سيكون أمراً فادحاً أن تكون الشاعرة العراقية، المقيمة في بغداد حتى اليوم، فراشة تتنقل داخل النيران العظيمة التي تحرق بلادها من مدة طويلة. والناظر الى صورة الشاعرة المثبتة على غلاف مجموعتها الشعرية الأخيرة بعنوان"متى ستصدق أني فراشة"؟ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، يلاحظ الفتاة العصفور أو الفتاة الفراشة كاتبة القصائد التي تشبهها، وذاك الشبه العجيب بين طائر صغير أو كائن صغير وناعم وخفيف الجسم، متشكّل من طيف أو ضوء، وبين ريم قيس كُبّة: وجه أسمر نحيف بنظارتين وابتسامة خفيفة وعنق مشنشلة بعقد هو على الأرجح من أنتيكات بغداد القديمة، ثم ثوب أسود فوقه الساري الأخضر. ولريم نصيب من وجهها في قصائدها أو لقصائدها نصيب من وجهها. ثمة لطف أثيري في القصائد شبيه ببخار البراكين. وتعجب كيف لشظف العيش العراقي والقسوة البالغة التي تمارس على الجسد الطري للعراق... للمقابر الجماعية والموت الجماعي وقذارة الحرب وورشة القتلة... كيف لها مجتمعة أن تنتج لطف العبارة ورقة الإحساس والعبارة الصافية والرومانسية في الحب التي تكتبها الشاعرة؟ بل لعل ذاك يفرض هذا: الحرب تشدّ قلب الإنسان وعبارته الى الحبّ... فيغدو الشعر هو التعبير عن الحنان المفقود... لا وقت أفضل من أيام الحروب لكي تكون القصيدة ملاذ الإنسان... متنفسه ومخيلته... أمانه المفقود، ومنزله كبدل عن منزله المهدّم. فدم القصيدة هنا هو دم الكائن البشري بامتياز... اللغة الأخرى المشتقة من اللغة الطاغية. ومن البداية، تظهر القصيدة لدى ريم قيس كُبّة بمثابة وقت بين وقتين... القصيدة التي هي حفر للحدث الواقعي أو الافتراضي في الذات على صورة لغة وصورة وإيقاع. إن مطلع أولى قصائد المجموعة بعنوان"أمنيات"يلخص الحكاية:"بغتةً/ ذات قيلولةٍ للمدافعِ/ ما بين حربين/ كنا التقينا.../ حلمنا معاً/ أن تصير المدافن/ ساحات رقصٍ...". هكذا إذاً: إنها أمنيات"جندي يحلم بالزنابق البيضاء"- على حد تعبير محمود درويش وجميع الشعراء الذين كتب قدرهم لهم أن يكونوا شعراء في داخل الحروب الطويلة. إنهم شعراء الأمنيات المحترقة، أو الأمنيات في داخل المحرقة. والشاعر ملزم أن يبتكر أو يفتح بالفعل كوى في داخل المحرقة... يحترق بالفعل لكنه ملزم بأن يتنفس. ليس مسموحاً للشاعر هنا بالموت الاندثاري والقطعي فكأنه محكوم بالأمل... ولو دامياً أو كارثياً. تقول ريم في قصيدة: أما آن ألاّ نموت؟ وتسأل بلسان الليل وهو رمز ما للظلام أو الظلامية - في القصيدة على الأقل -: هل فكّر الصبح أن يستقيل؟ وفي القصائد التي هي أرشيف حرب وأرشيف حب أيضاً، ربما تشفّ الصور لأقصى حد، أو تقسو، وربما تصل الى حد اختلاط المعقول باللامعقول، فالشاعرة حين تقول عن نفسها تشبيهاً:"وأظنني سَمَك تماثل للجنون"، فإنها تأتي بصورة فائقة الحركة والتعبير مع مسّ سريالي:"السمك المتماثل للجنون".... من شدة الحركة وطيشها. كما أن صورة أخرى تخييلية، تصبّ في هذا الاتجاه، الذي، وإن كان فنتازياً، إلا أنه معبّر:"وأنا صراخٌ يابسٌ يعرى/ تماثل للعدم". فقيمة الصورة كائنة في القسم المادي المحض فيها"صراخ يابس"، لجهة جمود الصرخة التي هي حركة أو انبثاق صوتي متحرك... أما حين تجمد الصرخة أو تيبس فإنها الصورة الإبداعية عينها... كأنها صرخة"مونخ"في لوحته المشهورة"الصرخة"أو الرعب... والجملة التفسيرية التالية:"يعرى تماثل للعدم"تقلل من قيمة الصورة ولا تزيدها جمالاً لأنها تشرحها. الظل الحدثي وشبح الحرب يتركان ظلالاً على القصائد... من دون استثناء... حتى على تلك المؤسسة على الحب وهي كثيرة في المجموعة. ثمة إشارات لاكتمال العطب والحرائق والزفرات التي تتحد في النعوش والذئاب المنتشرة في الشوارع، وما إلى ذلك من مفردات القسوة. ولا تمنع غنائية الإنشاد، والأوزان الغنائية التي غالباً ما تستعملها الشاعرة على أساس