بدأت الصين الشعبية مطلع ثمانينات القرن الماضي دفع القطاع الخاص ليأخذ موقعاً محركاً في الاقتصاد. حينها كان"أغنياء"الصين هم أصحاب البقالات يليهم أصحاب سيارات الأجرة! وبعد ذلك بدأ عدد من رجال الأعمال الصغار يأخذون حيزاً صغيراً في عالم التجارة، ومن ثم تدرّجوا في الغنى شيئاً فشيئاً ليصبحوا قوة كبيرة فاعلة تعتمد عليها الحكومة الصينية في دفع اقتصاد اكبر دولة صوب الرأسمالية بعدما كان الرأسماليون يدانون باعتبارهم مخربين وأعداءً للوطن خلال الخمسينات والستينات والسبعينات. وفي نهاية التسعينات، أصبحت الصين تختلف كلياً عن الصين في الثمانينات، لجهة إعطاء الحرية لشركات القطاع الخاص مع هامش كبير في الحركة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية على نحو كبير. وبذلك أصبحت مدينة شنغن المتاخمة لهونغ كونغ ملاذاً لهؤلاء المستثمرين الأجانب، وتغيّر مفهوم الشركات الحكومية للاستيراد والتصدير التي كانت تقوم مقام الأقسام التجارية للمصانع الحكومية حيث ضعفت يوماً بعد يوم حتى أضحى قسم كبير منها يعاني مشكلة في إمكان البقاء في السوق بعدما بدأت المصانع الخاصة والشركات التجارية الصينية العمل بطريقة تتواءم والمعاملات التجارية الدولية في تسويق المنتجات الصينية. وتحسّنت نوعية المنتجات الصينية كثيراً هي الأخرى، وبقيت مستويات أسعارها الأحسن في العالم، منافسة الجميع بحيث أثر ذلك في القطاعات الصناعية في دول كبرى مثل الولاياتالمتحدة وكندا وأوروبا، إضافة إلى دول العالم الثالث، كما أن هذه الشركات بدأت تفتح فروعاً لها في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وأستراليا. ومنذ مطلع القرن الجاري، خطت الصين خطوات نوعية في كل المجالات، فبنيتها التحتية في الكثير من المدن مثل بكين وشنغهاي وشنغن وغوانجو أصبحت تضاهي مثيلاتها في أميركا وأوروبا، وغزت ناطحات السحاب أجواءها وأصبحت مطاراتها رائعة ونما القطاع الخاص كثيراً حتى أصبح قوة فاعلة في اقتصاد العالم، يحسب له كل حساب في النواحي التجارية. وحتى عندما يفكر أي مستثمر في الشروع في أي مشروع صناعي يحسب حساب الصين ومنتجاتها التي تغزو العالم كل يوم. ولترويج منتجاتها وخدماتها المختلفة، تنظم الصين عدداً من المعارض في أنحاء مدنها المختلفة كما تشارك في المعارض التجارية التي تقام في شتى أنحاء العالم. ومن أهم معارضها معرض كانتون الدولي الذي ينظم مرتين سنوياً في الربيع نيسان/أبريل وفي الخريف تشرين الأول/ أكتوبر، ولهذا المعرض مركزان للمعارض في مدينة غوانجو القريبة من هونغ كونغ. وفي تشرين الأول الماضي شاركت أكثر من 27 ألف شركة صينية في معرض كانتون وغطت كل شيء تقريباً. واللافت ان الشركات العارضة كان لديها على الأقل موظف أو اثنين يتكلمون اللغة الإنكليزية، وكانت نوعية منتجاتها تجعل المرء يرفع قبعته تحية لها ولمن يعمل خلفها، ناهيك عن الكتالوغات الملونة لهذه المنتجات المطبوعة على نحو فني جيد إن لم يكن ممتازاً. فمن الواضح أن الصين تتجه لتكون اليابان أو كوريا الثانية في المستقبل القريب لأنها لاعب قوي في الساحة الاقتصادية العالمية اليوم وستكون أقوى في السنوات القليلة المقبلة. وانتزعت الصين اليوم من الولاياتالمتحدة المرتبة الأولى عالمياً في استهلاك الحبوب واللحوم والفحم والصلب، بفضل عدد سكانها الذي يتجاوز بليون وربع بليون نسمة، والتقدم الاقتصادي الملحوظ في السنوات الأخيرة. وعلى رغم تضاعف استهلاك الصين من النفط، لا تزال الولاياتالمتحدة تفوق الصين في استهلاك النفط، كذلك ستكون الصين السوق الثانية في العالم بعد الولاياتالمتحدة في مجال السيارات في السنوات الثلاث المقبلة. وفي سياق التغييرات الجديدة في العالم يجب أن نشير إلى أنه منذ بداية هذه السنة، تم الاستغناء عن اتفاقية الحصص الممنوحة في تصدير الملابس والأقمشة التي كانت تصدر من دول العالم الثالث إلى أسواق أميركا وأوروبا ما سيجعل من الصين القوة الضاربة في هذا المجال. ويعتقد محللون اقتصاديون أن غالبية مصنعي الملابس والأقمشة في العالم سيعانون منافسة الصينيين لهم في تصدير منتجاتهم إلى أميركا وأوروبا، وبذلك فإن أكثر من 50 في المئة من هؤلاء المصنعين سيغلقون مصانعهم في السنوات المقبلة. إن الصين ذات النمو الاقتصادي الفائق اليوم، الذي يتعدى تسعة في المئة سنوياً، أصبحت المارد الاقتصادي الجبار الجديد على رغم أن نموها قد يتباطأ خلال الفترة المقبلة، كما أن اقتصادها السابع عالمياً اليوم سيتطور ليكون الثاني عالمياً بعد اقتصاد الولاياتالمتحدة. وهناك من يقول ان تكاليف الإنتاج في الصين سترتفع وستصبح هذه المنتجات غير منافسة بعد وقت قصير. لكنني لا أرى ذلك في المستقبل المنظور، لأن الصين ذات مساحة جغرافية واسعة وفيها الكثير من المدن يمكن تطويرها بكلفة صغيرة نسبياً ولديها الكثير من العمال الماهرين العاطلين الإحصاءات الرسمية تشير إلى 25 مليون عاطل في الصين اليوم. لذلك نرى الشركات العالمية المعروفة في مجالات التكنولوجيات والإلكترونيات والسيارات والملابس ... الخ تتهافت على نحو إستراتيجي. يذكر أن الدول العربية تستطيع الاستفادة من تجربة الصين الاقتصادية هذه، اذ إن القوانين الاقتصادية في الدول العربية صارمة لا تتواءم مع الانفتاح الاقتصادي العالمي الذي يجري اليوم. فدراسات المقارنة الاقتصادية مع الصين والتمعن في الخطوات التي اتخذتها في التحول من الاقتصاد المركزي الحكومي إلى الاقتصاد الحر ستكون كافية لتحرير اقتصاديات هذه الدول وجعلها تكبر على نحو يجعل منها ثقلاً اقتصادياً عالمياً مرموقاً إذا توافرت النية والإرادة. رئيس مجموعة إنتر - العراق