"تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة وولاتها الفخام"هو عنوان سفر قيم قام بتحقيقه فضيلة الشيخ الدكتور عبدالملك بن دهيش وهو الرجل الذي لم يمنعه حظ الدنيا من اغتنام الحظّ الأوفر للآخرة حين جعل للعلم وأهله نصيباً من وقته وجهده ما جعل له ذكراً في الآخرين، وترك له علماً ينتفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم. وليس هذا غريباً على فضيلة الشيخ العالم الدكتور عبدالملك بن دهيش، فهو قد نشأ في بيت علم ودين فوالده الشيخ عبدالله بن دهيش رحمه الله كان أحد كبار القضاة في مكةالمكرمة وكان يسكن بحي المعابده وقد كنا نحن نسكن بالحي نفسه وقد تزاملت مع أحد إخوانه في المدرسة المحمدية الابتدائية ومدرسة عبدالله بين الزبير المتوسطة... وكان الشيخ عبدالملك بن دهيش واخوته من خيرة شباب الأمة أدباً وعلماً وتقوى نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً. إذ أن أعظم ما تركه لهم والدهم من إرث هو الشغف بالعلم والدرس والتحصيل حتى كان لكل منهم بصمته العلمية التي أكدت حضوره الإنساني في شتى المجالات. سعدت كثيراً بقراءتي لهذا السفر القيم واستزدت فائدة وعلماً بما حمله في صفحاته عن تاريخ مكة لحقبة من الزمان حين قام بتحقيق هذا المخطوط لمؤلفه الشيخ محمد بن أحمد بن صالح بن محمد المالكي المكي المعروف بالصباغ والذي طبعه المحقق على نفقته جزاه الله خيراً في طبعته الأولى عام 1424ه - 2005 م توزعه مكتبة الأسدي، مكة. ولمسنا ما وجده من عناءٍ ومشقةٍ في سبيل بحثه عن الحقيقة وفتح نافذة تضيء تاريخ الإنسان وتتواصل مع لغة الأفكار حتى تحقيق الغاية من التواصل والسبيل الى سبر أغوار العلم من خلال البحث في أُمهات الكتب والرجوع الى المتون والأسانيد بل الذهاب الى نقد الرؤية الفكرية بما يتفق وطبائع الخلق الكريم... وهذا المؤلف الذي يقع في مجلدين يحتويان على 1074 صفحة قسمها المحقق الباحث بحسب ما أشار اليه في تقديمه الى مقدمة وستة مباحث وخاتمة، الثلاثة المباحث الأولى خصصها للدراسة أما المباحث الثلاثة الأخرى فهي خاصة بالتحقيق، ففي المقدمة تكلم عن مقاصد البحث في كتاب"تحصيل المرام"وفي المبحث الأول ذكر فيه ترجمة المؤلف"اسمه، مولده، أصله، شيوخه، حياته العلمية، مؤلفاته، وفاته". المبحث الثاني ذكر فيه التّعريف بكتاب تحصيل المرام وأهميته، الفترة الزمنية التي يغطّيها هذا الكتاب، تاريخ تأليفه، منهج المؤلف فيه، التحقق من اسمه ونسبته الى المؤلف. المبحث الثالث: وفيه موارد الصباغ في كتابه تحصيل المرام. المبحث الرابع: ذكر فيه منهج العمل في التحقيق. المبحث الخامس: ذكر فيه التعريف بالنُسخ الخطية لكتاب"تحصيل المرام". وأخيراً ذيل الكتاب بفهارس عامة تعين المراجع على الوصول الى بغيته بسهولة تتضمن - فهارس الآيات القرآنية - والأحاديث النبوية والأعلام والأماكن والأقوام، والشعر، والمهن، والمصطلحات الحضارية والصور التوضيحية والموضوعات وأخيراً فهرس المصادر والمراجع. هذا ما جاء في المقدمة التي عرضها المؤلف. ولقد وجدت من خلال قراءتي لهذا الكتاب أنه أبرز حقائق ورؤى كانت خافية حتى قيّض الله لها فضيلة الشيخ لنشرها بهذا الدأب وهذا الجهد المتواصل الذي يصعب على كثير من أصحاب التخصصات العلمية... وان ذلك ليؤكد القدرة والقدر للأعمال الفكرية الجادة التي تعنى باستخلاص الحقائق من التاريخ خالصة لوجه العلم وطلاّبه... بعيداً من أغراض المسِّ بطهارة النفوس وكرامتها أو التعريض بأهل العلم مهما اختلفت مشاربهم وتوجهاتهم المذهبية والأخلاقية فكان الهدف أبلغ بالتأثير والأثر أصدق بالنقل... وبساطة لغة الطرح فكان أسلوب الكتابين سهلاً في غير ضعف وجريئاً في تتبع عورات الكلام والمعاني ليعيدها الى الخلق العلمي البحت بما يخدم العلم لا ما يؤدي الى خدش كرامة الاجتهادات الإنسانية المتعاقبة بما تحمله الظنون والشكوك والقاء التهم لأن ذلك سيؤدي الى جفوة أهل العلم وبغض الأشياع والمنتمين والمريدين والمتحاملين والكارهين لتقويض مساحات العقول الباحثة أو احباطها واشاعة الفرقى بين الأعراق والأصول وتنكب الطرق بضلالات العقول وتعمية القلوب والأبصار عن الوصول الى الهدف الأسمى من خلق الإنسان ألا وهو البحث عن خيرية الحياة وخيرية البشر. والمحقق جعل في مادة المخطوط حياة للحروف والمعاني التي اشتمل عليها الكتاب... وأضاف ما