في ذلك الحين كان السياسي والعسكري الفرنسي لافاييت معتقلاً من حكومة «الإدارة» التي ورثت السلطة الفرنسية بعد موجة الإرهاب الثوري. وكان الإرهاب نفسه يطاول الكثير من الزعماء والمفكرين. وكانت قد همدت الأصوات التي كان يخيّل إليها قبل سنوات ان حكم «الشعب» هو السائد الآن. إذ بعد الحميّا الثورية وشعارات الأخوة والحرية التي طغت خلال السنوات الأولى لتلك الثورة الفرنسية التي غيرت التاريخ، أفاق الناس ولا سيما المفكرون منهم على الواقع الجديد: ها هي الثورة، كعادتها في كل زمان ومكان - وكما ستظل تفعل الى أبد الآبدين - تأكل أبناءها قبل ان تأكل أعداءها، وها هي اتهامات الخيانة تنطلق في كل مكان والتخوين يطاول الشرفاء على ألسنة أناس يتولون في الحقيقة حماية الخونة الحقيقيين. ولم يعد ثمة من منجى لأي صاحب رأي أو موقف سوى ان يخلد الى الصمت والانتظار. * كثيرون صمتوا وانتظروا يومها. وطال الانتظار، حتى وجد البعض في ديكتاتورية الجنرال الكورسيكي الصغير (نابوليون) ومغامراته العسكرية التي ادت الى كوارث، خلاصاً. لكن البعض لم يصمت، بل رفع الصوت عالياً، حتى وإن كان يعرف انه يجازف بأن يوصم بالرجعية ويدان بتهمة «الحنين الى عصور الملكية التي انقضت الى غير رجعة». مع ان هذا البعض كان، في الأصل، أبعد ما يكون عن تلك الوصمة، لكنه كان يجد أمامه سؤالاً واحداً: ما العمل والأمور تتدهور من أسوأ الى أسوأ؟ ما العمل والقانون صار شريعة الغاب؟ ما العمل وكبار الرجال والمفكرين «أولئك النفر الخالد من أصحاب العقول» مغيبون، في المنافي أو السجون أو في طي النسيان؟ وما العمل، بخاصة ومدّ الثورة والإصلاح والتغيير باتت في اول سلّم الخيانة والفساد؟ * من هذا البعض كان المفكر الفرنسي كونستان الذي لم يتورع عن ان يصدر في العام الخامس للثورة (1796) الطبعة الأولى من كتابه الذي سيصبح كلاسيكياً منذ ذلك الحين، والذي عاد وأصدر منه طبعة معدلة - تبعاً للظروف - في عام 1819، اي بعد ان حدث ما حدث. الكتاب هو «ردود فعل سياسية» الذي بات يعتبر من امهات كتب الفكر السياسي، بل لعله قدم افضل تبرير لقيام نوع من الحكم كان قد صار مرذولاً في فرنسا الثورية: الحكم الملكي الدستوري. * والحال ان قلة من الناس كانت في ذلك الحين قادرة على الدعوة الى نظام الحكم هذا، في زمن كانت فيه الملكية الفرنسية ألغيت و «صارت السلطة للشعب كل الشعب» وفق الشعار الرئيس للثورة. لكن كونستان لم يأبه... بل اكثر من هذا، لم يجعل كتابه كتاب تبرير وتنظير، بل جعله برنامج عمل حقيقياً ملكياً دستورياً، مطوّراً ما كان سبق له هو نفسه ان شرحه ونظّر له، حول مسائل الحكم، في كتاب سابق له عنوانه «قوة حكومة فرنسا الراهنة». أما الآن فإنه يقول ان ثمة نوعين من ردود الفعل السياسية: ردود فعل تمارس على الناس وأخرى على الأفكار... ويرى كونستان هنا ان مؤسسات شعب من الشعوب، لكي تضمن استقرارها يتعين عليها ان تكون على مستوى المفاهيم الروحية لهذا الشعب. وعلى هذا النحو، يستطرد كونستان، فإن «التغيرات السياسية تفسح في المجال عادة لمكتسبات جديدة، ولكن في المقابل يتعيّن على المؤسسات والقوانين ان تحترم لكي تسمح بحدوث ضروب تطور جديدة»، أما حين يخل بالتوافق، فإن الثورات تولّد شتى أنواع ردود الفعل. ذلك «أن الأحوال الجديدة لا يمكن ان تصمد إلا بفضل تتابع ضروب العنف التي، إذا ما أوقفت أو خففت، ستؤدي بالتالي الى انتهاء النظام