لم يكن من قبيل الصدف أن يختار المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في اسطنبول مقره في منطقة جيهانكير، في الشطر الغربي لعاصمة أباطرة بني عثمان على مدى خمسة قرون. يقع المبنى المتواضع ذو الطوابق الاربعة في زقاق Susam الراقي، مطلاً على مضيق البوسفور وبحر مرمرة الذي يشكل المدى التواصلي المنساب بين الشطرين البلقاني والأناضولي للعاصمة الإقتصادية الحالية لتركيا. هذه البوابة البحرية المفتوحة على مديات حضارية رحبة والتي تضرب جذورها في أعماق آسيا الوسطى، وتتباهى بجيرتها للغرب الأوروبي، تختصر وجوه الاستقطاب الثنائي الذي تعيشه تركيا اليوم. فمن جهة، ثمّة نزوع مطرد للأوربة الإقتصادية والجيوسياسية. ومن جهة أخرى، ثمّة تجدّد جاذبية للروح العثمانية التي تتخذ اليوم لبوساً إسلامياً جديداً. الألمان الذين عانوا طويلاً من مآسي تشطير بلادهم وتقسيم عاصمتهم، اختاروا نقطة التقاء آسيا الصغرى بالقارة القديمة، كي يؤكدوا حضورهم ويبرهنوا أهمية تلاقي الحضارات وتفاعلها على الصعد الجغرافية والجيوسياسية والثقافية واللسانية بالطبع. اسطنبول العثمانية التي تحتضن في جزئها الجنوبي 33 معلماً تراثياً شكلت أنموذجاً حياً للمجتمع التعددي الحقيقي حيث تتعايش مختلف الأعراق والأديان والشعوب والثقافات. فهي على سبيل المثال تضم 63 دار عبادة تعود لأبناء الديانات السماوية الثلاث. فإلى جانب 31 مسجداً تضفي مآذنها وقبابها على المدنية طابعاً إسلامياً، ثمّة 25 كنيسة تتوزع في أرجاء المدينة، غالبيتها تعود للجالية اليونانية 6، وبعضها للجالية الأرمنية 6. ويكتمل المشهد بالمعابد السبعة المخصصة للطائفة اليهودية. منظومة دور العبادة هذه تعكس، في شكل أو آخر، أجواء التآخي والتسامح التي عاشتها حاضرة بني عثمان. ونتمثّل ببعض هذه المعالم، الأروع والأجمل متحف أياصوفيا، توبقابي، جامع السليمانية مفخرة المهندس سنان، جامع السلطان أحمد.. التي تتجمع في الشطر الأوروبي للمدينة، أي في الأحياء العثمانية والبيزنطية. هذه الكنوز الثقافية المتألقة أتيحت لنا الفرصة للتمتع بمرآها من على شرفة المعهد الألماني الرحبة، والمطلة على البوسفور. شخصيتا السائح والمثقف ذي الأصول العربية الإسلامية تشدانِكَ للتملي من هذه الجوامع الحضارية والتاريخية. لكن بصرك السارح بين زرقة المياه ومعالم هذا العمران الذي يضجّ بحيوات الأفراد والجماعات، ويتناغم مع القباب المحلقة في السماء، لا يحول دون إعمالك البصيرة لتقدير العبقريات التي تقف خلف هذا الميراث الحضاري والإسلامي على حدّ سواء. مضيفك الألماني اللبق، البروفسورSchonig Claus، الشغوف بكل ما يمتّ إلى حضارة بني عثمان إبداعاً وثقافةً ولغةً، يستشعر عن قرب فضولك لاستقراء صفحات مطوية من تاريخ سلطنة غابرة أمجادها، حاضرة مآثرها. فيتشارك وإياك معلوماته العثمانية وينقل إليك"فيروس"هذه العدوى المحببة. يلفتك، وتلتفت إلى ذلك بنفسك، إلى أن عظمة الأماكن ورحابتها لا تتناقضان البتة مع الحداثة الجارية مفاعيلها على غير صعيد. فرجل الشارع الذي صادفناه في جادة الاستقلال، أو في فندق"جيهانكير"، أو