يجعل لقيمة البحث شخصية تضاف الى جهد المحقق عبر المداخلات النقدية. بما لا يعيب البحث بل ربما يحمل على بعد رؤى المحقق في أن ينهج منهج السلف الذين تبرؤا من دافع النظرة الواحدة الى الأشياء فتوسع من دون حشو أو إطالة كما أنه أفاد بالشروحات المكتوبة بهوامش الكتاب في التوثيق والشرح الذي يترك للقارئ أيضاً المشاركة في التصور الزمني وما كانت عليه حال مكةالمكرمة في ذلك العصر... على أن مؤلف المخطوط وان أصاب كثيراً فهناك جوانب ألح عليها فيها شيء من طباع النفوس التي تختلف في النوازع والأغراض والأهواء لإصابة هدف نفسي يتعلق بالذات الإنسانية التي تشتعل فيها مواقد الرفض لما هو دخيل عليها حتى وان وافق الحقيقة وهي خليقة لا ينجو منها إلا ما آتاه الله قلباً وعقلاً يعي معنى الوجود... وضرورة التجانس بين الإنسان والإنسان. ثم ان المؤلف عني بأعلام مكة السابقين ومنهم من سكن وجاور ومنهم من وفد في زيارات لطلب العلم.... فقد كانت مكةالمكرمة... ولا زالت شمس المعارف وكثيراً من هؤلاء العلماء الوافدين على مكة على رغم ان بعضهم ليسوا عرباً إلا أنهم بحكم الإقامة... والزواج والتوالد أصبحوا يعدون من العرب إما بنسب اللغة العربية التي أتقنوها أو بنسب الإسلام الذي لا يفرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى. فقد كانت مكةالمكرمة حلقة الوصل ومركزاً مهماً لكل طالب علم كما قلت شعراً: منذ ابراهيم واسماعيل إذ/ شادا سنا البيت الإلهي المعلَّى مهد آبائي وأجدادي وقومي/ من بني جُرهُم قد طابت محلا ويبدو أن توافد العلماء على مكة فرض عين على المجاز لكل من أراد أن يكتبه التاريخ في صفحاته أولاً - وثانياً لتلاقح الأفكار فالبيئة المكية بيئة تخلق النضوج والإبداع والابتكار وهي منذ الأزل آية من آيات الإعجاز الذي سيَّر للزمان والمكان لغة العقل وشكّل نظام الكون بما ألهم الله أنبياءه من هدى وبصيرة حتى ولد البشير النذير... والرحمة المهداة للمؤمنين رسول العالمين... محمد بن عبدالله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم... وكان ما كان من أمر الدين حتى أزهق الله الباطل وأظهر الحق ببراهين السماء ومعجزات الخالق الذي يقوِّي بها رسله وأنبياءه وأصفياءه وأولياءه... هذه مكة التي توالت عليها الحقب أو توالت هي بالحقب فأثمرت عبر الأيام هذه الزنابق الفكرية... التي أرَّخت لتراثها... ولأرباب الشأن فيها وأصحاب الإمارة المتعاقبة عليها. وإنه مما لا شك فيه أن المؤلف الذي عاش في القرن الثالث عشر وهو من القاطنين بمكة بالوفادة اليها من مصر قد حقق هدفاً تاريخياً يؤصل الانتماء للدين والأرض بعيداً من الصراعات السياسية أو العرقية أو المذهبية عدا الصراعات النفسية التي تتفاعل من خلال نرجسية الأنا في بعض المواقف لتثبيت الهوية والشخصية الذاتية والعامة في روح القومية المتآلفة من قوميات شعبية في بعض الأحيان... وان كنا نأخذ بالمدلولات الإنسانية لجهة العلم ونحاول أن نخفي التطرف العرقي والمذهبي طالما أننا ننشد إذكاء روح المنافسة لا الهدم والإحباط على رغم أن الكثير ممن يصنعون التاريخ يتزيَّدون، ويرفعون ويسقطون ويبدلون حقائق التأريخ لتثبيت الهوية المفتعلة من الشعور الدوني باختلافات الأصول والهويات كما أنه مع تقادم السنين واصطناع لغة التاريخ جرى الدس للتاريخ المكي بما ينشئ ثقافة تنزع الى اختلاق الضدية بين الأعراق منشؤها الشعوبية البغيضة التي يذيبها البعض للانخراط في واقع ومعاش يعتقد من جانبه أنه يجب أن ينكر هويته كلياً وينسب نفسه الى سادات الأقوام ليحظى بالقبول وهو وهم أقامه بنفسه من شعر بدناءة قدره كإنسان مسلم لن يزيده انتسابه زيفاً، إلا بهتاناً خسراناً طالما يعلم أن جميعنا لآدم وآدم من تراب. وهذه من الأسباب التي دعت الى الهمز واللمز وأدت الى التفرق وأسست الى التمرد على طبيعة الأشياء في العصر الحالي... فتناكر أهل العلم وأربابه وعكفت القلوب والعقول على تبني الوهم بدل أن ينتهزوا دقائق الحياة لكي يضيئوا مشعلاً في دياجي العصر... فهل أنَّ العصور السابقة لعلمائنا الأوائل كانت تختلف؟ أم أننا نحن الذين اختلفنا في تواصلنا مع دوائر الثقافة وحجبنا الفكر وألحقنا بأنفسنا وصمة التخلف والجهل والاستكانة والتبعية، والسير على العلات بعفوية من دون العمل على تحليلها ومعرفة طبيعة أهدافها ودراسة نتائجها. * كاتب سعودي.