لا أعرف ان كانت الشفقة هي التي دفعتني الى الاتصال بالمساعدين الاجتماعيين، أم انه المنطق وحده. كنت عائداً الى شقتي الباريسية، أحارب الهواء والبرد بالحركة، وهو كان جالساً على الارض في ظل جدار يحميه من الهواء ربما، ولكن ليس من البرد. فتح"شنطته"التي تحوي كل ممتلكاته وتناول منها بعض ثيابه وراح يفرشها على الرصيف على شكل سرير، او على شكل جسده الذي سيلقي به عليها. وضع"الشنطة"مكان الرأس كوسادة، ثم سحب من جيبه سيجارة أخيرة لا شك في أن أحد المارة أعطاه اياها خلال النهار. هذه"أصقع ليلة في السنة"، كما قالوا في التلفزيون. وهو سينام هنا، في الشارع، على الرصيف. السيجارة التي أخذها من أحد المارة، وضعها بين شفتيه، فبدأت ترتجف كأن فيها حياة، او كأنها هي ثابتة وهو الذي يهتز. وحين قرّب القداحة منها، عرفت ان الحائط الذي اختاره لقضاء الليلة، او قد يكون سبق غيره اليه، لا يحميه حتى من الهواء. قام الشاب الذي لا يتخطى الثلاثين، ليشعل سيجارته داخل المبنى المجاور، حيث لا يحق له ان ينام. ولكن كيف ينام المرء حيث لا يستطيع ان يشعل سيجارته؟ كيف ينام هنا، حيث اقف ويصعب الوقوف؟ الشاب الذي اعتاد في الشارع على كل شيء ولم يعتد على البرد، لم يقبل ان يذهب الى المأوى الذي تفتحه الدولة في هذا الموسم لاستقبال المشردين. جاء المساعدون الاجتماعيون الذين اتصلت بهم، واقترحوا عليه ان يأتي معهم، الى حيث يوجد حمام وسرير. لكنهم ذهبوا وحدهم كما اتوا، الى شارع آخر فيه شاب آخر، أو فتاة أو امرأة. أعطوه كوباً بلاستيكياً فيه سائل ساخن، وأعطوه غطاء ومعطفاً، وتركوه ينام حيث اختار ان ينام. مئات المشردين يرفضون كل يوم ان يتركوا الشارع الى منزل موقت، الى مأوى بين جدران. يقبلون بالمساعدة، يأخذون ما يعطى لهم، فيصبح ملكهم، ويرافقهم الى شارع آخر في اليوم التالي. لكنهم لا يقبلون ان يصبحوا ضيوفاً عند الدولة او اي أحد. قال لي الشاب الذي تحدثت معه بعدما ذهب المساعدون انه يفضل البقاء في الشارع لأنه"في كل الاحوال سيعود الى الشارع غداً". كأنه يقول ان الحلول الموقتة لا تنفع حين يصل المرء الى الشارع. او ان لا حاضر اذا لم يكن من مستقبل. فهو لا يأبه للبرد الذي يشعر به الآن، ولا يأبه بليلة دافئة التي اقترحوها عليه، لأنه يعرف انه سيبرد غداً من جديد. لا يريد سريراً لليلة او ليلتين، لا يريد حماماً ساخناً، ولا يريد محبة اشخاص وظيفتهم أن يحبوه. يرفض أي حل إن لم يكن جذرياً، ويرفض كل ما لا تتسع له"شنطته"التي سيحملها غداً على ظهره، ليبحث عن حائط آخر او زاوية أو عمود. المشردون الذين يعيشون في شوارع باريس، لا يملكون شيئاً غير ما في"شنطهم"واكياسهم البلاستيكية، والحرية التي يتكلمون عنها من دون ان يذكروها، كأنهم لا يعرفون انهم يتكلمون عنها. الشاب الذي قال لي ان اسمه"اريك"، والذي ربما يكون اسمه غير ذلك، يؤكد انه في الشارع يفعل ما يريد. فهو يستيقظ وقت يشاء، بينما في المأوى هناك ساعة يحددها النظام. هي الحرية اذاً، في معناها المطلق. الحرية التي لا يملك المشردون غيرها، الحرية في التفاصيل، وفي الفقر وفي البرد. ومثل شعوب الصحراء الذين يعيشون في سفر مستمر، يسافر مشردو باريس فيها، كأنهم يبحثون عن شيء، او كأنهم يعوضون عن عدم امتلاكهم شقة او غرفة، بامتلاك باريس كلها. التنقل والسفر بيت من لا بيت لهم. الحرية كل ما يبقى من الدنيا لهؤلاء الذين فقدوا كل شيء او لم يملكوا شيئاً. الحرية التي يسمونها أحياناً:"اتركني وشأني". المشردون اعتادوا الظروف القاسية كلها الا البرد. لكنهم يتحدونه، ويفضلونه على دفء المأوى، كأنهم حتى على البرد سيتغلبون... او ربما كان دفء المأوى الموقت مضيعة للوقت، في حياة كلها باردة. أعطيته ما تبقى من سجائري التي تصلني رخيصة من لبنان، وتصبح ثمينة هنا، وتركته حراً وحيداً على الارض في ظل حائط لا يحميه من شيء. وفي شارع آخر على بعد دقائق رأيت رجلاً يتعدى عمره الخمسين، يستمد من كلبه الاسود الكبير الذي نام على رجليه بعض الدفء. لن يعتاد إريك البرد مهما بقى فيه. أريك الذي ربما يكون اسمه غير ذلك، لكنه اختار لنفسه اسماً في الشارع، كتجار المخدرات... كأنه بالنسبة الى الشاب الذي كانه قبل الفقر، شخص آخر. طلب مني الرجل الخمسيني سيجارة. لم اعطه، وأكملت مشيي السريع الى البيت، تاركاً خلفي رجلاً حراً في سجنه الواسع.