الحادث المفجع الأليم الذي تعرض له لبنان في استشهاد الرئيس رفيق الحريري هز ايضاً العالم العربي وشعوبه والدول الكبرى صاحبة صنع القرار الدولي، وكان تشييع الحريري واندفاع الشعب اللبناني على اختلاف أطيافه الدينية والسياسية وأحزابه ظاهرة سياسية كبيرة لم يعرفها لبنان منذ إعلان وجوده في هذه البقعة الحساسة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فقد وحد الحادث الشعب من المسلمين والمسيحيين في صف واحد. بكت الجماهير اللبنانية فقيدها الحريري، لأن هدف الرئيس الراحل كان إعادة لبنان إلى زهوه الذي فقده في سبعينات القرن الماضي، فكان تعبير الجماهير بأن الهدف الذي كان يسعى إليه صار بعد غيابه صعب التحقيق لأن شخصية الحريري لا يمكن تعويضها. والخوف سيطر على اللبنانيين من أن يتعرض لبنان لكارثة دموية جديدة شبيهة بحرب الإبادة في عقد السبعينات من القرن الماضي، إذ لم يعرف أحد في العالم العربي، بل ولا في العالم كله بمشرقه ومغربه مثيلاً لها في وحشيتها وفظاعتها. ولا أريد أن أذكر اللبنانيين بالمأساة الماضية، لأنني أعرف الكثير عن الفظائع التي شهدتها المدن اللبنانية، وكنت أقيم في بيروت وأصبحت شاهداً على المآسي. ولا يدري أحد حتى الآن أسماء الذين ارتكبوا جرائم فظيعة ومؤثرة عن سابق تصور وتصميم، فقيدت ضد مجهول، باستثناء اغتيال كامل مروة فقد شكل مجلس عدلي وأصدر أحكامه بحق المجرم وبعض من ساعده، ولكن لم تطاول التحقيقات رؤوس المؤامرة واستطاع القاتل أن يخرج من السجن بسبب الحرب الأهلية الدموية في العقد السابع من القرن الماضي وذهب دم فقيد الصحافة الكبير هدراً. والآن في حادث اغتيال الشهيد رفيق الحريري انقسم الشعب اللبناني بين معارض للسلطة وموال، وقد ثبت أن المعارضة حصلت على تأييد شعبي كبير، وان تشييع الحريري الذي شارك فيه مئات الالاف، خلا من وجود أية قوة أمنية في الشوارع التي سلكها موكب الجنازة من منطقة قريطم وحتى مثواه الأخير في مسجد محمد الأمين في ساحة الشهداء. لأن المعارضة استطاعت حماية هذا الموكب الذي لم يشهد لبنان مثيله في كل تاريخه. واستشهاد الرئيس الحريري يختلف كثيراً عن الحوادث اللبنانية الرئيسة السابقة، لأن الاستنكار أتى من الدول العربية والعالم خصوصاً فرنسا وسائر الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لأن الرئيس الحريري أقام علاقات وطيدة وموثقة مع زعماء العالم، وعرض أفكاره السلمية وحلمه في دور للبنان، لذلك أصبح شخصية دولية مميزة وكسب دعم الدول الصديقة لأن هدفه الأمن والاستقرار في المنطقة العربية ودعم القضية الفلسطينية وإقامة السلام العادل في الشرق الأوسط. الأسئلة كثيرة طرحت وخلاصتها: لماذا اغتيال الرئيس رفيق الحريري في هذه الظروف التي يعيشها العالم العربي ولبنان، ومن هو المستفيد من تصفية تلك الشخصية الوطنية العربية وغيابها عن أحداث المنطقة؟ والجواب واضح كالشمس هو أنه في حال تحقق حلم الرئيس الحريري في تحقيق السلام العادل الذي سيشمل لبنان والمنطقة العربية فإن العناصر الإرهابية ستقطع أرزاقها وستبعد من الوجود ويمنع تدخلها في شؤون العالم العربي. ويشبه الاهتمام الفرنسي والأميركي الحالي بلبنان الاهتمام ذاته من الدولتين أيام الحرب اللبنانية الدموية في عقد السبعينات من القرن الماضي، وظهر التدخل الغربي في عهد الرئيس إلياس سركيس للخروج من الأزمة، وكان الفرنسيون البادئين في تبادل المذكرات بين باريسوواشنطن حول لبنان. وفي تلك المرحلة شهدت الرياض القمة السداسية لتسوية أزمة لبنان والحرص على مصيره وأبدت واشنطن استعدادها للمساهمة مع باريس وفرقاء آخرين في مشاريع إعمار لبنان. واعترف الرئيس جورج بوش أخيراً بأن الاهتمام بالوضع اللبناني كان بمبادرة من الرئيس جاك شيراك لذلك كان القرار 1559 الصادر من مجلس الأمن. ويعود اهتمام السعودية باغتيال