حمل الإصدار الجديد لشهر شباط فبراير الجاري من "كتاب في جريدة"، الذي يشرف عليه الشاعر شوقي عبد الأمير، رواية "الفردوس اليباب" للسعودية ليلى الجهني، ما يعني أنه للمرة الثانية تختار الهيئة الاستشارية في هذا المشروع، الرواية، من بين الأجناس الأدبية الأخرى التي لا تقل أهمية وازدهاراً في السعودية، بل الرواية التي تكتبها المرأة، مما أثار موجة من التساؤلات، لدى المهتمين والمتابعين لهذا المشروع، الواسع الانتشار والرائد عربياً، في المشهد الثقافي السعودي. ودارت التساؤلات حول ما وصفه بعضهم بانحياز "كتاب في جريدة" الذي يصدر بالتعاون مع منظمة اليونسكو، وترعاه مؤسسة محمد بن عيسى الجابر، وتشارك في إصداره مجموعة من الصحف العربية، إلى المرأة الكاتبة في السعودية، في تجاهل واضح للروائيين. وطاولت تساؤلات هذا الاختيار، في منطلقاته ومدى وجاهته أو عدمها، ومن هم الأشخاص تحديداً الذين صوتوا للرواية السعودية، وهل جاء الاختيار لأن الرواية التي تكتبها الروائيات، لها المستقبل أكثر من سواها، أم لأنها تكشف وتتعاطى مع قضايا المجتمع، عبر حساسية فنية وموضوعية مختلفة؟ ولماذا لم يتم اختيار رواية لكاتب، كنوع من المساواة أو تغطية المشهد الروائي السعودي في اختلافه وتنوعه؟ خصوصاً أن الرواية التي يكتبها الأدباء، تتغلب كمّاً على تلك التي تكتبها أقلام نسائية، فضلاً عن اتهامات شنيعة طاولت رواية الجهني نفسها. المرة الأولى التي صدرت فيها رواية سعودية، ضمن هذا المشروع، حزيران/ يونيو 2002، كانت للروائية المتميزة رجاء عالم وعنوانها "خاتم"، وكانت صدرت سابقاً عن "المركز الثقافي العربي" 2001. غير أنها لم ترافقها تساؤلات من أي نوع، ربما لأن عالم تعد الروائية أو صاحبة الرواية الأهم، إذا جاز التعبير، من نواح عدة، منها إصدارها عدداً من الروايات التي تشتغل في أفق الرواية الحداثية بامتياز، والحصول باكراً على جوائز عربية مهمة. وهي وإن كان القارئ حتى القارئ المثقف، يجد رواياتها صعبة ومستغلقة، وفيها ولع إلى مقاربة الغرائبي والأسطوري والشعبي بلغة معقدة ومركبة، غير أنها تكشف عن خبرات جمالية فريدة، ورؤى عميقة وواعية، ما أتاح لها أن تتعاطى مع جملة من القضايا المهمة، في شكل جدير بالتوقف عنده. لذلك صارت تشكل تحدياً جمالياً وفنياً يصعب التغلب عليه في سهولة، ولعلها من الأسماء الروائية القليلة جداً، التي اشتغلت على فضاءات المكان، ومفرداته، روحانية كانت أم شعبية، كما في رواية "خاتم"، التي اشتغلت على الفضاء المكاني لمكة المكرمة، في ما تعنيه من أخلاط بشر وامتزاج عادات وتقاليد مختلفة، وصهر لثقافات أو حضارات شعوب عدة، عطفاً على الفضاء الروحاني والقدسي، لهذه البقعة الفريدة في العالم. وبدت رجاء عالم تنهل من التراث الإنساني، كاشفة عن معارف واسعة ومتنوعة. أما الاختيار الثاني لمشروع "كتاب في جريدة"، فهو رواية "الفردوس اليباب"، الذي لم يمر في سهولة، إذ تزامن مع تكريس بعض الكتاب أنفسهم، كرموز للفن الروائي في المشهد السعودي. وتمكن ملاحظة ذلك من خلال حوارات وأحاديث صحافية، أو عبر مواقع الانترنت التي يغدو