في البازار، أو في مطعم شعبي، أو في متجر للملبوسات الجلدية... يعيش فصول هذه الثنائية. فهو كمواطن تركي يحمل تراثاً عرف بتوطيد الصلات مع الشعوب والثقافات الأخرى. إلى ذلك فهو متعلق إلى حدّ كبير بتقاليده وثقافته ودينه ولغته. وعلى رغم تبنيه التقنيات والفنون الغربية، لم يغير في العمق أسلوب تفكيره أو اتجاهاته السياسية والإيديولوجية. أيقونته القومية التي تتماهى مع صورة نظامه الجمهوري الحديث، وإصلاحاته على غير صعيد، تتمثل بلا شك برسم"أبي الاتراك"الذي يزين أماكن سكنه وعمله وكافة مبانيه الرسمية. لذا، تراه يجهد كي يعيش واقعه اليومي، ويتلاءم قدر إمكاناته مع المد التقني الجارف، ويتمتم بعباراتٍ وأدعية دينية. تساومه بإنكليزية أو بعربية، فيتجاوب معك بتركية مطعّمة بمقترضات من هاتين اللغتين. هذه الوجوه المتعددة التي يحياها يومياً تتآلف في شخصيته الواحدة المتكئة على تاريخ عريق والمستندة إلى بيئة جيوبوليتيكية تحتضن هذه المتغيرات وتؤالف بينها. بيد أن هذه التحولات التي تسنى لنا تلمس بعض مظاهرها لا تطال رجل الشارع فحسب. فالنخب تمتلك أيضاً رؤيتها لهذا الواقع، لا بل توليفتها لإعادة إحياء بعض المنقضي في ثوب تحديثي ومرن. وفي هذا الإطار، يعرف المشهد التركي ما يمكن أن يُسمّى تجدّد جاذبية"الروح العثمانية"التي تتخذ أكثر من مظهر في مجريات الحياة اليومية. فالممارسات المنتظمة التي ترتدي لبوساً إسلامياً، والتي يمكن للعين المحايدة - والغربية تحديداً - أن ترصدها، تسجلُ نزوعاً متنامياً لترويج وتطبيق ثقافة إسلامية تحديثية. معالم هذه"الثقافة"قد لا تفترض بالضرورة قيام تيار منظم ينادي بالعودة إلى الجذور، كما هي الحال في غير مجتمع إسلامي أو عربي. بل هي عبارة عن منظومة سلوكيات اجتماعية تستلهم تقاليد الأمس، من دون أن يعني ذلك بالضرورة الإقبال على تطبيق مبادئ الشريعة ضمن مفهوم طهوري معين. فما يجري على الساحة اليوم هو بمثابة تأطير لتوجهات الشرائح الاجتماعية الصاعدة في سعيها لتأكيد خصوصيتها، والتعبير عن ذاتها، والتميز في آن عن شريحتين أساسيتين: الجمهور المتدين من جهة، والنخب السياسية والإقتصادية المتأوربة من جهة أخرى. والمشهد الذي يتراءى للزائر يتمثل بانبعاثٍ ملحوظ، مفاجئ وانتقائي إلى حدٍ ما، لأسلوب عيشٍ شبه متكامل بمعالمه الأساسية وتعبيراته الإستعادية وتفاصيله اليومية. وما نعنيه أن ثمّة"عثمنة"تتخذ وجوهاً مختلفة وتشق طريقها في قلب المجتمع التركي، وتحديداً لدى بعض شرائحه الميسورة والمتدينة في آنٍ. وإذا صدقنا القول، فالمثقفون والنخب الاجتماعية هم في طليعة"المتعثمنين"الذين يسعون لإعادة إحياء عثمنة إنتقائية توافق روح العصر ولا تتناقض مع مبادئ الدين الحنيف، وتستجيب لارتقابات نخب صاعدة في السلم الإجتماعي. وتستوقفنا على سبيل المثال بعض الإعلانات التجارية التي تروّج لما بات يسمىIslamic Holidays"أي"عطل إسلامية"تنظم على شاطئ بحر إيجه حيث يخصص شاطئان للمستحمين: أحدهما للنساء وآخر للرجال. ومايوهات البحر، للجنسين، لا تخرج عن هذا النطاق. فثمّة موديلات تسمى "حشمة" وأخرى "شريعتي