يمكن لشبهة الإصلاح"الأميركي"ان تذلل، اذا ما اقدمت الأنظمة العربية، ومن ورائها الأحزاب السياسية، على القيام بنفسها بالإصلاح الجاد والفاعل الذي يستطيع، في حال تحقيقه، سحب الذرائع من الذراع السياسية - العسكرية الأميركية، وتعطيل مفاعيل الهيمنة القسرية في سياستها الشرق اوسطية. فما يضيرنا، اذا ما فتحنا اسواقنا للاستثمار الكتلة المالية الموظفة عالمياً، مكتملة ولا تنتظر احداً، وطبقنا الديموقراطية والشرعية الدستورية بتوسيع المشاركة ومساءلة الفاسد واسترجاع اموال الدولة والمجتمع المسروقة، وتداول السلطة لتناوب الحكم والمساواة في الفرص والعدالة الاجتماعية وإلغاء قوانين الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم العسكرية، ورفع مستوى المعيشة والخروج من منطق الحروب المبدد للثروات والمهلك للوطن والمواطن. وبهذا نضع دولنا ومجتمعاتنا على عتبات التداخل والتفاعل والتكامل، الإقليمية، مما يقربنا من العالمية والاندماج في المجتمع الدولي، الأمر الذي يمنحنا عناصر القوة التي نستطيع عبرها الضغط من اجل الحلول السلمية العادلة لمشكلاتنا العالقة، من خلال المؤسسات الدولية ومنظمات الأممالمتحدة. من الأجدى ان يتراجع نهج القائلين بأن الإصلاح بضاعة اميركية، كما ينبغي تذليل المنطق الأميركي من طريق مواجهة فاعلة وحادة بأننا، وبإخلاص، نتبنى مسألة التغيير والتطوير، كونها حاجة ذاتية وموضوعية في بلادنا، ومنذ زمن بعيد، وعلى نحو دائم يسبق الزمن الأميركي ودعاواه للإصلاح، وقبل طرحه علينا كخيار - مستجد، لأن ذلك افضل لنا من ان نمنّي النفس بتغير بوش واستمالته نحو السياسة والتخلص من المحافظين الجدد. وهذا يمثل لنا إهانة لا تغتفر، كوننا نحفر ضده ونحفر معه، ونتعفر من دون ان ندري اننا تحت مظلة عقيدة بوش وسياسة إدارته، تحكمنا عقلية التعنت والتمسك بالقديم، ورفض تقوية بلادنا بالإصلاح وامتلاك عوامل القوة عبر البناء والسلم كي نصل الى فرض شروطنا عالمياً. لا ينفع ان نندب حظنا لأن بوش نجح في ولاية ثانية، فهو لم يتخل عن فريق إدارته حتى لو طعّمه بوجوه جديدة، وستستمر سياساته العقدية المنقولة من ايام رونالد ريغن، والتي امتطت متن ومستوى وقواعد الضخامة في التطور، اي ان ما أوصله الى مواقفه الراهنة يتمثل في حاصل الإنتاج الأميركي الهائل وغير المسبوق عبر اكثر من عقدين من الزمن، مما يجعل سياسته منطقية كاستجابة لحاجات التفوق، وانحرافها يتلخص في نزوعه الجامح الى الهيمنة على العالم. فالأولى ان نضيء شمعة بدل ان نلعن الظلام. ونقدم على خطوات جديدة، بتوفير امتلاك شروط خيار السلم التي هي وحدها تمدنا بشروط خيار القوة كي نتفادى الهجمة الأميركية، وليس الامتناع عن المصالح التي يستفاد منها في البناء والتقدم والإصلاح! فهل نتعظ ونلتفت الى اوضاعنا الداخلية، ونلقي الضوء على مشكلاتنا الخاصة النابعة من اختلالات وطنية، بعين ثاقبة ورؤية مدققة من اجل تقديم الحلول المناسبة لأحوالنا البالغة التعقيد، وهي مركبة ومقابسة لتأليف ازماتنا وتقادمها، بدل البكاء على مواقف اميركا التي"تكرهنا". ان الاستنكاف الذي نمارسه حيال الإصلاح للتهرب من موجباته، والقياس على الشيء مقتضاه، لن يحمينا اولاً من انظمتنا الفاسدة وأجهزتها المتنفذة، ولا من احزابنا المتهالكة - الشائخة وثقافتنا - عقليتنا المهترئة والجافة، ولا من قصورنا الحضاري... الخ، وبذلك نسمح لأمثال"المحافظين الجدد"ان يسيطروا على بلادنا، حيث نضخ النجاح في"عقيدة بوش"وإدارتها في سعيها للسيطرة على العالم وأوله علينا، ونقدم للحروب الإجهاضية وقودها الذي يغذيها. وكانت وما زالت انظمتنا تدعم اميركا، التي ترفض جلّها إن لم يكن كلها، خصوصاً بعد 11 ايلول سبتمبر وتمانع في التعامل معها إلا بشروط صارمة. ونصفق ل"المقاومة"العراقية ونعتقل امتداداتها خارج العراق، ونهتف ضد اميركا ونقدم لها التنازلات المتلاحقة، ونعتمد على قوة ايران وهي في قفص الاتهام، تحاول كالعادة، تقديم التنازل تلو الآخر، ونؤيد المقاومة في فلسطين و"تعتقل"انظمتنا ستة ملايين من فلسطينيي الشتات. إنها مأساة خلقتها الأنظمة، ومهزلة تمثلها الأحزاب الملحقة، اما