اتخذت حال الفصام السائدة في المجتمع المصري بين ما هو شائع واقعياً، وما تود جهات رسمية أن يكون، منعطفاً جديداً بعدما دخلت معركة الحجاب مرحلة أخرى بفضل ما تم عرضه في شهر رمضان من برامج ومسلسلات. فعلى مدى الأعوام العشرين الماضية، زحف غطاء الرأس ليغطي رؤوس الغالبية العظمى من الشابات والنساء المصريات، ومنهن من طوّرته إلى حجاب بالمعنى المعروف، ومنهن من صعدته إلى نقاب، ومنهن من اكتفين به وحده مع اتباع أحدث خطوط الموضات العجيبة والمجنونة. حالة الفصام ظلت تعبر عن نفسها في شكل واضح وصريح ومثير للعجب على مدى كل هذه السنوات. فظاهرة الحجاب تزداد، والتلفزيون المصري بقنواته الرسمية لا أثر للحجاب فيه، باستثناء اللقطات الخارجية للبرامج التي تصور في الشوارع محجبات في كل ركن من أركان مصر، أو نسبة الضيفات اللواتي يستعان بهن للإدلاء بآرائهن في برامج الحوارات، أو غير ذلك. إلا أن كل ما يقدمه التلفزيون الرسمي كان يؤكد أنه يعكس وجهة نظر رسمية تفضل المظهر العلماني الليبرالي بغض النظر عن مدى التقارب أو التباعد بينه وبين الواقع الذي يفترض أن يعكسه. واقع اجتماعي مغاير وعلى رغم أن القنوات الفضائية غير الرسمية استوعبت هذه الهوة، إلا أن القنوات الرسمية أصرت على تجاهلها، ورفضها مجرد الاعتراف بوجود واقع اجتماعي مخالف تماماً لما تقدمه. وليس أدل على ذلك من منع أي مذيعة تقرر ارتداء الحجاب من الظهور على الشاشات الرسمية. وكان هذا قبل سنوات من قضية مذيعات القناة الخامسة التي نظرت فيها المحاكم أخيراً. فالمذيعة التلفزيونية كريمان حمزة ارتدت الحجاب قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، وسُمِح لها تقديم برامج دينية وهي ترتدي الحجاب. لكن هذا السماح لم يسر على من اتخذن القرار نفسه بعدها، مثل المذيعة كاميليا العربي وأخريات وذلك في أواخر السبعينات والثمانينات، إذ منعن من الظهور تماماً. ومع بزوغ نجم الفضائيات، لا سيما الفضائيات الدينية، وأبرزها قناة"اقرأ"، تمكّنت من استيعاب أولئك المذيعات المحجبات، واعتزلت أخريات، مثل كاميليا العربي التي ارتدت النقاب. وإذا كانت الغالبية العظمى من المذيعات لم يرتدين الحجاب، فإن الغالبية العظمى من المصريات اخترن العكس. وبغض النظر عن حلقات الجدل والنقاش التي تدور حول ماهية هذا الحجاب، فإنّ الواقع يؤكد أن الفتيات والنساء من مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية اخترن الحجاب. والغريب أن الدكتور شريف صبري مبتدع نظرية روبي في الغناء والرقص هو أول من قدم فيديو كليب للمطرب الشاب هيثم سعيد وهو يعكس واقع الحال. وبدلاً من أن يعرف الكليب باسم الأغنية"هم مالهم بينا يا ليل"، أصبح معروفاً بين عموم المصريين بپ"كليب المحجبة"، ذلك أن الموديل التي تظهر مع هيثم سعيد ترتدي حجاباً"عصرياً"، إن صح التعبير. وفي شهر رمضان أطلت على ملايين المصريين المذيعة المصرية المحجبة بسمة وهبة التي انتقلت في هذا الشهر من قناة"اقرأ"حيث كانت تقدم برنامجاً عنوانه"قبل أن تحاسبوا"إلى قناة"دبي"الفضائية لتقدم برنامجاً مختلفاً تماماً. البرنامج الجديد"مشاهير الحوار"خالٍ من الرقص أو الغناء أو الابتذال، كما أنه لا يعتمد على عبوس المذيعة، وقسوتها، وجمودها بقدر ما يعتمد على"لطافتها"وپ"خفتها"وقدرتها على"استفزاز"ضيوفها بأسلوب ناعم، وذلك خلافاً لپ"قبل أن تحاسبوا"الذي أطلق عليه البعض"قبل أن تيجي المذيعة وتحاسبكم"بسبب الاسلوب العابس والتعنيف النفسي الذي كانت تتبعه وهبة مع ضيوفها ممن"أخطأوا في دنياهم". كما ظهرت الفنانة منى عبدالغني التي ارتدت الحجاب قبل سنوات في مسلسل رمضاني هذا العام هو"أنا وهؤلاء"مع الفنان محمد صبحي، وهي قامت بدور سيدة عادية، إذ انها لم تقم بدور داعية أو شخصية ذات اسقاطات دينية أو غير ذلك. هذا الظهور لهذا المسلسل الذي لم يبثه التلفزيون المصري رسّخ بدوره فكرة أن المرأة المحجبة تعيش في المجتمع المصري، وإن كان السواد الأعظم من المسلسلات يقدم الصورة مختلفة تماماً. حتى لا يشعر المشاهد بأنها مسلسلات نابعة من مجتمع آخر غير المجتمع المصري. هذه الواقعية في نقل الصورة ظهرت في عدد من الأفلام المصرية في الأشهر الأخيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الفنانة أميرة فتحي التي ظهرت محجبة في فيلم"صعيدي في الجامعة الاميركية"، والفنانة منى زكي في فيلم"سهر الليالي"، والفنانة هند صبري في فيلم"أحلى الأوقات". ويبدو أن الجميع تنبه إلى ما هو حادث في المجتمع المصري ما عدا الحكومة. فأخذ كل في مجاله يغير من أساليبه واستراتيجياته ليناسب المرحلة. الكثير من مصانع الملابس ومحالها يخصص جزءاً كبيراً من خط الانتاج وواجهات العرض للمحجبات، محلات الكوافير لا تخلو من قسم خاص بالمحجبات، عدد من مدارس تعليم قيادة السيارات يخصص"معلمة"لتعليم النساء المحجبات القيادة. وتتعالى الأصوات مطالبة الحكومة بالاعتراف بوجود المحجبات باعتبارهن الشريحة الأكبر من النساء المصريات المسلمات، فإنكار وجودهن لن يفيد، وتجاهلهن له آثار غير محمودة.