لا يمكن أن يكتمل الحديث عن السينما الفلسطينية من دون النظر إلى تجربة المخرج ميشيل خليفي. فهو واحد من مؤسسي السينما الفلسطينية، وأفلامه حازت جوائز ناهزت الأربعين في مهرجانات سينمائية، أبرزها جائزة النقاد العالميين في مهرجان"كان"وجائزة الصدفة الذهبية في مهرجان سان سباستيان اسبانيا. أفلام خليفي تبرز الحياة الإنسانية الفلسطينية، كما في"عرس الجليل"،"الذاكرة الخصبة"،"نشيد الحجر"، وپ"حكاية الجواهر الثلاث"وسواها. من هنا كانت أفلامه أساساً متيناً قامت عليه السينما الفلسطينية التي ترسخت جذورها أكثر مع بروز أسماء أخرى أثرت المشهد السينمائي الفلسطيني وجعلته مشهداً متميزاً على الصعيد العالمي. خليفي زار عمّان أخيراً لتدريب مجموعة من الشباب السينمائيين الفلسطينيين في مختلف مجالات صناعة السينما في دورة تدريبية عقدت في العاصمة الأردنية لصعوبة تجمعهم في المناطق الفلسطينية في الظروف الحالية."الحياة"التقت خليفي وكان الحوار التالي: كيف اكتشفت السينما في بدايتك في فلسطين، وكيف بدأت طريقك السينمائي من هناك؟ - في البداية كان تعلقي بالسينما مثل تعلق أي طفل بها في ذلك الوقت. لم يكن هناك تلفزيون ولا ألعاب كومبيوتر ولا أي شيء من هذا النوع. الهروب الوحيد إلى الخيال كان ممكنا من خلال السينما الشعبية. لكن عند عودتي بالذاكرة إلى أول فيلم بدأ يغير من إحساسي وذوقي فإنني أذكر فيلم"أميركا أميركا"لإيليا كازان، الذي يحكي عن شيء قريب إلينا، نحن الفلسطينيين. فالفيلم يتحدث عن هجرة اليونانيين في الحرب العالمية الأولى إلى أميركا. عندما شاهدت الفيلم انتبهت إلى إمكان أن تنقل السينما واقعاً وتدخل في حيثيات الأشياء، من منطلق أن هناك أموراً داخلية تستطيع السينما نقلها. في المقابل أتذكر آخر فيلم استهلاكي شاهدته مراراً وأصابني بالملل وكان"أبي فوق الشجرة"، لكنني كنت ما أزال مراهقاً في تلك الفترة. حب من الداخل لم يكن وعيك السينمائي قد تشكل بعد في تلك الفترة؟ - لا. ولكن في ما بعد بدأت أكتشف أن في داخلي شيئاً يحب السينما الجميلة وليس السينما الاستهلاكية الساذجة. على كل كان الطريق طويلاً قبل بدء تشكل وعيي السينمائي، لأنني ما كنت أعرف ماذا تعني لي السينما، كصناعة، كانت كلها بالنسبة إلي ملخصة بالبطل. في ما بعد لما ذهبت للدراسة في بلجيكا في العام 1972 درست المسرح، واكتشفت السينما فيما أنا أدرس المسرح، وبدأت أكتشف طاقاتي. بدأت أتذوق وأكتشف أن السينما عالم رائع ومستقبلي، وليست عالماً ماضياً، مثل المسرح. شعرت أن للسينما قوة حداثية. هنا حدث التحول في حياتي، وصرت أريد البحث عن الثقافة العالمية والمسرح والسينما وتاريخ الفن. طبعاً ساعدني الجو العام في تلك الفترة. كانت ثورة الشباب وكانت الأجواء الثقافية والسياسية رائعة. الكل يناضل من أجل الوعي الشامل. كان هذا من حسن حظي. يعني أن عالمك السينمائي تشكل في ذلك الوقت وفي بلجيكا؟ - بالتأكيد. لا يوجد فكر يمكن دراسته من دون وضعه في إطاره الزمني. لا شيء يجري خارج سياق الزمن. الصهيونية تحاول أن تضع التجربة الإسرائيلية خارج الزمن، لأنهم هكذا لن يحاكموا. بينما الإغريق منذ ثلاثة آلاف عام وضعوا الإنسانية في داخل إطار القانون الإنساني من خلال بناء المدينة، بمعناها الحضاري. في الوقت الحاضر هناك قوى، تحاول تأطير الإنسانية كما هم يريدونها، أو يضعون أنفسهم خارج الزمن، وبهذا لا يمكن محاكمتهم. في هذه الأثناء، ألم يكن لكونك فلسطينياً أثر في توجهاتك السينمائية التي تحمل طابعاً سياسياً؟ - أنا أعترف بأنني مخرج ملتزم، وأنا هكذا منذ بدأت. منذ أن اكتشفت السينما وقبلها المسرح، كان هدفي التعبير عن التجربة الإنسانية الفلسطينية، وهذا ما يهمني. كل الجهد الفكري والفني الذي أقوم به أسخره في داخلي لأنقل التجربة الإنسانية الفلسطينية. هذا هو مشروعي السينمائي. ولن تتخلى عنه؟ - لماذا أتخلى عنه؟ تطور نحو التجارة ألا يبدو الزمن مختلفاً؟ - في الوضع الراهن، بعد أوسلو، وبعد فيلمي"حكاية الجواهر الثلاث"شعرت بأن المجتمع العربي يتطور ناحية التجارة. السلطة أخذها التجار، سواء كانوا بائعين أم مستهلكين، والنتيجة كانت انحسار الفكر. هنا سندخل في موضوع خيانة المثقف العربي، وهذا موضوع كبير يحتاج إلى نقاش طويل ومهم. أنا أعتبر أن المثقف العربي خان. كان الأمر يحتم عليك التفكير في كيفية الخروج من هذا الإطار لتقدر أن تفكر كيف تخرج من هذا الوضع الذي دخل به العالم العربي. واحتاج الأمر وقتاً لأستوعب أننا هزمنا مرة أخرى، ولكن بهزيمة غير عسكرية، مع أن خلفية الهزيمة عسكرية، وخصوصاً أن اليسار هزم، والفكر أيضاً. وكان يجب أن أخرج بخلاصة، فلا يجب أن أظل أقول إنني على حق. كثير من المثقفين يصرون على أنهم على حق. أنا أملك التواضع لأقول إن أموراً كثيرة عبرتني. فكان أن أخذ الأمر وقتاً لأعيد علاقتي مع الواقع. مثلاً ما هو الشيء المشترك بيني والشباب اليوم؟ واقعهم غير واقعي، ولا يمكن أن أفرض عليهم أفكاري. أنا لدي تجربتي الإنسانية، وهم لديهم تجربة خاصة بهم. بالعكس يجب أن يكون هناك تبادل بالأفكار، فهم أغنياء بالفكر أيضاً. هل هذه هي مشكلة العالم العربي اليوم؟ - العالم العربي يعيش خارج الزمن. تتحدث مع أشخاص لا تدري في أي قرن هم يعيشون، إضافة إلى مشكلة اهتزاز الهوية العربية. ترى في نفس الرجل أو المرأة آخر صرعات أوروبا وآخر صرعات أفغانستان. هذا كله مرتبط ببعضه. هزيمة الإسلام العربي أمام إسلام إيران وباكستان وأفغانستان، وعدم القدرة على إعادة ترتيبات الذات. اختلط الحابل بالنابل. على كل هذا ليس سلبياً تماماً بالنسبة إلي، إذ يجب أن نستفيد من هذه المرحلة إذا كنا نفكر. يجب أن نطرح على أنفسنا الأسئلة الصحيحة، من دون أن نتعرض للتخوين بسرعة. أنا في النهاية مواطن عربي أحاول الالتزام من خلال طاقتي بنقل التجربة الإنسانية الفلسطينية من خلال السينما. الآن هناك سينما فلسطينية متمكنة على رغم عدم وجود دولة، وقادرة على الحصول على جوائز عالمية، كيف تفسر ذلك؟ - بداية أنا لا أعلق أهمية كبيرة على مسألة الجوائز. شاركت وأشارك في لجان تحكيم وأعرف ماذا تعني الجوائز. المهم بالنسبة إليَّ هو خلق الحركة التي تحققها الأفلام، وهذا ما استطاعت تحقيقه السينما الفلسطينية. الحظ الرائع الذي خلق عندنا صناعة السينما هو أن لا دولة عندنا! وهذا أمر إيجابي؟ - بالنسبة إليَّ هذا حظ بالتأكيد، فهو ما جعل الفرد يتطور. السينمائيون، وهم أفراد وليسوا شعباً، لديهم الحظ أنهم تطوروا فردياً. تصوّر لو أنه كان عليهم أن يتطوروا وفقاً لسياسة الوزارة الفلانية ماذا كان سيحصل. هذا لا يعني أننا لا نريد دولة فلسطينية، فكلنا يطالب بهذا، لكننا نريدها دولة المواطن الفلسطيني. وكيف ترى السينما الفلسطينية الآن، وأنت من مؤسسيها؟ - عندما بدأت وأسست السينما الفلسطينية في الثمانينات كان يهاجمني النقاد، وكنت أقول إنه لما يحدث تراكم سترون أنني جزء من صورة أكبر مني. بدأنا بمخرج واحد، والآن صرنا كثر. ماذا تريد أحسن من هذا؟ الأمر رائع، بخاصة حين نرى دولاً قائمة ولديها بلايين الدولارات لا يوجد فيها سينما. لا يستطيعون صناعة سينما، ببساطة لأن السينما فن مدن، وليسَ فن قرى. يجب أن يكون في داخل الشخص مدينة وليس قرية. ومن هنا يجب أن تنطلق انطلاقة المدني، بالمعنى الحضاري للكلمة. والآن كيف ترى مستقبل السينما الفلسطينية وأنت تحضّر لجيل جديد من السينمائيين الفلسطينيين الشباب الموجودين في عمّان في هذه الدورة؟ هؤلاء الشباب ليسوا مخرجين فقط. أحضرنا 28 شاباً وفتاة، موزعين مناصفة بين الجنسين بقصد واضح، من مناطق فلسطينية مختلفة تعذّر تجمعهم في الداخل، فأحضرناهم إلى عمّان، والتدريب في البداية يشمل كل شيء، وفي النهاية يوجه كل فرد منهم إلى المجال الذي نرى أنه مميز فيه، كالإخراج والسيناريو والتصوير وما إلى هنالك. وهل تحضّر الآن لأعمال جديدة؟ - كثيراً! لكنني لن أقول عنها شيئاً الآن. يمكنني أن أقول"رجعت القريحة"، وسيكون لي عمل العام القادم والعام الذي بعده وهكذا إن شاء الله. عرفنا الآن إلى أي هاوية سنذهب!