التفعيلة المفردة - وليس الوزن الكامل - إلا في ما ندر.... لا تمنع هذه الغنائية من أن تحمل المعاني الجارحة أو المقلقة... أو الفاضحة للحلم والكاشفة للآمال الخُلّب: "مَدَياتُ حلمكَ/ شذّبوا أسماءها/ ورموا حنينك للكلاب". والضربة الشعرية هنا، في هذا المقطع، مزدوجة. فهي أوّلاً ناتجة عن الاستعارة استعارة المدية أو السكين للحلم والحلم عادة ما تستعار له الوردة... لكن أن تستعار السكاكين للأحلام، ففي الأمر صدمة. وهي ثانياً ناجمة عن تعفير الحنين وقتله وإهانته من بعد قتله:"ورموا حنينك للكلاب". وعلى العموم، وعلى رغم علوّ صراخ الحرب وقعقعة السلاح في العراق، فإن قصائد الشاعرة ليست إعلانية وصارخة... بل هي ميالة لاستبطان الحال، والى جوّانية ضرورية لهذا الاستبطان... فلسنا أمام قصائد إعلانية، بل تأملية..."أرفع قبعتي من أجلك/ فالحرب/ هي اللامعقول/ وأنت المعقول الأوحد/ في هذا الزمن المهتاج". ونسأل أنفسنا: هل الكتابة في"الزمن المهتاج"أصعب للشاعر أم أيسر؟ وما هو أثر زمن الخارج على زمن الداخل؟... أين يقف"زمن الكتابة"أو زمن"الكاتب"بين هذين الزمنين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال، جوهرية في توصيف أو تنسيب الصنيع الشعري لريم كبّة. لا نجد في قصائدها انزياحاً كاملاً عن موضوعة الحرب أو أي موضوعة أخرى للقصيدة... كما ليس ثمة من استبدال كامل لموضوعة بموضوعة أخرى... ولكن، ثمة حال بين حالين، أو منزلة بين منزلتين: دمج بين الخارج والداخل، أو تعشيق للخارج بالداخل... فالزنبق، على سبيل المثال، في قصيدة لها بعنوان"تحولات"هو الزنبق... لكنه زنبق حربي. كيف؟... من ناحية اللون: "الزنبق/ يستبدل/ لون الأبيض/ بالكاكي/ إذ تنشب عاصفة الصحراء". ثم من ناحية التحوّل: تحوّل الزنبق الى صبّار: "الزنبق يستبدل جلدته/ يصبح/ صبارْ". لا نستطيع أن نرى في هذا التحويل الشعري، أو التوليف الشعري، الكثير من الإبداع... إنه، على كل حال، تحويل لا يعلو على متوسط الشعر كثيراً... فهو مألوف، وغير توليدي بالمعنى المفاجئ للتوليد الشعري... وربما مضى ولم يترك في ذاكرتنا بصمة قوية... أو أثراً للتذكر الدائم، على غرار الشعر العظيم... تسجيل الصورة الاعتيادية حتى ولو كانت صادقة والإحساس الطيب تجاه العراق، لا يكفي لتوليد إبداع شعري... كأن تقول:"أيقنت أني قد كبرت/ وفي دمي/ أنثى تموت إذا خبا نبضُ العراق". لكن هذا المعنى الإعلاني عن ديمومة الوطن، ترتفع به الشاعرة قليلاً حين تخرج من أسر الإعلان وعاطفيته، الى فضاء الصورة الشعرية كأن تصورّ في قصيدة بعنوان"أجنحة"مجموعة من عصافير صغيرة يضم الواحد منها الآخر، وهكذا لنكون أمام كتلة عصافير مخنوقة في القلب:"ألقى في قلبي/ عصفوراً دامي العينين وحيداً/ يرقب عند الجنح الأيسر/ عصفوراً مخنوقاً/ يبكي وحدته/ ويضمّ جناحيه/ على عصفور في القلب/ وقد ضمّ الأصغر/ عصفوراً أصغر/ ضمّ عصافير...". لكن هذا المشهد المؤلف من تلّة العصافير الضعيفة والمخنوقة، التي ترمز بالتأكيد الى حال بشري عراقي بامتياز، لا تكتفي به الشاعرة لكي ينضح رمزه بتأويلاته وأبعاده، من دون شرح أو تفسير، فتضيف: "هي ذي أجنحتي/ من أحفاد الأحفاد إليّ/ تبكي أجنحةً فرّت من جسدي/ تصرخ وحشتها/ يا بلدي"... نَفَس ريم قيس كبّة في الشعر، لطيف، هادئ، ولكنه محدود. ليس لديها شراسة العبارة العراقية التي هي كمخالب الجوارح... بالطبع لها لطف الفراشات... ولمسات خفيفة من كهرباء الحنان والحب... فمعظم قصائدها يقع في دائرة الحب... حيث تتردد مفرداته من عين وقلب وفراشة وفي إحدى القصائد يتم التباس بين الفراشة والمرأة العاشقة..."حبيبي متى ستصدّق أني فراشة؟ وان الفراشة تسأل عاشقها كل يوم: متى ستصدّق أني شاعرة؟ لمتى ستظن أني فراشة؟"..... الخ. وفي النتيجة يمكن القول إن الشاعرة فراشة لطيفة خرجت من شرارات النار العراقية.