كانت كلمة "المواطن" دائماً، ولا تزال، تتضمن مفهوماً ثورياً يستخدمه الفخورون بتحررهم من ربقة الاستبداد، واستخدمه الإغريق القدماء لتمييز أنفسهم عن رعايا أكاسرة فارس، وفراعنة مصر. وقد روى هيرودوت كيف ان مبعوثي أسبرطة خاطبوا قائد الفرس بقولهم: "أنت أدرى بحياة العبيد، غير أن جهلك بمذاق الحرية يحرمك من القدرة على وصفه بالحلاوة او المرارة"، كذلك يسجل اسخيلوس في مسرحية "الفرس" إدراك اليونانيين لتميزهم عن سائر الشعوب التي تخضع كما يخضع الأطفال السُذج لسلطان الفرد الواحد، وتستسلم للطغيان، ولم تصل بعد الى مشارف النضج السياسي الذي يجعل أفرادها مواطنين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ويلتزمون في ما بينهم مبدأ المساواة. فهم إذاً - بخلاف الاغريق - رعايا لا مواطنون، لا يد لهم في إدارة شؤون دولتهم، وما من سبيل قانوني أمامهم يحمون به مصالحهم وحقوقهم الطبيعية، ولا وسيلة لديهم لتغيير نظام حكم يكرهونه ويعانون من بطشه وظلمه إلا التمرد والثورة واللجوء الى العنف من دون الاحتكام السلمي الى دستور يحترمه الجميع، ويضمن الانتقال الهادئ من حكم مرغوب عنه، الى حكم مرغوب فيه. ويصف أرسطو في كتابه "السياسة" حكم المستبد في الدولة التي لا تعرف مفهوم المواطنة بأنه حكم لا يستهدف عادة إلا تحقيق مصلحة هذا المستبد وبطانته التي تعينه على طغيانه، لا خير أفراد الرعية ومصالحهم. فهو يدير شؤون تلك الرعية إدارته لضيعة خاصة ورثها عن أبيه. بل إنه إن صادف وكان مستبداً عادلاً، وسعى الى رفع مستوى معيشة شعبه وتحقيق الرخاء له، فهو دائماً كصاحب الضيعة يرى في ادارته الحكيمة لها خيراً شخصياً له، ولا يمكن ان يحقق حكمه لأفراد رعيته تلك الحرية الكاملة التي تواكب حكم المواطنين لأنفسهم، والتي تضمنها دستور يقر مبدأ تناوب السلطة، فإذا بمحكومي الأمس وقد غدوا اليوم حكاماً، وحكام اليوم وقد صاروا في غدهم محكومين. ولخص جان جاك روسو هذا المفهوم بقوله: "الشعب هو إما مجموع المواطنين المشتركين في السيادة، أو مجموع الرعايا ممن لا يسهمون في إدارة شؤون الدولة". فالمواطن إذاً هو إنسان يحكمه مواطنون مساوون له، يحكمونه باعتباره مساوياً لهم. وحيث أن أمامه دائماً فرصة أن يحكم "حكامه" في يوم ما، فإن المواطنة في المقام الأول لا تعني التحرر من الحكومة، وإنما تعني التحرر السياسي الكامل من طريق الحكم الذاتي، والالتزام بمبادئ تناوب السلطة، وعدم تدخل الدولة في أداء الفرد لواجباته المدنية، وعقيدته الدينية، وممارسته حقوقه كإنسان. وأضاف جون ستيوارت مل في القرن التاسع عشر مفهوماً آخر الى المواطنة حين تحدث عن ضرورة تربية النشء تربية تخدم مبادئ الديموقراطية والليبرالية، من طريق تنمية الفضيلة والذكاء والوعي فيهم، لا في المدارس وغيرها من معاهد العلم فحسب، وإنما في دائرة الأسرة أيضاً، حيث تكون "المصلحة العامة" في مقدم الأهداف التي يتطلع الشباب اليها، وحيث يدرّب مواطن المستقبل على أن يسلك مسلك المواطن فإن كان المطلوب ان يتصرف مواطن المستقبل باعتباره إنساناً حراً، فلا بد من تدريبه منذ نعومة اظافره على أن يكون تفكيره تفكير إنسان حر، وأن يكون له كامل الحق في التشكك والتساؤل والمجادلة. أو كما قال ملتون: "اذا صدق المرء رأياً لمجرد أن القس في كنيسة قد ذكره، أو أن المجتمع الذي يعيش فيه قد اعتنقه، من دون ان يعرف لهذا الرأي