منذ الساعات الأولى من صباح الرابع عشر من شهر شباط فبراير عام 2001 كان البحرينيون، رجالاً ونساء، يتقاطرون إلى مختلف مراكز التصويت في البلاد، بعد توقف عن مثل هذه الممارسة الانتخابية استمر لحوالي ربع قرن، هذا بالنسبة للرجال. أما نساء البحرين فإنها المرة الأولى لهن منذ أن كانت جدّاتهن يصوتن في أول انتخابات بلدية في منطقة الخليج خلال عشرينات القرن المنصرم. غير أن التصويت هذه المرة كان على ما هو أهم من الشؤون البلدية. فقد كان المطروح على الاستفتاء الشعبي العام مشروع"ميثاق العمل الوطني"الذي يمثل صيغة تعاقدية متجددة لعودة الحياة الدستورية والديموقراطية في ظل مؤسسة برلمانية بمجلسين، استفادةً من التجارب المستجدة للنماذج العالمية في هذا الحقل وضماناً لسير التجربة المتجددة في البحرين، في ضوء دروس الماضي القريب الذي كنا على ثقة من إننا سنستفيد منها عندما تحين اللحظة المناسبة. عندما أصدرنا كتاب"الضوء الأول" في عام 1986م أشرنا إلى تجربة البحرين:"لاختيار نظام سياسي للمشاركة في اتخاذ القرار، فخرجت منها بدستور أقره مجلس وطني قائم على مبدأي الانتخاب والتعيين 1973. ثم مرت البحرين بتجربة برلمانية استفادت منها، وسوف تستفيد منها كذلك لمستقبل نظامها السياسي في المشاركة والشورى ........"صفحة 113. ويسعدنا إننا بدأنا في تحقيق هذا الوعد وإنجاز هذا التطلع بعد 15 عاماً من تاريخه مع طرح مشروع"الميثاق"على الاستفتاء الشعبي العام في البلاد، رغم المحاذير التي كانت تتردد، ونشوء جيل بحريني جديد لا خبرة له في التقاليد الانتخابية. والواقع أني اعتمدت أولاً وأخيراً على الله سبحانه، ثم على ثقتي بوعي شعب البحرين وتحضره ونضجه السياسي، واتخذت شخصياً قرار المسؤولية التاريخية بإجراء هذا الاستفتاء الحر للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة، وهو استفتاء لا سابق له في تاريخنا السياسي، ظلت التوقعات المترددة والمتخوفة حياله متداولة حتى اللحظات الأخيرة لإجرائه. إلا أن جميع أجيال البحرين أثبتت في ذلك اليوم الربيعي المبكر من شباط فبراير 2001 إنها جديرة بالثقة، وإنها عند حسن الظن، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، يميناً ويساراً، وحتى المسنون والعجزة أصروا على ممارسة حقهم وواجبهم الديموقراطي من بيوتهم، وكان لهم ما أرادوا باتخاذ التدابير القانونية اللازمة، رغم إن قانون التصويت نص على حضور المشاركين إلى مراكز الاقتراع. وستبقى حية في وجداني صورة بعض امهاتنا من السيدات المسنات وهن يأتين على مقاعد متحركة إلى تلك المراكز، كما لن أنسى تلك المكالمة الصباحية التي جاءتني من شاعر البحرين الكبير الأستاذ إبراهيم العريض، رحمه الله، الذي أبدى رغبته في التصويت على الميثاق من منزله لصعوبة تحركه صحياً، وقد كان إبراهيم العريض رئيس المجلس التأسيسي الذي وضع مشروع الدستور غداة الاستقلال ولمست في كلماته مدى التفاؤل والفرح بتجدد الحياة الدستورية في البحرين. وما أن جاء مساء ذلك اليوم حتى كانت أكبر كتلة انتخابية بين بلدان الخليج العربي وهي الكتلة الانتخابية البحرينية قد شاركت في التصويت، بانضباط متحضر هو من خصائص شعب البحرين، وذلك من أجل تفعيل الدستور وعودة الحياة البرلمانية في المملكة بأغلبية ساحقة بلغت نسبة الموافقين فيها 4،98 في المئة وبمشاركة مختلف الأطياف السياسية، بعد أن اتيح للجميع مناقشة فكرة الميثاق في ندوات سياسية مفتوحة وصريحة هي الأولى من نوعها في البلاد منذ عقود، ومداولات لجنة صياغة مشروعه من كافة الشخصيات والفعاليات الوطنية، وذلك بعد أن تشاورت شخصياً مع ممثلي قطاعات المجتمع المدني البحريني بهذا الشأن، ولمست مدى الاستعداد الوطني للمشاركة في التجربة المتجددة، الأمر الذي مثّل ليس صيغة تعاقدية أشمل فحسب بعد كثافة التصويت الشعبي الشامل على الميثاق وإنما بيعة متجددة، وتفويضاً وطنياً لنا بقيادة المسيرة إلى آفاقها الجديدة. وليست هذه السلسلة من الأحاديث