مايو". والأمر ينسحب أيضاً على ملابس الفرق الرياضية التي باتت أكثر محافظة. أما في أنقرة، فهناك من ينظم عروض أزياء إسلامية ناهيك عن رواج مساحيق التجميل الموجهة لشريحة النساء المسلمات والتي تتوزع إعلاناتها في الأماكن والمرافق العامة. مواكبة أحدث صرعات موضة الأزياء لا تتناقض البتة، في أخلاد وممارسات هذه الشريحة، مع طبيعتها المحافظة التي لا ترى حرجاً في هذه الثنائيات السلوكية. ظاهرة"العثمنة"توسعت لتشمل"موضة"تخصيص"غرفة عثمانية"ضمن غرف منازل الطبقة الموسرة وتأثيثها على الطراز العثماني. وثقافة الطعام تُستحضرُ بدورها في هذه المقاربة الانتروبولوجية. والكلام عنها، في اسطنبول، يغري القارئ والمتذوق على حدٍّ سواء، اذ أن أطايب"السفرة"المفردة عثمانية دخلت في إطار مقترضاتنا العربية التركية لا تقاوم. ولا ينأى عالم الكتب عن هذا النزوع المتنامي. فاقتناء الكتب والمراجع العثمانية، ذات التجليد الفني الفاخر، باتت سمة الطبقات الراقية التي تتنافس للحصول على كتب نوادر، باللغة العثمانية، وإبرازها ضمن مجموعاتها الخاصة. وجمع أصناف الكتب التراثية وأنواع العاديات والتحف والأثاث التي تعود لمختلف الحقب العثمانية بات موضة تذكّر مقتنيها بمنجزات أسلافهم وأجدادهم، وتربطهم بحبل سري حضاري هم أحوج ما يكونون إليه في واقعهم الجيوبوليتيكي المزدوج. صحيح أن"المتعثمنين الجدد"، الإسلاميي الهوى، المتوزعين في منطقة"جيهانكير"يعيشون وفق توجّهات إسلامية منفتحة، بعيداً من صرامة العادات والتقاليد العثمانية السالفة. إلا أنهم لا ينأون بسلوكياتهم المعيشية المرنة هذه عن أجواء التسامح الديني والوسطية والانفتاح التي شهدتها عاصمة السلطنة وحواضرها على مديات مختلفة. فالسمة الكوزموبوليتية لاسطنبول كانت بلا شك نتيجة تعدد الملل والنحل والشعوب والأعراق، وهي أسهمت من جهة في صعود السلطنة، ومن جهة أخرى في اندحارها وتحولها"رجلاً مريضاً"ومتهالكاً. وهذا الجانب السالف الذكر هو ما يلفت المراقب في سعيه لاستكمال ملامح المشهد التركي ولاستقراء تداعياته الحالية. وما تجدر ملاحظته أن"العثمنة"التي تنبعث لدى البعض، لا تحجب عودة الروح الانفتاحية وشبه العلمانية التي واكبت آخر أيام السلطنة، وتعززت بفعل الأعراق والقوميات التي سكنت جنباتها وأسهمت في تطوير مناحي اقتصادها مع الغرب المتعطش، يومها، لشبك علاقات اقتصادية مع هذه الامبراطورية. وغني عن التذكير أن الإحجام أو التقوقع التركي الذي جوبهت به نزوعات هذا الغرب سرعان ما تلقفته الجاليات الأجنبية. فكانت السباقة في لعب دور الوسيط التجاري ونجحت في ترسيخ وجودها على غير صعيد بفضل إمكاناتها التواصلية ومهاراتها اللغوية وحسها التجاري. من هنا، فالفضاء الفكري الاجتماعي الذي احتضن تنويعات الثقافات الأجنبية عموماً، والإنكليزية والفرنسية تحديداً، ارتبط بالاختلاط العرقي الديني الذي تجاور بين ظهراني الامبراطورية. فالفرنسيون والإنكليز، ومثلهم الأرمن واليونان، ناهيك عن الجالية اليهودية أوجدوا"بنى تحتية"ملائمة لتواجدهم، ومحفّزة لمختلف أنشطتهم. ونتمثل على ذلك بقطاع التعليم. ففي