الكلام فيها أكثر شفافية وصراحة وربما مبالغة، لذلك اعتبر بعضهم أن توالي الاختيارات من الرواية النسائية، يجيء تبديداً لأحلام هؤلاء الروائيين الرجال، في تسيد المشهد الروائي. ومن هنا انطلقت التساؤلات والشكوك لتحيط بهذه الرواية، التي رسمت منذ أول ظهور لها عام 1998 حدوداً واضحة للمكان ولجغرافيته وأناسه وعاداتهم، بعدما كانت الرواية في السعودية، تتوخى الحذر في التعاطي صراحة مع عادات المجتمع وتقاليده. لكنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها ليلى الجهني، تساؤلات أو شكوك بعضهم، فهي واجهت شيئاً من ذلك عقب فوز الرواية بجائزة الشارقة للإبداع العربي في العام 1997، وصدورها عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة في العام التالي، إذ شكك بعضهم في أنها ليست الكاتبة الفعلية للعمل، وأنها ربما تكون شبحاً لكاتب ما. وعندما تأكد لهؤلاء أنها الكاتبة الحقيقية، عادوا ليربطوا بينها وبين "صبا" بطلة الرواية، التي تدخل في علاقة حب لا تنتهي نهاية طبيعية، إذ يخونها حبيبها الذي تكتشف زيفه وقبحه متأخرة، بعد أن تحمل منه سفاحاً. ومرة أخرى وفي الوقت الذي كانت تخرج الرواية في سلسلة "كتاب في جريدة" وهي الإصدار الوحيد للكاتبة، في مئات الآلاف من النسخ وفي مختلف أنحاء الوطن العربي، كان ثمة ضجيج يعلو في أكثر من مطبوعة سعودية، لكنه ضجيج مبحوح ورخيص، حول سرقة الكاتبة فكرة روايتها من فيلم سينمائي أجنبي، عنوانه "روب روي"، أو من القصة الأصلية للفيلم، استناداً إلى عبارة" الحب مزبلة وأنا ديكها"، التي تتكرر في رواية الجهني، كما ترد على لسان أحد أبطال الفيلم في صيغة أخرى "الحب مزبلة وأنا لست إلا ديكاً يتقافز عليها صائحاً". هذه التهمة التي تعوزها الحجج الدامغة والبراهين القاطعة، يسوقها بعضهم، مبررين ذلك من طريق تخصصها في الأدب الانكليزي، ومتجاهلين تماماً أن ما حدث لبطلة الرواية "صبا" من انتهاك عاطفي وجسدي، قضية شائعة في المجتمعات العربية، ومن ثم فلا داعي لسرقة الفكرة من أحد. ويمكن المتابع رد المسألة إلى جهل مركب عند هؤلاء، بما تنطوي عليه العملية الإبداعية من تشابك وتعقّد. غير أن ما يهم هنا هو المستوى الفني الرفيع، واللغة الكثيفة والمفعمة بالشاعرية، التي أججت الحدث المركزي للرواية، ودفعته إلى مستويات تعبيرية فاتنة. فالكاتبة لم تجعل الرواية طويلة 84 صفحة فقط، ولم تسع الى إرهاق القارئ بتفاصيل قد تنهك العمل أكثر مما تضيئه. تقذف ليلى الجهني بقارئ روايتها منذ الكلمات الأولى في خضم الإشكال العاطفي والنفسي، الذي تعيش مرارته بطلته "صبا"، وتتعذب بتبعاته في إطار مكاني خانق، حيث تتكشف مدينة جدة، التي سبق أن شكلت فضاء مكانياً لواحدة من الروايات، أثارت شخصياتها المثلية جدلاً واسعاً، وهي رواية "مسك الغزال" للبنانية حنان الشيخ، تتكشف عن مدينة "سرية أخرى في أعماقها، مدينة غامضة مريبة الظلال فيها أكثر من الأضواء، أناسها بلا ملامح أو أنهم يختبئون خلف الأقنعة، بيوتهم جحور مظلمة مثل جحور الفئران، أجل الفئران التي تتقافز بين صخور الكورنيش، تباغتك بعيون صغيرة ملتمعة