عندما تولى"ابو مازن"رئاسة الوزراء وقام بتشكيل حكومته، كتبت رسالة تمنيت ان تصله، ولكنه استعجل بالاستقالة، وأنا احتفظت برسالتي في ارشيفي الخاص. أذكر انه وعلى رغم الجدل الكبير الذي صاحب تعيين"ابو مازن"رئيساً للوزراء، كنت من المؤيدين لهذا التعيين، بمعنى تأييد استحداث المنصب، والبدء بخطوات عملية من اجل الوصول لنظام برلماني ديموقراطي. لم أعترض على ابي مازن الذي كان - في تلك اللحظة - متهماً حتى يثبت جدارته، وسلاحي في الدفاع كان اننا نتحدث عن تعيير مؤسسي، وعن وزارة لا انفراد في السلطة بها. اي ان ما يجب ان يحاكم لاحقاً هو الوزارة، وبرنامجها، وآليات تنفيذ البرنامج، وليس شخص رئيس الوزراء. المشاورات الأولى التي قام بها"ابو مازن"لتشكيل وزارته اثلجت صدورنا وارتفعت معها توقعاتنا. فاستمع لقطاعات مجتمعية مختلفة ووضعنا في اجواء تعد بديموقراطية"نسبية"ارتحنا لها. خرج القطاع الخاص بانطباع ان"أبا مازن"جاد في فعل الإصلاح، وأن الوزارة التي سيشكلها ستراعي اقتصاد السوق، وستأخذ في حسبانها السوق الفلسطيني الذي يحتضر. والأهم ان"أبا مازن"يبدو متفهماً لاحتياجات الجيل الشاب ومقدراً لإمكاناته. وهكذا كان انطباع ممثلي المجتمع المدني الذين ادلوا بدلوهم لرئيس الوزراء المعين - في ذلك الحين - وبثوه هموم الشارع وأهمية دمقرطة القرار الفلسطيني قبل دمقرطة المجتمع. وخرجوا فرحين بالرجل الجديد والجدي. في تلك اللحظة اخافني سقف التوقعات العالي الذي وضعه"المثقفون". وكتبت رسالتي التي لو لخصتها في سطر لكان:"إن كنت تريد ان تغامر مغامرة محسوبة فسنغامر معك وندعمك، اما ان اردت ان تقامر بقضيتنا ومستقبلنا، فلن نقبل وسنقف في وجهك". للأسف لم أرسل رسالتي. وللأسف ايضاً اخطأت في تقديري. فأبو مازن اثبت انه ليس مغامراً ولا مقامراً، جاء التشكيل الوزاري ليس محبطاً فقط، وإنما انتكاسة لكل من اعتقد ان هذه الوزارة ستكون الخطوة الأولى لإصلاح الوضع الفلسطيني: غيبت النساء مع الاعتذار للسيدة انتصار الوزير، وغيب الشباب على رغم ان السيد محمد دحلان حسب عليهم، وعاد وزراء يحملون ملفات فسادهم بأيديهم يلوحون بها في وجوهنا، نحن الشعب الذي لم يتسنّ له ان ينسى. وعادت الوجوه القديمة نفسها التي فاوضت ففشلت، وحاولت بناء وزارات وفشلت. فقد تمت مكافأة الفشل بإعطائه فرصة اخرى في حين ان الشعب لا فرصة ثانية تعطى له. وعلى رغم هذه الانتكاسة، قلنا لنعط"ابو مازن"فرصة! قد تكون لديه مبرراته، وسيفاجئنا بإنجازات مقبولة وليست خارقة بالطبع. فنحن ندرك ان الأمر يتعداه ويتعدانا جميعاً، ومع ذلك هي مغامرة، فلنغامر! وبالفعل فاجأنا"أبو مازن"، وقدم استقالته مقامراً بالآمال التي وضعناها عليه. فاجأنا بانسحابه من معركة دخلها ضعيفاً"معيناً". فهو ليس خياراً شعبياً، وشرعيته كانت قانونية وليست شعبية. اليوم يشبه الأمس تماماً ويتنكر له في الوقت ذاته. اليوم يتسلح"ابو مازن"بشرعية قانونية وشرعية شعبية، عبر الانتخاب النزيه والديموقراطي الذي مارسه الشعب الفلسطيني في التاسع من كانون الثاني لاختيار قائده، وإعطائه التفويض الذي يريد. ولكن هل يكفي التفويض القانوني والشعبي ليتسلح بهما"أبو مازن"، ويقود الشعب الفلسطيني من حال الدمار التي يرزح تحتها؟ هل كان الشعب الفلسطيني، والوضع الداخلي الفلسطيني، هما سبب الأزمة فيما وصلنا إليه؟ لا أضيف جديداً إن اجبت عن السؤال السابق بالقول: ان الوضع الداخلي كان جزءاً من الأزمة، ولكن الجزء الأكبر يتعلق بالطرف الآخر، وسياساته الممنهجة لتدمير الإرادة الفلسطينية والقدرة على الصمود، من جهة، ومن جهة اخرى تشويه القضية الفلسطينية وتحويلها الى قضية ارهاب يجب القضاء عليه ضمن الجهد الدولي لمحاربته. فهل سيغامر ابو مازن؟ وعلى اي صعيد سيغامر؟ لدى ابو مازن مهمات كبيرة وأولها ان عليه ان يقدم شهادتي حسن سير وسلوك. وهذه المرة، فهذه الشهادات ليست مطلوبة دولياً فقط، ولكنها مطلوبة محلياً ايضاً. فالشرعية الشعبية لا تعطى في شكل ابدي، إنما المدة زمنية محددة ومرتبطة بحسن السير والسلوك المحلي. شهادة حسن السلوك المحلية تحوي بنوداً ذكرها ابو مازن في برنامجه الانتخابي وهي الأمن والأمان هذه الجزئية التي عبر عنها بوعده بوقف"عسكرة"الانتفاضة. وبالخروج قليلاً عن هذا السياق، فليسمح لي كل من يستخدم كلمة"عسكرة"ورديفها الإنكليزي militarization ان علينا ان نستبدلها بمصطلح آخر، فهي تعني في شكل اساسي مشاركة اجهزة الأمن"العسكر"في المقاومة، وهو ما لا اعتقد اننا نعنيه، فنحن نعني اكثر المجموعات المسلحة التي في بعض الأحيان وبعض المواقع، قد تحولت لمجموعة"زعرنة"تفرض اتاوات او تعتدي على الأرواح والممتلكات ضمن المعارك الشخصية التي يقودها فرقاء لمصالحهم الشخصية. ولكن هذا ليس اهم بند من بنود الشهادة التي على ابو مازن تحصيلها. وإنما ما جاء في برنامجه الانتخابي - الذي سنحمله في كل حين لندقق فيه ونحاسبه عليه - في البندين التاسع والعاشر من البرنامج الانتخابي: ابو مازن يصر على الصدق الشديد على رغم ان ما يقال في الحملات الانتخابية هو نادراً امر ينفذه المرشحون حتى في تلك الديموقراطيات العظيمة. ابو مازن سيواصل ورشة الإصلاح الشامل، ولكن كيف؟ عبر التطوير، وتكريس مبادئ النزاهة وأسس المحاسبة. وذلك عبر اعتماد القوانين اللازمة لتعزيز الرقابة المالية والإدارية وإنجاز القوانين، الخ. هو لم يقل ابداً انه سيحاسب الفاسدين، ويقدمهم للقضاء، وبأضعف الإيمان ان يحرمهم من الامتيازات التي يتمتعون بها حالياً، او اقله عدم تقليدهم مناصب مهمة. انما قال:"وقف اية تجاوزات من مؤسسات السلطة وأجهزتها ومحاسبة المتجاوزين". وبالطبع التجاوزات قد لا تكون فساداً، بمعناه العام والمتعارف عليه"سوء استخدام المنصب العام". والأمر ينطبق على كل من القضاء والأمن، فالحديث يجرى عن طرح قوانين تنظم عمل الأجهزة لإقرارها من قبل المجلس التشريعي! الاستنتاج سيكون:"من دخل دار ابي سفيان فهو آمن". وقد يكون مدخلاً صحيحاً في ظل الميراث الصعب الذي تولاه ابو مازن. وقد يكون المدخل الأسوأ. فالمواطن الذي اعطى"ابا مازن"فرصة عبر صناديق الاقتراع، بحاجة لشهادة حسن سلوك عنوانها: محاسبة كل من تلاعب بالمال العام، اهدره او اساء استعماله واستعمال موقعه العام من جهة، وإعادة تقويم الأداء الحكومي، واستبدال كل من لم يثبت قدرته على إدارة موقعه بآخر يمكنه إدارة مواردنا الشحيحة. القوانين وحدها لا تكفي، الإرادة السياسية هي الأهم تليها القوانين المنصفة للفئات المهمشة والقدرة على تنفيذها عبر جهاز اداري قوي وعبر قضاء حقيقي يتساوى امامه المواطنون. ... تبدو شهادة حسن السلوك الداخلية كما لو انها برنامج انتخابي جديد او مكمل لبرنامج انتخابي، كتابته اسهل كثيراً من تطبيقه. ولكن شهادة حسن السير والسلوك هي انطباعات اكثر منها حقائق. ولخلق هذه الانطباعات هناك كثير من المؤشرات التي يمكن تقديمها للشعب التي سيعتبرها خطوات اولى على الطريق التصحيحي لا اقول الصحيح، وأولها ما بدأه ابو مازن في غزة من حوار داخلي مع فصائل منظمة التحرير وفصائل"الإسلام السياسي". وعلى رغم انني لست مطلعة على خبايا الحوار الجاري، إلا ان الأنظار تنصب نحوه، وكما هي عادة الغريق، نحمّل الحوار اعلى التوقعات ونتجادل حول الهدف منه، وثمنه الذي يجب ان يقدمه لنا الجانب الآخر، على رغم ان المسألة داخلية بحتة ومطلب فلسطيني اصيل قديم لم نتوقف عن المطالبة به. ابو مازن ملزم بتقديم رواية حقيقية حول ما يجرى في هذا الحوار. و"أبو مازن"ملزم بأن ينجح هذا الحوار ليس عبر إرضاء من لا يرضون، ولكن عبر فرض شخصيته وبيّنته ومنطقه الذي نجح عبر قوة التصويت التي مُنحت لخط منظمة التحرير وبرنامج العمل الوطني الذي تحمله. هذا الامتحان الأول، وشهادة حسن السلوك لن تكون من نصيب"أبو مازن"فقط، وإنما هي امتحان للفصائل، وشهادة حسن سير وسلوك لالتزامها بوحدانية السلطة. والأهم التزامها وقبولها للتفويض الذي منحها الشعب ل"أبي مازن"سواء كنا قد اعطيناه صوتنا ام حجبناه عنه. رام الله - وفاء عبدالرحمن