هناك من يبذلون جهدهم للتمييز بين العمليات التي تستهدف الجنود الأميركيين في العراق، وبين أعمال الخطف وقطع الرؤوس واستهداف المدنيين والبعثات الديبلوماسية ومراكز العبادة ودوائر الدولة وثروة النفط، فيتم احتساب الفئة الأولى، نشاطاً للمقاومة والثانية سلوكاً ارهابياً يشوه المقاومة. مضى وقت طويل على اجلاء هذا التمييز أو التفريق والتصنيف، من غير أن يتجلى ذلك موقفاً نقدياً ذا شأن وأثر في مجريات الأحداث. ولعل السبب وراء ذلك يكمن في واقعة لا يتوقف عندها المصنفون، وهي ان مجمل هذه النشاطات ومن الفئتين تصدر من مصدر واحد، وان كان هذا المصدر متعدد الأسماء والهويات واليافطات، فيتعذر والحال هذه توجيه الإطراء والتسويغ من جهة واللوم والتقريع من جهة ثانية للمصدر نفسه، كما يتعذر ترقب صدى أو أثر لهذا الموقف، الذي يميز بين نشاطات عنيفة، ولا يبلغ هذا التقويم مبلغ قراءة السياسة كلها، التي تصدر عنها هذه الأعمال المتواترة والمتعاظمة، والتي ينتظمها ناظم لم يعد خفياً على ذوي الألباب. وهذه السياسة إذ تتغطى برفض الاحتلال والحق في مقاومته، فإن نقطة انطلاقها هذه لا تلبث ان تقود أصحابها الى سلب سواد الشعب الحق في تقرير مصيره، وتحت طائلة تعطيل الحياة العامة والحرمان من الأمن الفردي والجماعي، وقطع موارد الرزق، وتقويض ادارات الدولة وتبديد الثروة الوطنية، والتنازع مع سلطة الاحتلال في فرض السطوة وبث الرعب، بغير ما تفويض أو تمثيل أو انتداب من أحد، وبالطبع بغير ما سند قانوني. وتشكل الحملة على المرشحين، من أفراد وأحزاب وجماعات، وعلى مراكز الاقتراع وعلى مفوضية الانتخابات، شاهداً اضافياً على النزعة الظاهرة للجماعات المسلحة في قطع الطريق على أي تمثيل وتفويض شعبي، واقامة حياة دستورية بحجة ان الانتخابات تجرى في ظل الاحتلال. وكأن الناخبين سيقترعون للمحتلين، وليس لأفراد وفئات يتخيرونهم من بينهم. وتلمح الجماعات المسلحة ومن يظاهرها على أن الانتخابات في وجود الاحتلال في منزلة الحرم الوطني بل الجنون، علماً أن تاريخ الاستعمار القريب في المنطقة يشهد على ان مجالس نيابية نشأت بوجوده، وأن جيوشاً تشكلت آنذاك، وكانت نواة لقوات مسلحة وطنية بعد الاستقلال. ويغفل هؤلاء ومن يواليهم ان تشكيل جمعية وطنية عراقية واستواء حياة دستورية، يفتحان الباب أمام انهاء وجود الاحتلال، كما في مقتضى القرار الرقم 1546، وهو ما نوه به الاجتماع الأخير لدول الجوار العربي والإسلامي للعراق في العاصمة الأردنية، كما ورد في الفقرة السابعة من البيان الختامي،"مهمة القوة المتعددة الجنسية في العراق تتمثل في التعاون مع الحكومة العراقية الموقتة لتوفير الأمن اللازم لسير العملية السياسية في العراق لحين اكتمال هذه العملية، حيث ستنتهي في تلك االمرحلة ولاية القوة المتعددة الجنسية وفقاً لما نصت عليه الفقرتان 4 و12 من القرار 1546". ولا ريب في ان الجدل حول موعد الاستحقاق وتنظيم اجرائه، أمر يختلف كلياً عن التهديد باستهداف مراكز الاقتراع والمرشحين والناخبين، ومن فئات ترى في الانتخابات بدعة وضلالة في كل حين وليس في ظل الاحتلال فحسب، كما يزعم هؤلاء المنقطعون عن كل تمثيل وتفويض من أي نوع، والذين يسعون لحرمان العراقيين من اقامة نظام تعددي تمثيلي، ينبثق من الإرادة الشعبية وترتضيه الغالبية، بما يفتح صفحة جديدة في تاريخ العراق ويسمح بوضع حد للإملاء الأجنبي بأوسع دعم خارجي. ومع ذلك فإن هناك حزبيين ومعلقين عرباً، تستهويهم المقاومة على هذا النحو، وحجتهم في ذلك أنها تؤذي الأميركيين أذى جسيماً، وذلك صحيح لولا أن أذى أكبر وكيانياً يقع على العراقيين في حاضرهم ومستقبلهم. ولو قيض للأميركيين الخروج اليوم أو غداً و"تحت ضربات المقاومة"كما في الأدبيات المنتشية، فإن ثمرة ذلك لن تكون الاستقلال أو استعادة السيادة، بل نزاعاً أهلياً دامياً، واغتصاباً جامحاً للسلطة من الجماعات التي تزاول النشاطات العنيفة على اختلافها. والبديل عن ذلك ليس بقاء القوة الأجنبية، بل ان ينتقل العراقيون الى وضع سياسي أكثر تماسكاً يتمكنون فيه من ارساء حياة دستورية منظمة، ويمتلكون فيه القدرة على مفاوضة القوة الأجنبية، من موقع يحظى بشرعية كاملة وبتفويض داخلي لا نزاع عليه، وعندها فإن القوة الأجنبية ستكون في وضع عزلة بأشد مما هي عليه في هذه الفترة، وبخاصة إذا ما جنح المستوى السياسي لهذه القوة الأجنبية، نحو الإبقاء على الوجود الاحتلالي. أجل يتعرض الأميركيون لضربات قوية من مقاومين، لكن العراقيين تنالهم بدورهم ضربات أشد وأعظم، إذا يحال بينهم وبين النهوض وبناء الذات الوطنية واستعادة بلدهم. وحين يتم على السواء استهداف القوة الأجنبية أو الكيان الوطني من شعب وثروة ومؤسسات، فإن ذلك يدل على ان هناك عطباً جوهرياً يستحق التنبه له والحذر منه، فهناك جهد محموم لاغتصاب السلطة مجدداً، وازاحة كل من يعترض هذا المسعى، سواء كان أجنبياً أو وطنياً. وتلك هي الرسالة غير الخفية لهذه المقاومة، وبما يمنح تزكية للمقاومة الأخرى: السياسية والمدنية التي ترمي الى صيانة مقدرات الوطن، واطلاق حيوية المجتمع وتأطيره في تعددية حزبية واعلامية وقضاء مستقل، وانتخابات عامة تفضي الى تشكيل جمعية وطنية تضع دستوراً للبلاد، وتنبثق منها حكومة كاملة الشرعية تتمتع بالولاية التامة لإدارة شؤون بلاد الرافدين، بما يضع حداً نهائياً للنفوذ الأجنبي، ويكفل بناء دولة القانون والمؤسسات التي طالما تاق اليها العراقيون منذ العام 1958، وذلك خلافاً لمقاومة عمياء، تجمع بين استهداف العدو المحتل، والانتحار واذكاء شرارات حرب أهلية مما يضعها في دائرة أسئلة جدية. * كاتب اردني.