وفروة رمادية دكناء... مدينة للفئران والكلاب وأنا التي خلتها للغيم والعصافير والبحر". بدا أمراً مؤسفاً أن تحتفي الصحافة العربية برواية "الفردوس اليباب"، في حين يكتنف الغموض مسألة إصدارها في السعودية. فصحيفة "الرياض" التي تعد واحدة من كبريات الصحف الشريكة في المشروع، لم تصدر الرواية لأسباب لا تزال غامضة، وصحيفة "البلاد" التي التحقت أخيراً بتلك الصحف، لم تصدر هي الأخرى الرواية بحجج واهية لم تقنع أحداً، وهي أنها لم تتسلم القرص الالكتروني سي دي الذي يحمل نص الرواية، وفقاً لما قالته ندى دلال من مشروع "كتاب في جريدة"، والمرسل بالبريد السريع من بيروت، ويؤكد القائمون على المشروع أن الصحيفة تسلمته. وأمام هذا الغموض، هناك من يرجع عدم صدورها في السعودية، إلى أسباب رقابية بحتة. لكن الرواية التي أعادت دار الجمل طباعتها عام 1999، لم تصادرها الرقابة عندما عرضها الناشر ضمن إصداراته، في الدورتين الأخيرتين لمعرض الكتاب الدولي في الرياض. إذاً ما السبب الحقيقي وراء عدم صدورها في السعودية؟ الحقيقة المزعجة وعودة إلى التساؤلات نفسها، نذكر أن هناك من يرى أن روايات مثل "شقة الحرية" لغازي القصيبي، و"العدامة" لتركي الحمد، و"الموت يمر من هنا" لعبده خال، وروايات أخرى لعدد من الروائيين، هي أولى بالصدور ضمن هذا المشروع الضخم. وهناك أيضاً من يعتقد أنه يصعب استيعاب هذه الروايات، لضخامة حجمها، قياساً إلى ما يتطلبه المشروع من أعمال صغيرة نسبياً، ويضاف إلى ذلك أسباب فنية، قد لا تتوافر في تلك الروايات. وهو ما يؤكده الروائي محمود تراوري، الذي يقول: "علينا أن نقول الحقيقة حتى وإن بدت مزعجة لبعضهم، وهي أن معظم الإنتاج الروائي "الذكوري" في السعودية، لا يلتم على فكرة واضحة يتمحور حولها العمل. بينما نجد رجاء عالم في روايتها "خاتم" تقدم فكرة تناقش التباس النوع بين الذكورة والأنوثة. وتقدم ليلى في روايتها فكرة استلاب عواطف المرأة في مجتمع محافظ. بينما لو حاولنا مراجعة المنتج الروائي "الرجالي" نجده مغرقاً في تقديم أفكار كثيرة وتشابكات قد لا تحمل رؤية". ويرى تراوري أنه قد يكمن "خلف اختيار امرأتين سعوديتين دلالات معينة، لها خلفيتها الفكرية وربما أبعاد أخرى، ولكن هذا في ظني لا يعني خلو تجربة هاتين المبدعتين من الفن. فالروايتان المختارتان تقدمان فناً حقيقياً مصحوباً برؤية، وهذا ما تفتقر إليه معظم تجارب الروائيين الآخرين". وحول ما أثير أخيراً من تشكيك في رواية "الفردوس اليباب"، يقول صاحب رواية "ميمونة" اأن ذلك "لغط سخيف ينهض بعيداً من مقاربات الفن وأسئلته الحقيقية الموضوعية، وغباء صحافي توسل الإثارة الرخيصة. ويجيء بعد ثماني سنوات من طباعة العمل وعقب احتفاء كبير به في الداخل والخارج. وللتوضيح أكثر وباختصار أقول إن الرواية أنجزت في العام 1996، بينما يقول الادعاء المضحك أن ثمة فيلماً أجنبياً يحمل الفكرة نفسها، أنتج عام 1995. والكاتبة تعيش في مدينة منعزلة عن المؤثر السينمائي، وظرفها الاجتماعي يحول تماماً دون مشاهدة أي أفلام. فنحن في السعودية نشاهد الأفلام الجديدة بعد إنتاجها بسنوات