المثقفون فهم في بهتان مبين، داخل حومة الأجهزة والأنظمة على ارضية البيع والشراء من اجل اعتلاء المناصب والارتقاء على سلالم السلطة والغور في دهاليزها. نريد دولة فلسطينية قابلة للحياة ونقدم لآرييل شارون كل مبررات تدميره لهذا الحق، وندعو الى انسحاب اميركا من العراق وإنهاء احتلاله، ونسوّغ للتيار الجهادي ان يبقي قواتها على ارض العراق التي اعتبرها نقطة النزال بين الخير والشر، وصنفها على انها الجبهة المتقدمة لقتال اليهود والصليبيين، وذبح ونحر وخطف كل من يتعامل معهم. كيف يمكن ان نصدق الخطاب القومي الشوفيني والخطاب الإسلامي المتطرف في قتال المستعمر، وهم موالون للاستبداد والقهر والظلم وإلغاء الآخر واغتصاب الحقيقة وحجب الشعب وتدمير الاقتصاد والسياسة والمعرفة؟ وحرف التعليم واستنكار التقدم واستكبار النقد ومنهجية العقل الجدلي!! كيف نقول بصدام الحضارات ونحن دمرنا حضارتنا بعدما دمرنا مقدراتنا وعناصر قوتنا، وبعد ان رفضنا حضارة الآخر او اخذنا بانتقائية بائسة بعض اخف ما عندها، او وقفنا على مسافة نقاتلها؟ وكيف نحكي اننا ضد الاحتلال ونحن نهد امامه كل مقومات منعتنا التي تمنعه وتصده؟ وكيف نمانع الآخر ونحن نجلد الذات ونعدم أسسها؟ كفانا اتهم بوش بالتدين ونحن نرى انظمتنا تمور باستخدام الدين، وتوظيف الأحزاب الدينية التي انشأتها، واستعمالها ادوات سياسية وأجهزة امنية غبّ الطلب وعند الحاجة. ولا نزال تحت مطرقة السلطات في الممنوعات الرئيسة حول ما يخص الإصلاح. وهذا ما يحصل في سورية، مثلاً، حول سياستها القومية. فما زالت في محبس المحرمات اذ يُسمح اخيراً بنوع من المشاركة المقننة، مع تحييد سلطة البعث وتاريخه والعمل السياسي داخل الجيش ومصلحة الشعب بحسب الرؤية السائدة، وضرورات الأمن القومي ومواجهة الضغوط الخارجية، عن اي نقد او اعتراض، كل ذلك بقي حظراً على المعارضة وحكراً على اركان النظام، ولا يحق لأحد الاقتراب من نقاط"الخطر"هذه التي تمتد لتصل الى الكثير من الأسس التي تقوم عليها الدولة الأمنية، وتتناقض مع القبول الجديد بمبدأ التعددية والديموقراطية، كمطية، وتورية لتفادي الضغوط الخارجية، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه مجرد الاقتراب النقدي او تقريب الإصلاح من"الثوابت الوطنية"، المقتصر تحريك خيوطها على الآمر الناهي الذي يلغي مشاركة اطياف المجتمع وأحزابه ونخبه الثقافية المعارضة مما يعني انها ثوابت مركزية سلطوية في ظرف دولي غير مؤات لاستمرار الحال على ما هي عليه، اذ يتم فيه تمهيد كل التضاريس ودرء المعوقات التي تقف امام مسيرة التطور والديموقراطية، كما ان إلغاء"نص"لا صلح ولا تفاوض مع الدولة الصهيونية، حصل في مؤتمر مدريد، وأسقطته المشاركة في المفاوضات والاستواء في مقاعد السلم الاستراتيجي بصرف النظر عن العنعنات المشاكسة للأميركيين، وعلى رغم استعمال لبنان ساحة تنفيس اي احتقان مع اسرائيل ومنع تحوله الى حرب مدمرة وغير متوازنة وعلى حساب مستقبل لبنان. إن إصرار سورية على استمرار قديمها في حكم عهدها الحالي، اسفر عنه التعديل الوزاري الأخير، بالتأكيد على التمادي والتشبث بتدعيم المستوى الأمني والإعلام المركزي الرسمي، مما يشير الى رفض الإصلاح إلا ما يتم تقديمه الى الولاياتالمتحدة، من اجل صرف النظر عن الإصلاح الفعلي، والاستقواء بالخارج، الذي نناضل ضده من اجل مباركة هذه الأنظمة بعد إعطاء التنازلات المطلوبة لحفظ رأس السلطات، وهذا الاتجاه دائم الوجود وبأشكال متباينة أوصل نوعية علاقاتنا الى الحضيض. هل يعقل ان نبقى نياماً ولا نسأل عن اسباب صدور القرار 1559 الخاص بلبنان قبل ان يتداعى نهائياً، ونراقب اي بادرة دولية لنتهمها بأنها ضغط اميركي - فرنسي لتطبيق بنوده، ونحسب التهديد بسحب قوات الطوارئ الدولية من جنوبلبنان، إذا لم نلتزم تنفيذه مؤامرة؟ ونحن لدينا اتفاق الوفاق السيئ السمعة طائفياً، والرديء التطبيق استنسابياً الذي يطالب بالكثير من الإجراءات من دون تحقيق منطلقاته الأساسية، التي تسحب، فيما لو انجزت، الذرائع من امام القرار 1559، وتنهي جوهر مطالبه، وتفتح لبنان على ممارسة السياسة من الجميع. كاتب لبناني.