ظلّ وفياً للغة العامية طوال حياته فهو لم يكتب إلا بها وفيها أعلن "ثورته" الشعرية مؤسساً القصيدة العامية الجديدة. عاش ميشال طراد شاعراً ومات شاعراً ولم يتقن في حياته أمراً آخر سوى الشعر. وحين كان يتكلّم عن الشعر لم يكن يتكلّم إلا شعراً. فهو لم يعرف كيف ينظّر للشعر ولا للقصيدة التي كان يتقن صنعتها إيّما اتقان. عاش ميشال طراد في عزلة خاصّة بعيداً عن المعارك الأدبية والشعرية وأمضى زهاء ثلاثين عاماً "حارساً" رسمياً لقلعة بعلبك وهناك بين الأعمدة والهياكل راح يكتب مستوحياً التاريخ وجمال الطبيعة. ولعلّ عزلته تلك أبعدته قليلاً عن الساحة الإعلامية وكادت أن تقلّل من حجمه. ولكن كان من الصعب التغاضي عن شاعر في حجم ميشال طراد، عن شاعر أسس القصيدة العامية الجديدة بعدما حرّرها من ربقة الزجل مرتقياً بها إلى مصاف الإبداع الفنّي. كان ميشال طراد صاحب مراس خاص، وعرف كيف يجمع بين السليقة والوعي الجماليّ. صحيح أنّه لم يكن صاحب ثقافة كبيرة لكنّه كان صاحب تجربة أصيلة جعلته يتبوّأ مركز الصدارة في الشعر العاميّ اللبناني. وقد أسس عالماً قائماً بذاته، عالماً شعرياً رحباً بمعجمه القروي والجماليّ وبمفرداته الرنانّة. وكم كان متأنقاً في صوغ الأبيات، متأنّقاً ولكن من غير تكلّف. فهو يكتب ببساطة ودقّة في الحين عينه، يستسلم للعفويّة ولكن يقظاً. وهكذا كان فنّان القصيدة بامتياز، يبنيها بمتانة من غير أن يفقدها جماليتها الساطعة. وفي أحيان تصبح القصيدة بين يديه قطعة موسيقية من شدّة تناغمها، قطعة تنساب انسياباً لطيفاً وهادئاً. كان ميشال طراد شاعراً في كلّ ما يعني الشعر من ترهّب وشهامة. وكانت في ذهنه صورة عن الشاعر سعى طوال حياته إلى تجسيدها: صورة الشاعر الأبيّ والمترفّع عن الصغائر، الشاعر الذي لا يملك إلا شعره ولا يطمح إلا أن يكون شاعراً وشاعراً فقط. ولعلّ ترفّعه وشهامته جعلاه على قدْر من البراءة الفطرية. وكان يخفي في وجهه ملامح طفل وشآبيب رجل علّمته السنون الكثير من الحكمة والصبر واليقين. لم ينغلق ميشال طراد على الشعر العامّي بل كان يرحّب بأي شعر عامياً كان أو فصيحاً شرط أن يكون شعراً أولاً وأخيراً. ولم يكن بعيداً عن الحداثة الشعرية فهو في قلبها أسس الشعر العامي الجديد طاوياً صفحة الزجل والشعر الشعبي. وغدت قصائده حديثة في المعنى العام للحداثة بعدما استطاع عبرها أن يخلق وحدة للقصيدة وأن يزيل عنها كلّ الزوائد والحواشي وأن يجعلها صنيعاً جمالياً صرفاً. ولئن سمّاه مارون عبّود شاعراً رمزياً فهو كان منفتحاً على سائر المدارس بل كان خارجها جميعاً. فقصائده لم تخلُ من الرومانطيقية التي وسمت الشعر اللبناني في عصر النهضة الثانية ولم تخل كذلك من اللهب الوجداني الذي عرفته بعض نثريات جبران ولا من الصنعة والدربة والمتانة التي تجلّت في شعر سعيد عقل الفصيح. كان ميشال طراد حديثاً في السليقة فهو لم يلجأ إلى النظريات الوافدة من الغرب ولم يعمد إلى تبني الحداثة نظريّاً ولا إلى الدفاع عنها بل خاض غمارها خوضاً عفويّاً خالقاً لغة جديدة ومادّة شعرية لم تكن مألوفة. وقد عرف كيف يحرّر الشعر العامي من المناسبات التي كانت أثقلت وطأته ومن الموضوعات الجاهزة جاعلاً القصيدة رحلة جميلة إلى عالم الإيقاع واللون والصور البهيّة. وحداثته الفطرية جعلت يوسف الخال يتبنّاه في مجلة "شعر" في مطلع الستينات وجعلت كذلك أدونيس يرحّب به في مجلّة "مواقف" في السبعينات. وظلّ ميشال طراد هو هو، شاعراً فريداً وخلوقاً ولم تأكل الشيخوخة من همّته الشعرية فظل يكتب حتى الرمق الأخير. وكان أصدر قبل أشهر ديواناً هو ديوانه الأخير وعنوانه "المركب التائه". ولا ندري إن كان الشاعر ترك بعض المخطوطات التي لم يتسنّ له أن يطبعها. ظلم ميشال طراد بعض الظلم وساهم هو ربّما في ظلم نفسه إذ عاش منصرفاً إلى عزلته في بلدة زحلة ولم يكن يرتاح كثيراً إلى الأحاديث الصحافية ولم يعرف طوال حياته كيف يتخلّى عن العنجهيّة الجميلة التي تميّز بها. لم يُكتب عن ميشال طراد ما ينبغي أن يُكتب عن رائد وسم الأجيال التي جاءت بعده وبعض الأسماء التي جايلته. فشاعر رائد في حجمه كان يستحق أن يكتب عنه أكثر ممّا كتب. حتى معظم دواوينه لم تعد طباعتها وهي شبه مفقودة إلا إذا استثنيتْ كتبه الأخيرة. ولئن قال عنه البعض أنه تأثر بالشاعر سعيد عقل فإن البعض يقول أن سعيد عقل تأثر به. ومن هؤلاء الناقد مارون عبّود الذي رأى "قرابة" شديدة بين "جلنار" باكورة ميشال طراد وديوان "رندلى" لسعيد عقل. وكاد مارون عبّود أن يتهم سعيد عقل بأخذه بعضاً من معجمه من ميشال طراد. ويجب ألا يفوتنا أن الطبعة الأولى من "جلنار" قدّمها سعيد عقل نفسه مشبّهاً صاحب الديوان بالنجمة الجديدة وقال إنّه كان على ثقة من أن ميشال طراد سوف يُخلق. وحين حلّت الحرب في لبنان وجد ميشال طراد نفسه ضحيّة من ضحاياها الأبرياء فراح يكتب عن مأساتها وعن الخراب الذي أحدثته في الأرواح والأمكنة. وفي مرحلته الأخيرة كتب شعراً شبه واقعي بل شبه ملتزم إذ لمس بيديه معاناة الناس وآلامهم اليومية. وفي تلك القصائد تخلّى ميشال طراد بعض التخلّي عن جمالياته السابقة وعن عالمه الزاهي ومعجمه القروي والبلدي. كم يصعب اختصار شاعر في حجم ميشال طراد. وكم نحتاج فعلاً أن نعود إليه، إلى شاعر أحدث تحوّلاً بارزاً ليس في الشعر اللبناني العامي فحسب بل في الشعر اللبناني عموماً. إنّه الشاعر الذي يبدأ به عهد شعريّ وبه ينتهي عهد شعري آخر.