أسباباً ومبررات، فإنه حتى لو تبين أن هذا الرأي هو الصواب بعينه، يصبح هذا الصواب نفسه كفراً". فنحن هنا ازاء مطلب لن يكون ثمة غنى عنه متى حان الوقت كي يتولى هذا الشباب مسؤولية إدارة دفة الدولة، ومتى أردناه قادراً على أن يكون حاكماً ومحكوماً، بوسعه أن يحكم حكم الانسان الحر، وأن يطيع طاعة الانسان الحر، وهو الشرط الأول للمواطنة التي تعني - قبل كل شيء آخر - تمتع المواطن بحقوقه في مواجهة الجماعة والتزامه بواجبات تجاهها، ونعني بذلك حقه في المشاركة في صنع القرار، والتزامه بالمساهمة في النهوض بالاعباء العامة. اعداء المواطنة فإن انتقلنا بعد ذلك الى ما نلمسه في زمننا هذا من تآكل سريع في وعي الناس بمفهومي الوطن والمواطنة و هو تآكل ينذر في رأيي باندثار كامل لهذين المفهومين في المستقبل المرئي، وجدنا من أسبابه ودواعيه ما يلي: أولاً: نمو الادعاء بأن ثمة معايير تفوق في أهميتها وأولوياتها معايير الدولة والقومية والمواطنة، وهي المعايير التي يمثلها ضمير الفرد، وتعليم الاديان. وكان سقراط في الماضي هو المثل الكلاسيكي للفرد الذي يفضل الموت على أن يعصي ما يوحي به اليه ضميره، على أساس أن ثمة قانوناً أسمى من قوانين الدول ودساتيرها. كذلك كتب الامبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس يقول إنه على اتم استعداد لتكريس ولائه غير المنقوص للجماعة السياسية التي ينتمي اليها شريطة ان تشمل تلك الجماعة البشر كافة، لا الرومان وحدهم. وحين سادت المسيحية بعد ذلك ارجاء الدولة الرومانية ذهب فقهاؤها الى أن الانتماء الى مدينة الله يجُبّ المواطنة في أي جماعة دنيوية. وعلى رغم انهم لم ينكروا ضرورة إطاعة أوامر الدولة والالتزام بواجبات المواطنة، فقد أكدوا أنه حين يجد المسيحي التقي تناقضاً بين ما يقضي به قانون الدولة وبين ما يقضي به القانون الإلهي، فلا خيار أمامه إلا الانصياع للقانون الإلهي. أو كما ذكر توما الاكويني صراحة: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وهي عبارة استقاها من مقولة إسلامية. وعرفت جماعات من المسلمين منذ بداية الدولة الاسلامية - خصوصاً الخوارج - هذا الاتجاه المعادي للدولة متى قضت عقيدتهم الدينية بأنها آثمة، لا إسلامية، ولا تحكم بما أمر الله. وأدى ذلك الى إثارة الفتن الخطيرة والانقسامات والحروب الاهلية داخل الدولة، حتى اتخذ خلفاء وفقهاء الدولة الأموية، فالدولة العباسية، فسائر الأنظمة الحاكمة بعدهما، موقفاً حاسماً صارماً من ذلك التيار المدمر، متمسكين بما سموه المصالح العليا للأمة، ومروجين أحاديث نسبوها الى النبي، مثل "من أطاع أميراً فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني"، و"سلطان غشوم خير من فتنة تدوم" و"اطيعوا ولي الأمر منكم براً كان أو فاجراً" الى آخره. وظل هذا هو المبدأ المستقر والمقبول لدى جمهور المسلمين، والمعمول به في معظم حقب التاريخ الاسلامي مع استثناءات بارزة قُضي عليها بالفشل، بعد حين حتى ظهرت في القرن العشرين جماعة "الاخوان المسلمين" وما تلاها من جماعات إسلامية متشددة، وقادة ثوريين من أمثال الخميني، يصمون أنظمة الحكم التي يعادونها بالجاهلية، ويسخرون من فكرة الوطنية ومبادىء القومية ويطالبون اتباعهم بالولاء لتعاليم الدين ودار الاسلام لا لقوانين ودساتير من صنع البشر، ولا لأفكار معينة رَسَمت حدودَها إراداتٌ بشرية، ويعلنونها