن تدعو صراحة إلى عودة الملكية والتخلي عن مكاسب الثورة. - إذاً، لم يكن هذا الكتاب الذي أثار غيظ ستاندال وحرك قلمه في حينه، كتاباً عن نابوليون، بل كتاباً عن الثورة الفرنسية ككل، كما انه لم ينشر كاملاً للمرة الأولى الا بعد موت مؤلفه، إذ نشره ابنها البارون اوغست، وصهرها فكتور دي برولي، الذي سيصبح رئيساً للحكومة الفرنسية. ويربط كثر من المؤرخين بين كتاب مدام دي ستايل هذا، وبين كتاب آخر لها، نشر أيضاً بعد موتها، وهو"10 سنوات في المنفى"الذي أتى أكثر ذاتية من الأول. وفي الأحوال كلها من الواضح أن هذه السيدة حين وضعت الكتابين قبل رحيلها في العام 1817، إنما وضعتهما ضمن توجه عام لديها يمليه حب الظهور والرغبة في أن ينظر إليها الآخرون كأديبة ومفكرة. إذ إن دي ستايل، ما كانت لترغب إلا في شيء واحد، وهو أن تلعب في باريس دوراً سياسياً وأدبياً، وان تستقبل في صالونها وزراء وأعياناً تدلي أمامهم بآرائها، زاعمة لاحقاً أنها هي التي"تؤثر"في رجال القرار في فرنسا. ومن هنا فان كتاب"تأملات حول الثورة الفرنسية"اكثر مما يضعنا على تماس مع هذه الثورة، يمكننا من أن نتسلل إلى داخل أفكار مدام دي ستايل وشخصيتها، حتى وان كانت بصفتها ابنة مصرفي من جنيف كثيراً ما استدعاه الملك لويس السادس عشر لإنقاذ حكومته مالياً من الإفلاس، كانت مؤهلة في شكل جيد لتعرف بعض خفايا بداية الثورة... وتعرف من خلال سيرة حياتها أنها عايشت بشكل مباشر بعض الأحداث الكبرى مثل افتتاح"الأركان العامة"ونقل العائلة المالكة إلى باريس، وعيد الفيديرالية. كما أنها كانت في باريس أيام أحداث 18 برومير، كما كانت في موسكو العام 1813 عند وصول القوات الفرنسية. - ومع هذا كله فان معظم ما ترويه السيدة في كتابها لا يبدو دقيقاً. وذلك بكل بساطة، لأن دي ستايل، حتى وان زعمت أنها تؤرخ، لم يكن يهمّها سوى أمرين: أولهما أن تحيي ذكرى ابيها، مضفية عليه دوراً كبيراً واصلة في بعض الأحيان إلى تصوير تصديه البطولي لمخططات نابوليون الماكيافيلية، بل حتى لإرادة لويس السادس عشر الاستبدادية، وثانيهما أن تقدم كپ"عالمة في فن السياسة"تفسيراً للثورة الفرنسية يحاول ان يكون وسطاً بين الانحراف الإرهابي اليعقوبي للثورة وبين رد الفعل الملكي... وهما أمران يبدو في صفحات كتابها أنها كانت ترفضهما. لكن الكتاب لم يحوِ هذا فقط، بل ضم في قسمه السادس، دراسة عن أحوال انكلترا في ذلك الزمن نفسه، دراسة ميدانية، إذ نعرف أن مدام دي ستايل عاشت سنوات عدة منفية هناك. ولقد مكنها هذا من أن تجعل من الفصل المخصص لبلد منفاها درساً في افضل طرق الحكم من طريق ملكية دستورية مستعادة. - مهما يكن فان الثورة الفرنسية بالنسبة إلى مدام دي ستايل ليست"حادثاً فضائحياً"- بحسب ما كان يراه أبناء الطبقة التي تنتمي إليها الكاتبة. بل كانت"حادثاً منطقياً"يجد جذوره في تاريخ النظام الملكي الفرنسي، وفي نضال الفرنسيين من اجل الحرية... وها هي تقول في هذا المجال:"ان الخطأ الأكبر الذي اقترفه أهل البلاط، هو انهم سعوا دائماً إلى أن يبحثوا في تفاصيل صغيرة، عن أسباب المشاعر الكبيرة التي كانت تعبر عنها أمة بأكملها". وهكذا عبر مثل هذه