الرئيس الحريري إلى أنه يحمل الجنسية السعودية، فهو ابن المملكة ومواطن صالح كما هو ابن لبنان لذلك تقف المملكة بجانب أسرته. وكانت سيرته في المملكة ناصعة إذ اعتمد الصدق في كل معاملاته ومشاريعه العملاقة التي حققها، ومن واجبي كشاهد على شخصية الحريري من خلال اللقاءات معه في الرياضوجدة وفي بيروت أن اسجل أن الذين عارضوه في سياسته التطويرية في لبنان، مزجوا مزجاً عجيباً بين الفكر والعمل السياسي، وبين الغاية والأسلوب، فاتهموا الحريري بأنه تولى رئاسة الوزارة طمعاً في زيادة ثروته، وتناسوا ما صرف من ثروته التي جمعها من السعودية وبجهده الكبير وبعرق جبينه في سبيل صداقات العالمين العربي والدولي من خلال رحلاته المكوكية في كل القارات لهدف واحد هو دعم القيادات العالمية للبنان، وفي سبيل إعمار ما هدمته الحرب الدموية ولتجديد بناء المنطقة التجارية المنكوبة بسبب صراعات المليشيات. وهنا أكشف ما لا يعرفه إلا القليل من معارف الحريري ومعارضيه، أنه عندما جاء إلى السعودية لم يكن من عائلة غنية وجاء ليكسب بعمله الشريف ولكنه كان طموحاً، فبعدما تقبل بكل تواضع الأعمال الصغيرة أقام علاقات وطيدة مع شخصيات مالية وتجارية، ووثق به الجميع بسبب نظافته في العمل فكان له ما يريد من طموحات شريفة، وكان هادئاً في كل تصرفاته ولم يشاهده أحد بوجه عبوس، ومنحه الملك خالد بن عبدالعزيز الجنسية السعودية. وكان أول عمل عهد به للحريري تنفيذ فندق في مدينة الطائف ليعقد فيه مؤتمر القمة الإسلامية الثالثة الذي افتتح في البيت العتيق في مكةالمكرمة، وانتقل قادة العالم الإسلامي إلى الطائف لعقد الجلسات. وطلبت القيادة السعودية من الحريري إقامة الفندق في غضون ستة أشهر فقبل الشروط ونفذ العمل في وقته المعين. وكانت الورشات تعمل 24 ساعة من دون انقطاع، وهكذا كانت كل المشاريع التي تعطى للحريري بصفته صاحب شركة"سعودي أوجيه"، تنفذ بالطريقة التي نفذ بها فندق الطائف لذلك اكتسب الحريري الثقة. وبسبب الأوضاع غير المستقرة في لبنان قرر خادم الحرمين الشريفين أن تقوم السعودية بدور حمامة السلام بين السياسيين في لبنان لإنهاء الخلافات بالاتفاق بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس حافظ الأسد الذي بارك هذه الخطوة لإجراء مصالحة شاملة بين اللبنانيين وأن تدعو القيادة السعودية أصحاب العلاقة لعقد مؤتمر في الطائف. واختار خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رفيق الحريري ليتولى المهمة الصعبة ويضع الأسس لهذا اللقاء الأخوي واختيار أعضاء مؤتمر الطائف. قام الحريري بهذه المهمة بتوجيه الملك فهد وحرص على أن لا يفشل فتحقق له النجاح وتم جمع شمل كل أطياف السياسة وتم الاتفاق على ميثاق الطائف. وبعد النجاح فكر في أن يعود إلى وطنه ليعمل في الحقل السياسي، وسلك سياسة الاعتدال، وعمل على أن تكون الحكومات اللبنانية وليدة الرغبة الشعبية. اغتيل الرئيس الحريري بسبب سياساته المتوازنة والمعتدلة حتى لا يتحقق للبنان الاستقرار والسيادة، فهل كان حادث الاغتيال بهدف دفن ميثاق الطائف كما يحلم البعض في لبنان؟ ولكن، أخطأ من يعتقد أن ميثاق الطائف قد انتهى، بل هو الأساس في حل الأزمة اللبنانية وباعتراف كل الأطراف في لبنان. وأسجل في النهاية قول شاعر العربية بدوي الجبل عن ماضي رجال الوطنية والإخلاص في عالمنا العربي: "أين أين الرعيل من أهل بدر طوي الفتح واستبيح الرعيل" وفي الاحتفال الذي أقيم في بيروت بمناسبة مرور السنة الأولى على اغتيال الرئيس رياض الصلح في عمان ألقى بدوي الجبل قصيدة نيفت على المئة وعشرة أبيات وهي تنطبق على الرئيس رفيق الحريري اذ قال: هتف الهاتفون: أين رياض فانتخى في الثرى حسام ثقيل من رآه يخر في فجأة الغدر رأى الراسيات كيف تميل في البيت الأول قال البدوي أين رياض؟ وهنا نقول أين رفيق؟ * كاتب وصحافي سعودي.