وعبر الفيديو. ثم إن من يقرأ العمل يجده شديد المحلية، بل يكاد يمثل رواية المدينة السعودية بامتياز". الناقد سعيد السريحي، الذي دافع عن اختيار رواية "الفردوس اليباب" في مؤتمر"كتاب في جريدة" الذي عقد في العام المنصرم في شرم الشيخ، يرى أن ذلك التشكيك هو"نتاج للخلط بين المفاهيم النقدية، وهو كذلك جهل في مفهوم التناص والتأثر، وما يتم تداوله تحت مفهوم السرقات الأدبية، وهنا تفقد الإثارة الصحافية صدقيتها، ويبدو الأمر نتاج الجرأة على الحديث بما لا نعلم". وعن اختيار الرواية النسائية تحديداً، يقول صاحب "الكتابة خارج الأقواس" و"حجاب العادة" "إن ما تم اختياره جدير بأن يحتفى به، والاحتفاء بالكاتبتين لا يعني مطلقاً الانقاص أو التقليل من الأعمال الأدبية الأخرى... لا غبار على اختيار روايتي رجاء عالم وليلى الجهني، وسيظل الباب مفتوحاً للكتاب كافة". ويقول الشاعر سعد الحميدين مدير التحرير الثقافي في جريدة "الرياض"، التي يفترض أنها تسهم مع صحف أخرى في إصدار "كتاب في جريدة"، والذي تبنى أيضاً ترشيح رواية الجهني في مؤتمر شرم الشيخ: "عندما نختار عملاً ليمثل السعودية، فلا بد من أن يكون هذا العمل في مستوى الوطن، أي يستحق أن يقدم إلى المجتمع الثقافي العربي، ليعكس تقدم التجربة الروائية في السعودية. لذلك وقع اختياري على "الفردوس اليباب". وقال إن "الرواية ومنذ صدورها تثير جدلاً واسعاً، وهي مكتملة فنياً وموضوعياً، وكان علينا أن ندعم المرأة الكاتبة ونشجعها في شخصها، فإذا كانت هذه الرواية هي باكورة أعمالها، فبالتأكيد أن أعمالها المقبلة ستكون أكثر جمالاً واكتمالاً". وأرجع الحميدين سبب عدم صدور الرواية عن صحيفة "الرياض"، إلى أمور إدارية بين الصحيفة وإدارة "كتاب في جريدة". أما الكاتبة ليلى الجهني فعبّرت عن غصة وشعور بالمرارة وفرحة لم تكتمل، لصدور روايتها في أكثر من مليون نسخة، عبر الوطن العربي، تبعاً لما يكتب في الصحف من تشكيك، مؤكدة أنها لم تشاهد الفيلم المزعوم، ولم تقرأ قصته الأصلية، وأن العبارة التي تتردد بكثرة في روايتها ووردت في الفيلم، لا تعدو كونها مثلًا أنكليزياً شائعاً، وهو "كل ديك صياح على مزبلته". وتقول: "إن اللوم لا يقع عليَّ، إذا كانوا يرون أن روايتي لا تستحق أن تصدر ضمن "كتاب في جريدة"، وأن عليهم أن يوجهوا لومهم إلى الهيئة الاستشارية، التي رشحت عملي". وتضيف: "هناك من يحسسني أنني أخذت شيئاً ليس من حقي، بحجة أن هناك أسماء وروايات تستحق، أكثر من عملي، الصدور ضمن هذا المشروع العربي، وإذا كان ذلك يريحهم فليعتبروا إصدار روايتي ضمن "كتاب في جريدة"، أو كبوة جواد في حق القائمين عليه". وفي الختام يقول الشاعر شوقي عبد الأمير، إنه يجهل تماماً الأسباب الفعلية، لعدم صدور رواية الجهني في السعودية، ويضيف: "عندما حاولت أن أفهم السبب قال لي المسؤولون في الصحيفتين الشريكتين في المشروع، "الرياض" و"البلاد"، انهم سيتصلون بي لاحقاً، لكن أحداً لم يتصل، وما زلت انتظر توضيحاً منهم... وبإمكانك أن تسأل تركي السديري، رئيس تحرير جريدة "الرياض" عن السبب، فهو وحده من يملك الإجابة".