سيرة ذاتية أو مذكرات شخصية بقدر ما هي علامات ووقفات على طريق تكوين وعينا الوطني، على الصعيد الخاص والعام، باتجاه بلورة رؤيتنا السياسية التي أستند إليها مشروع الإصلاح والتحديث الشامل وكانت في صلب الأسس التي توافقنا عليها معاً والتي نتطلع إلى أن تدخل في صياغة مواد التربية الوطني أو ما يماثلها في مناهجنا التربوية. وأول علامة فارقة، بطبيعة الحال، هي الميلاد والنشأة الأولى. كان ذلك في منتصف القرن العشرين. وتاريخ الميلاد تحديداً هو 28 كانون الثاني يناير 1950. لم يكن زمناً سهلاً. كان مثقلاً بالأحداث الجسام والانعطافات الحادة. ولم يسمح بطفولة متريثة غافلة، بل أوجد لديّ وعياً مبكراً بحقائق الأشياء في سن مبكرة. وكانت أوساط العائلة كواحدة من أبرز العائلات القيادية التاريخية في خليجنا وعالمنا العربي تحمل ذاكرة مفعمة بالأحداث الحلوة والمرة، لم يكن أقلها من تلك الذكريات المرة كيف عمل الوجود الأجنبي على تقليص مقومات استقلال الوطن، وعمل باستمرار وعناد على"إبعاد"كبار القادة الذين تمسكوا بالاستقلال إلى خارج البلاد منذ القرن التاسع عشر مثلما أبعد معهم الوطنيين المخلصين الذين كانوا يعملون في سبيله، وبالتعاون مع الحكم الشرعي في وطنهم. هكذا تركت فكرة"الإبعاد"عن الوطن من قبل الأجنبي أعمق آثار الألم في النفس منذ الطفولة، وقد تعمقّ لدينا هذا الألم شخصياً وإنسانياً عندما أدركنا في سن مبكرة أيضاً أن جدنا من ناحية الأم الشيخ سلمان بن إبراهيم آل خليفة تم نفيه كذلك من البحرين إلى قطر حيث ولدت الوالدة الكريمة هناك بعيداً عن الأسرة وشمل الأهل، مما غرس في النفس البذرة القوية للنفور من إجراءات الإبعاد، والتي لم يماثلها قوة لدينا ويخفف من آثارها غير الفرح والارتياح الناجم عن عودة كل مبعد إلى وطنه. وعندما حانت لحظة القرار بتولينا المسؤولية الأولى في البلاد، كان من أول ما بادرنا إليه عودة جميع المبتعدين البحرينيين سياسياً إلى بلدهم وأهلهم، أياً كانت الاعتبارات والملابسات السياسية والقانونية التي أدت إلى ابتعادهم في ظل مبدأ وقانون العفو العام. إذ سيبقى من أجمل ما قيل في أدب الأوطان:"الوطن... هو هذه العودة المنتظرة... بعد الاغتراب". ويقيني أن حرصي على تقليص أيام بعدي عن البحرين في الخارج في أي سفرة أو إجازة، مرده هذا الشعور العميق الذي تأصل في النفس منذ الطفولة. كان قرارنا هذا بانفتاح صدر الوطن لكل أبنائه بلا استثناء، أملاً عزيزاً راودنا منذ عهد الصبا، ومبادرة لتصحيح مسار تاريخنا الوطني. ونحمد الله أن وفقنا إليه، فقد كان أيضاً حلماً راود الآباء والأجداد الذين أوصونا باتخاذه في اللحظة المناسبة بالأخص والد الجميع المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه وذلك بعد أن حققوا هم هدف الصمود على أرض الوطن يداً بيد مع أبناء شعبهم، بالصبر والحكمة والاحتمال الطويل للتدخلات والضغوط الأجنبية. وللتاريخ ، فإن القوة الأجنبية التي هيمنت على البحرين والخليج جاءت لمصالحها الحيوية، لكن بعض ممثليها عملوا على تطوير الإدارة المحلية وإرساء الأمن في المنطقة الذي استفادت منه شعوبها أيضاً في التعليم والتنمية والانفتاح على العصر. وقد أبدى أسلافنا حكمة تاريخية بالغة في التعامل مع هذه القوى من باب مرونتهم العربية والإسلامية في الانفتاح على الحضارات الأخرى. وذلك ما ساعد بلادنا على أن تكون اليوم نموذجاً للتعايش. وكان منتصف القرن العشرين 1950 لدقته وحساسيته قد جمع للمفارقة، في الداخل والخارج، بين أروع الأوقات وأصعبها. فمن ناحية كان زمناً رائعاً حمل التطلع إلى التحرر والبناء ومواصلة التنمية والنهضة التي كانت البحرين رائدتها في هذا الجزء من الوطن العربي والعالم. لكنه كان، من ناحية أخرى، مشوباً بالصراعات السياسية والتقلبات المفاجئة والبدائل الايدولوجية المتضادة. كان زمن"الحرب الباردة" بامتياز كما اصطلح كبار العالم على تسميته. وسرعان ما كانت هذه الحرب تلد حروباً ساخنة على