القائم». ومن هنا قد يكون على الحكومة، حقاً، ان تكون محايدة ثابتة، لكن عليها مع ذلك ان تقف بكل قوة وصلابة في وجه أية محاولة لخرق القوانين». ولكن، في الوقت نفسه يتعين على الحكومة ألا تلجأ الى أي طرف أو حزب أو فريق لكي تدافع عن نفسها، كذلك يتعين عليها ان تستنكف عن اللجوء الى أي عمل تعسفي يكون قادراً على إبقائها في السلطة. فقط يتعين هنا على الأشخاص الذين يمكن ان يكون لهم تأثير جيد في مواطنيهم ان يوحدوا جهودهم المخلصة لكي يناضلوا معاً من اجل الخير العام. أما الشعور بأي شك وتردد تجاه المستقبل، فإنه يستتبع حتماً إضعاف الحرية وفقدانها. أما حب الحرية فيتعين عليه ان يكون هو الحافز الأساسي الذي يحرك جهود المخضرمين والشبان سواء بسواء. فإذا كان العجائز والمخضرمون يفتقرون الى الإيمان والقدرة والحماسة، فإن على الشبان، مجتمعي الصفوف، ان يسيروا قدماً وبكل حزم من اجل الدفاع عن مكاسب المجتمع. و «في وسط هذا النظام التدرجي والمنتظم، لن يكون ثمة مكان لأية غيبية دينية، ولا لأي إنكار مشبوه للمثل العليا». و «الإنسانية على اية حال، لا يمكنها ان تعثر على دروبها إلا في تناسق يقوم بين القوانين الاجتماعية والأخلاقية». *إن هذا الكلام كله، الذي قد يبدو اليوم وقد تخطاه الزمن وصار نوعاً من الشعارات، كان - والحق يقال - كلاماً خطيراً في ذلك الحين. إذ من ذا الذي كان يجرؤ على الحديث عن القوانين والأخلاق والشرائع، وحتى عن قوة الدولة والإخاء الاجتماعي - لا الطبقي - في زمن كانت فيه المقصلة منصوبة لسحق اي كافر بالثورة؟ كونستان لم يأبه لذلك كله، بل عبّر عن رأيه بوضوح... بل وصل به الأمر، وفي الكتاب نفسه الى الإشادة بعدد من الأشخاص الذين جعلهم «سوء طالعهم، ونقاء أفكارهم - في رأيه - من أولى ضحايا الإرهاب»، بل أولى ضحايا زملائهم من الكتاب والمفكرين الذين عرفوا كيف يبيعون انفسهم الى الجلادين. وفي اختصار كلي، كان ما يدعو إليه هذا الكتاب، هو الحرية، كان يمثل دفاعاً حاراً عن نظرية الحرية، لكنه في الوقت نفسه كان يشترط الحرية بوجود ضمانات دستورية، وهذا ما جعله يعتبر الى حد كبير، استكمالاً لأفكار مونتسكيو، معطياً كونستان مكانته في تاريخ الفكر السياسي الفرنسي. * وهنري - بنجامين كونستان (دي ريبيك) هو مفكر وكاتب روائي فرنسي من اصل سويسري ولد في لوزان عام 1767 ومات في باريس عام 1830. وهو عاصر وعايش اكثر من ثورة وانقلاب، والكثير من الأحداث التي راحت تعصف بفرنسا وأوروبا في ذلك الحين. ولئن كانت كتبه السياسية اشتهرت، فإن افضل وأشهر أعماله تبقى روايته «ادولف» التي تعتبر عملاً رائداً في مجال الرواية السيكولوجية ولطالما قورنت بأعمال ستندال في هذا المجال. وقد درس كونستان في ألمانيا ثم في اكسفورد وأدنبرغ، قبل ان ينتقل الى فرنسا حيث بدأ يلمع في الحياة الفكرية، ولكن في الحياة الاجتماعية أيضاً حيث عرف بعلاقاته الكثيرة ولا سيما مع مدام دي شاريير أولاً، ثم مع مدام دي ستاييل. وحين قامت الثورة الفرنسية وقف كونستان مناصراً لها منذ عام 1794 مضحياً بزوجته ووظيفته من اجل ذلك. وهو بعد انقلاب 18 برومير عيّن في محاكم الدولة، لكنه ما إن ظهر بونابرت حتى عارضه ونفي الى ألمانيا حيث وضع كتابه الأشهر «عن الدين منظوراً إليه في منبعه، أشكاله وتطوراته» في خمسة أجزاء (1824- 1831)، إضافة الى الكثير من الأعمال الأخرى بين فكرية وروائية. [email protected]