يُعتبر حضور الصين المدوّي في العالم اليوم خطراً على الغرب، بينما ترى الصين في الغرب تهديداً لقيمها. ويعود موقفها الى زمن الاستعمار الغربي، وإلى المعاهدات غير المتكافئة التي فرضتها الدول الغربية عليها عنوة في زمن ضعفها، في اثناء القرن التاسع عشر. وهذا يفسّر جانباً من التحفظ عن محاسبة عهد ماو تسي تونغ على الأخطاء الفادحة التي ارتُكبت طواله. وفي زيارته الأخيرة الى بيجينغ، سأل وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، عن حقيقة حاجة الصين الى قوات مسلحة على هذا القدر من الضخامة. فتجاهل طول حدود الصين مع الهندوروسيا، وأغفل نظرة الآخرين الى أميركا، وشكوكهم في قوتها. ويثير الجدل بين الصين والغرب فهم الأسباب التي أدت الى"نهوض"الأولى، وتعليل هذا النهوض. ويشدد محللون أميركيون على دور الرساميل الأجنبية في اندماج الصين في الاقتصاد العالمي. ويعزو ناطقون باسم الصين"النهوض"الى مدخرات البلاد وروح المقاولة التي يتحلى بها أبناؤها. ومعظم الرساميل"الأجنبية"لم تأتِ من الشركات الغربية المتعددة الجنسية، بل من شركات العائلات الصينية المهاجرة. وعلى هذا، فحافز البلاد على النمو هو الذهنية المؤسساتية والشعور الوطني، وليس تحريك الرساميل العالمية. ويجد الاقتصاديون الغربيون صعوبة في فهم الطبيعة الهجينة لحقوق الملكية الصينية، ولا يستطيعون تفسير ضعف المعوقات في طريق النمو الاقتصادي، على خلاف ما كان متوقعاً، وذلك لاعتقادهم بأان التنمية الاقتصادية تترتب على الاقرار بحقوق محددة حماية صارمة للملكية الخاصة الفردية. وهذه النظرة المجردة الىة حقوق الملكية وعلاقتها بالنمو، يتحداها ويبطلها معدل نمو الصين المطرد والثابت على مدى خمس وعشرين سنة، على رغم نهوضه على حقوق ملكية لا شك في ميوعتها أو"ضبابيتها". وثمة جدر بين الذين يرون الملكية الهجينة مرحلة انتقالية تنتهي الى التخصيص الشامل، وبين الذين يرونها جزءاً ثابتاً من نظام"صيني"متفوق. ويصعب على المراقبين الغربيين فهم اعتماد الصين مفهومي الشيوعية والرأسمالية معاً، ومن دون تناقض. وثمة تفسيرات جزئية للمسألة. فنشوء الجمهورية الشعبية في 1949 اعتُبر"تحرراً"من الاستعمار الغربي أكثر من انطلاقة لنظام اقتصادي فاشل. والحزب الشيوعي الصيني له اليد الطولى في التحرر هذا. وكان موقف الصين من علم الاقتصاد عملياً، فهو وسيلة للتفرق بين ما يصح وما لا يصح. فخالفت الصين الشيوعية الغرب الذي فصل بين طبيعة النظام الاقتصادي وبين طبيعة الدولة. وأتاح الفصل للصينيين محاسبة ماو على أخطائه الاقتصادية، من دون أن يشككوا في شرعية حكمه. ولا شك في أن في الصين نازعاً الى تمجيد ماو وصرف النظر عن جرائمه. والليبراليون أنفسهم في الصين يفرّقون بينه وبين هتلر وستالين. وترعى دوام الايديولوجيا الرسمية سمتان تطبعان التفكير الصيني. الأولى هي توجيه الكونفوشية عقيدة كونفوشيوس الى احتضان فضائل الحاكم ورعايتها، بدل السعي في الحد من سلطته والدعوة اليه. وتحاكي الصين، من هذا الباب، مثال أفلاطون عن الملك الفيلسوف، وليس النظام الدستوري الغربي. والسمة الثانية هي العقيدة التاوية ومقالتها في ثنائية الطبيعة النور والظلام، فتفاعلهما، وليس تناقضهما، يحفظ التناغم. وكيف تؤثر التجربة الصينية في بقية بلدان العالم؟ لا تزال الصين"مصنع العالم". أو مشغله ومانيفاتورته. ومحرك النهوض هو استغلال رخص اليد العاملة في تحصيل كسب سريع. فأهمل الصينيون عامل الابتكار في التكنولوجيا التقانة، وقدموا النسخ أو الاستنساخ عليه. ويزعم محللون أميركيون أن هذه الحال عابرة، وتوشك أن تتغير. فالعلم والصناعة مترابطان، ولا مفر للعقل من أن يتبع القوة، وإلا لا فائدة من تعاونهما وتناغمهما. والمؤسسات والشركات الكبيرة التي تنقل فروعها الى الشرق، أي الى الصين، تنقل أقسام البحث والتطوير الملازمة للتصنيع، وتنشر تقانتها في المصانع الصينية. وتتعاون الصين مع شركاء غربيين في سبيل الحصول على التكنولوجيا الغربية، وتصر على تقاسم الملكية الفكرية مع الشركاء. وهذا يخفف عن كاهلها أعباء تكاليف التطوير. وفي 2003، أصيبت شركة"جنرال موتورز"بصدمة عندما علمت بسيارة عائلية صغيرة تصنع في الصين، ثمنها 6 آلاف دولار، هي نسخة عن سيارة كانت الشركة على وشك الإعلان عنها. وانكماش أسعار السيارات ينجم عنه انكماش أنظمة اقتصادية برمتها، ويؤدي الى بطالة ملايين العمال. وقد يؤدي تفاقم الظاهرة الى تجويف قدرة الدول الصناعية على التصنيع. فالولاياتالمتحدة عهدت الى الشركة الهولندية"دي بووير"بدفن ضحايا الإعصار"كاترينا". وقد تشق التكنولوجيا البيولوجية الحيوية طريقها الى الصين، خصوصاً في حقل خلايا المنشأ الجنينية الذي تعوق بعض البلدان الغربية عنه"موانع أخلاقية". وتعتزم الصين إطلاق أول صاروخ لها الى الفضاء الخارجي، في عام 2007، وتتوقع انجاز أولى طائراتها التجارية الكبيرة في 2018. ويبلغ عدد المهندسين الذين يتخرجون من جامعات الصين أربعة أضعاف عدد خريجي معاهد الهندسة في الولاياتالمتحدة. ولا سبيل، والحق يقال، الى تقييد انتشار التكنولوجيا. وربما في الإمكان حماية براءات الاختراع، ولكن كيف السبيل الى الحؤول دون نقل مرافق البحث والتطوير ومختبراتهما؟ ونظير"ثمن الصين"الباهظ هذا، قد لا يكون في وسع الولاياتالمتحدة إلا إحياء"المركّب العسكري ? الصناعي"الذي حذر منه الرئيس الأميركي أيزنهاور في نهاية الخمسينات. وليس الجواب الناجع قطعاً هو بالسياسة الليبرالية، ولا المسار الديموقراطي الاجتماعي الذي يؤيدها ويدعمها. وربما سعت الولاياتالمتحدة الى الحفاظ على أسبقيتها في التصنيع من طريق بعث"الكينيزية العسكرية"التي رعت ريادتها التكنولوجية إبان الحرب الباردة. ومن هذا المنظار، يرمي"المبدأ الاستراتيجي الجديد"لبوش، القائل بالتفوق العسكري المطلق، الى تفصيل السياسة الأميركية ليس على مقاس خطر الإرهاب، بل على قياس خطر الصين على الصناعة الأميركية. وقد تستعاد سياسة الحماية لدواعي الأمن، إلا ان استراتيجية كهذه تفترض وجود عدو أقوى بكثير من أسامة بن لادن وفرقه الانتحارية. ومحاولة إحياء"المركب العسكري - الصناعي"تهدد بعودة سباق التسلّح مع الصين - ومع روسيا كذلك. وقد يشكّل هذا تتويجاً رهيباً لحقبة العولمة وهو تتويج جائز. عن روبرت سكيدلسكي من جامعة وارويك البريطانية، ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس الأميركية. 12/2005