العبارات، عرفت الكاتبة كيف تبدأ كتابها بإدانة النظام القديم كله، ولكن بخاصة نظام الملك لويس الرابع عشر. فتراكم الأخطاء إذاً، هو هنا، وليس في ما فعله خلفاؤه.. إذ إن هؤلاء لم يفعلوا اكثر من انهم حاولوا ترقيع الأمور. ومن هنا إذا كانت الثورة تبدو منطقية بشكل أو بآخر في نظرها... فإنها ثورة متأخرة، وتأخرها هو الذي غير من الهوية المنطقية للذين كان يجدر بهم أن يقوموا بها... ذلك ان هذا التأخير هو الذي"هبط بالمستوى الأخلاقي للثائرين"ما أسفر عن قيام الإرهاب اليعقوبي الذي أبدت الكاتبة تجاهه كل احتقار. فالإرهاب هذا ليس في حقيقته سوى أزمة مرعبة وتعبير عن التعصب السياسي المطلق وعن عنف الأهواء الشعبية. - غير أن نابوليون، الذي لا تسميه دي ستايل إلا بونابرت هو العدو الأكبر... وهو الوجه السلبي، والأكثر سلبية في خضم هذا التاريخ كله... حتى وان كانت وقفت في البداية، موقفاً فيه بعض الايجابية إزاء الجنرال حين كان لا يزال قائداً للحملة على ايطاليا... لكنه لاحقاً حين صار"قنصلاً"ثم إمبراطوراً يشن الحملات شرقاً وغرباً فإنه صار ديكتاتوراً طفيلياً لا اكثر.. وصار في وسعها أن ترسم له صورة غير معهودة عنه: فهو تحت قلم مدام دي ستايل صار طاغية مستبداً تهزه وحدته المطلقة وعزلته الخانقة، ديكتاتوراً يفرض على حاشيته قواعد سلوك غريبة ومذلة، كما يفرض على الشعب كله رقابة"لا سابق لها في التاريخ الفرنسي الحديث"، ونظاماً بوليسياً قمعياً مرعباً.. وهذا ما يسمح للكاتبة بان تقول إن"بونابرت قد صاغ لنفسه فكرة الوصول إلى ثورة - مضادة، لا يستفيد منها احد غيره، غير تارك من عناصر الدولة الجديدة إلا شخصه الكريم... أي انه أعاد قديماً لا جديد فيه سوى هو نفسه: أعاد العرش والكهنوب والنبلاء.. أسس ملكية لا شرعية ولا حدود لها، وكهنوتاً يدعو إلى عبادته والتمتع بطغيانه، ونبلاء ينتمون الى عائلات قديمة وجديدة، لكنهم لا يفيدون الدولة والشعب في شيء، بل همهم الوحيد ان يخدموا صاحب السلطة المطلقة". - وإذ تصف مدام دي ستايل هذا كله وتتوسع في وصفه، تعمد في النهاية الى مقارنته بالنظام الشرعي الملكي الدستوري في انكلترا، لتخرج باستنتاجات حول"فلسفة التاريخ"تعتمد على ما تسميه"مسير الروح الإنسانية"للوصول إلى الحرية المستعادة، مؤكدة أن الحرية هي الشيء القديم العريق، أما الاستبداد فهو الأمر الجديد، خالصة إلى أن تقدم النظام الاجتماعي لا يمكن فصله عن تقدم الآداب وضروب التنوير، مؤكدة أن الاستبداد لا يتعايش أبداً مع الأدب والفكر. - ولدت جرمان دي ستايل العام 1766 في باريس لأسرة ثرية وذات مكانة نبيلة. وهي، انطلاقاً من رغبات أدبية تجلت لديها باكراً - لكنها لم تتماشَ مع موهبة حقيقية على أي حال - ارتبطت منذ صباها بالصالونات الأدبية النسائية التي كانت مزدهرة لدى نساء طبقات النبلاء في فرنسا ذلك الحين. ولقد كتبت مدام دي ستايل العديد من النصوص والرسائل طوال حياتها، ومنها أعمال اشتهرت، إذ تدرس لدى طلاب المدارس الثانوية. ومن كتبها، إضافة إلى ما ذكرنا:"حول ألمانيا"1810 وپ"كورين أو ايطاليا"1807 وپ"دلفين"1802 و"عن الأدب منظوراً إليه في علاقته مع المؤسسات الاجتماعية"1800.