العام 1914، بلغ عدد المدارس العثمانية 36 ألفاً أغلبها صغير السعة ويندرج في إطار المدارس الابتدائية التقليدية. لكن تطور النظام التعليمي عموماً رُفد بنماذج عصرية عرفت من خلال مدارس الملل غير الإسلامية، حيث كان التعليم متقدماً عن صنوه في المدارس التركية التقليدية. وتبين الإحصاءات أن الجاليات غير المسلمة كانت تمتلك ما يقارب 3400 مدرسة. اليونانيون حلّوا في المرتبة الأولى 1800 مدرسة يليهم الأرمن 800 والمؤسسات التبشيرية الأميركية 675 فالكاثوليكية الفرنسية 500 فالإنكليزية 176. وبالعودة إلى الواقع الحالي، يتبين أن مظاهر الثقافات الاستهلاكية التي وجدت فيما خلى، تُستحضرُ اليوم مدارس، صحف، متاجر، مطاعم، مشارب.... ومظاهر هذا الحضور"الأممي"تنبعث لتؤكد على دور افتقدته اسنطبول وها هي تستعيده مجدداً. ولاستكمال أجزاء هذا المشهد المنقضي، نشير إلى أن المدينة عرفت منذ مطلع القرن العشرين تحركات ديموغرافية ملحوظة. اذ أدت السياسة الوطنية التي اتبعت بعد الحرب الكونية الأولى إلى هجرة اليهود والمسيحيين الروم والأرمن من جهة، والى استقدام أتراك الأناضول للحلول محلهم من جهة أخرى. لكن التزايد السكاني ما لبث أن عاد إلى وتيرته السابقة. فاستعادت العاصمة التجارية دورها الذي تعزز على الدوام بفضل تعددية سكانها، كما بفعل التقاطع المكاني الذي حظيت به بين بحر مرمرة والبحر الأسود، وبين آسيا الصغرى والبلقان. واليوم تستعاد هذه السمة الكوزموبولية من خلال حضور الجاليات الأجنبية، ومنها الجالية اليهودية اشكناز من روسيا وسافرديم من إسبانيا، وامتلاكها لصحيفة ناطقة بالتركية خصصت صفحة فيها تدون باللاتينية أو اللغة اليهودية - الإسبانية القديمة. اسطنبول التي تحتضن اليوم في نسيجها الاجتماعي مجموعات من القوقاز والأوزبك والقرقيز والأرمن، وتتوزع في منظومة مبانيها نماذج العمارة الإسلامية، لا تعدم أنماطاً أرمنية تصادف السائح، خصوصاً في مدخل شارع سيراسلفير، على مقربة من الكنيسة الأرثوذوكسية والسفارة البلجيكية. هذا التنوع المعماري يعكس بالطبع تعددية الأعراق التي تصنع الصورة الكوزموبوليتية لاسطنبول وتؤكد على اعتبارها بيئة حية ونشطة تتفاعل فيها مختلف الثقافات، المقيم منها والوافد، الشرقي منها والآسيوي أو الغربي، التقليدي منها والحديث. تدخل اسطنبول وتعايش أهلها، وتخالط بعضاً من جاليتها الأجنبية، تسير في طرقها، وتجاور روح التاريخ التي تعبق في مبانيها وأسواقها، تتذوق اطايبها، ترتاد مقاهيها ومطاعمها، وتزور معاهدها ومكتباتها، تحاول التقاط بعض كلماتها - المفاتيح لتيسير تواصلك اليومي... ولكنك في خطواتك هذه تستشعر أنك في حمى واحدة من المدن الكبرى التي تستحق بجدارةٍ لقب الكوزموبوليتية. تلك التي حملتها يوماً ما الاسكندرية، والتي سعت إليها بيروت ما قبل الحرب، والتي تعتبر باريس قبلتها وأنموذجها الأرقى والأصدق. لكن اسطنبول تتميز عن هذه المدن بكونها لا تزال تعبق بروح بني عثمان وتفاخر بمنجزات سلطنتهم التي تركت بصماتها واضحة على ثقافة شعوب المنطقة تحديداً وعلى التاريخ المعاصر عموماً. كاتب لبناني.