امتداد عالمنا من فلسطين إلى كوريا. عندما كنت أعود إلى عام الميلاد 1950 بعد تنامي الوعي المبكر بالأحداث، كنت أجد العالم قد شهد أول ضربة نووية في اليابان قبل خمس سنوات من تاريخه 1945... مع استمرار السباق النووي الذي يكاد اليوم أن يصل إلى داخل حوض الخليج، وقبل سنتين من ذلك التاريخ 1948 كانت نكبة فلسطين بكل أبعادها على العرب وشعوب المنطقة ومازالت جرحاً مفتوحاً. لكني كنت أجد في الوقت ذاته أن جامعة الدول العربية قد تأسست أيضاً قبل خمس سنوات 1945 أملاً في تعاون عربي أوثق، وأن شرعة حقوق الإنسان قد أعلنتها هيئة الأممالمتحدة قبل سنتين 1948، بما يجدد الأمل في مستقبل إنساني أفضل وما باشرنا بترسيخه وتعزيزه على أرض البحرين. وعلى صعيد البحرين الداخلي كانت حركة التنمية الشاملة تكتسب زخماً متزايداً بقيادة المغفور له الجد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، بعد نجاح المشروع التربوي الرائد منذ تأسيس مدرسة الهداية الخليفية ونظائرها من مدارس البحرين الحديثة في عشرينات القرن المنصرم، يداً بيد مع مشروع تحديث الدولة والإدارة في عهد المغفور له الجد الأكبر الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، حيث استفادت البلاد من فترة الاستقرار السياسي والأمني طوال عهد المغفور له، جد الجميع، الشيخ عيسى بن علي مؤسس البحرين الحديثة، الذي قاوم الهيمنة الأجنبية بإصرار، واستطاع بالتعاون مع أبناء شعبه إفشال المخطط الاستعماري لجعل البحرين مستعمرة. وإن يكن في النهاية قد تحمل نتيجة هذا الموقف المشرف، علماً أنه قد بدأ حكمه ببيعة مجمع عليها شارك فيها أهل الحل والعقد في البحرين وتعرفها القوة المسيطرة جيداً. هذا ومنذ الخمسينات التي تعيها ذاكرة الصبا ووعيه المبكر، والبلاد تشهد أعداداً متزايداً من المتعلمين والمهنيين والكوادر القيادية الشابة من أبناء البحرين وبناتها، والتي بدأت تتخرج من مختلف جامعات العالم طبقاً لسياسية الانفتاح التعليمي التي نهجتها البحرين من البداية، وكان من الطبيعي أن تترافق تطلعات التنمية التعليمية والاجتماعية والاقتصادية الآخذة في التحقق، مع تطلعات التنمية السياسية التي نعمل اليوم على استكمالها في ظل مؤسساتنا الدستورية. هكذا، منذ وقت مبكر، كنت على موعد مع تطلعات الوعي الوطني في استكمال الاستقلال والشروع في حياة المشاركة والشورى واستطعت أن أتلمس الكثير من دروس تجاربنا السياسية قريبها وبعيدها، ولا بد من الإشارة هنا إلى أني أعدت التأكيد مراراً في الأحاديث الموجهة إلى المواطنين، وفي أكثر من مناسبة، إلى أنه"لا عودة الى الماضي"وان"عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء". قصدت بذلك إلى إنه لا بد من وضع الضمانات، واتخاذ ما يلزم من احتياط، لعدم عودة الوطن إلى تلك التجارب المرة والطرق المسدودة التي أعاقت المسيرة، وأبعدت البحرين عن ريادتها ومسارها التطوري والتقدمي الذي تميزت به بين دول المنطقة منذ مطلع النهضة. جاء"ميثاق العمل الوطني"ثم بنود"الدستور المعدّل"الذي صدر بناءً على التعاقد المتجدد والتفويض الشعبي المتمثل في الاستفتاء العام على مشروع"الميثاق"، بمثابة الضمانات والضوابط التي فكرت فيها ملياً لسنوات في سبيل تجديد المسيرة الديموقراطية والدستورية مع تجنب عثرات الطريق التي واجهت التجربة الأولى، ولا بد للشعوب الذكية أن تستفيد من تجاربها كي لا تعيد أخطاءها، وثقتي أن شعب البحرين هو واحد من هذه الشعوب. آملاً أن تترسخ من خلال هذه الأحاديث دروس التجارب التي مررنا بها، وذلك لصالح المسيرة المتجددة وإثراءً للمكتبة الوطنية في البحرين التي نثق بغناها وعمق تجربتها واكتمال رشدها السياسي، مع التطلع، في الوقت ذاته، إلى ما يمكن أن تضيفه العقول الوطنية في البلاد من إضافات تنير المسيرة، راجين أن يكون في هذه الأحاديث التي أردناها عفو الخاطر ومن القلب ما يفتح المجال لمثل هذه الإضافات والحوارات المتجددة، والله من وراء القصد.