صراحة أنه لا حكمَ إلا لله، ولا مواطنة تتجاوز أو تقصر عند دار الاسلام ولا حق لغالبية وإن هي جاوزت 99 في المئة من أفراد الأمة في أن تغير أو تعطل نصاً للمشرّع الإلهي، وإن ارتأت هذه الغالبية ضرورة لمواكبة حاجات العصر ومواجهة تحدياته. وها قد بتنا نشهد في مصر مثلاً أناساً يفخرون بهجر انتمائهم لوطنهم، هم على أتم استعداد لإطاعة أمير جماعة إسلامية غير مصري كأسامة بن لادن في مسعاه لهدم استقرار مصر واقتصادها، بقتل السياح فيها وارهاب الاستثمارات الاجنبية الوافدة اليها. ولا شك في أن هذا التيار مع نموه وتزايد قوته قد فَتّ في عضد مفهوم المواطنة لدى المتشددين من أتباع الأديان كافة. وزلزل من المعنى الذي أرسى الاغريق دعامته، ثم تعهدته المبادئ الديموقراطية والليبرالية في أوروبا حتى قرننا هذا. العولمة والنظام العالمي الجديد فإن قال البعض منا إن هذا التأثير المناهض لمفهوم الوطن والمواطنة عند المتدينين المتشددين يرتبط وجوداً وعدماً بمدى قوة حركاتهم وقدرتها على توجيه مجريات الأمور في الأقطار التي تمارس نشاطها فيها، ثم يذهب الى أن الغالب أن تندثر هذه الحركات أو تضعف، كما اندثرت حركة الخوارج، نتيجة لمواجهتها لحاجات الدولة العصرية ولحتمية التاريخ، فلا مفرّ من الاعتراف بأن ثمة تياراً متنامياً آخر - هو التيار الداعي الى العولمة والى نظام عالمي جديد، يتنافى هو ايضاً مع مفهوم الوطنية، ويرى الكثيرون فيه تطوراً لازماً هو أشبه ما يكون بالظواهر الطبيعية. فأما حتمية العولمة فنتيجة للتطور التكنولوجي والاقتصادي، قادنا اليها دخولنا عصر ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، والدور الذي باتت تلعبه الاقمار الاصطناعية وشبكة "الانترنت"، وما أدى الىه تحرير التجارة الداخلية والخارجية وتنقّل رؤوس الاموال من تضخم علاقات التشابك التجاري والنقدي بين مختلف الدول التي اصبحت - أو هي في طريقها الى ان تصبح - سوقاً واحدة، تأخذ بمبدأ تقسيم العمل الدولي، وقرية كونية متجانسة لا مفرّ من أن تنصهر فيها الاقتصادات الوطنية والاقليمية، فتتحول الى اقتصاد عالمي شمولي موحد، لا يسمح بتدخل الدول لحماية مصالحها الاقليمية، أو تدخل الحكومات المحلية لحماية الشرائح العريضة من مواطنيها. واذ تضعف السلطة الاقتصادية للدولة تضعف سلطتها السياسية، وينكمش مفهوم المواطنة والانتماء القومي ليحلّ مكانه مفهوم أوسع مدى، أو ليندثر الى الأبد. وأما القائمون بحتمية قيام نظام عالمي جديد تنهض بأعبائه سلطة عالمية واحدة، فيذهبون الى أن عالم اليوم اصبح صغيراً الى درجة لم يعهدها من قبل، وأنه بات يواجه ظروفاً جديدة تجعل من التغيير أمراً ضرورياً، يقتضي من بين ما يقتضيه تنازل الدول عن سيادتها الاقليمية او جزء كبير منها، وتخلّي الشعوب عن مفاهيمها العتيقة عن المواطنة والوطنية. اكتسب الانسان خلال القرن الأخير سيطرة على قوى الطبيعة تفوق تلك التي كان ينسبها القدماء الى بعض آلهتهم، فصاعقة "جوبيتر" فاقتها القنبلة النووية. و"هرمس" رسول الآلهة بكعبيْ قدميه المجنحين كان بطيئاً اذا قورن باللاسلكي. و"هايجيا" ربة الصحة لم يكن في مقدورها تخليص البلاد من أمراض كالملاريا، وهو ما يستطيعه الطب الحديث في بضعة أشهر، ولم ينسب أحد إلى "سيريس" ربة الزراعة القدرة على تحويل صحراء قاحلة إلى أرض خصبة تنتج محصولات وفيرة من القمح على نحو ما هو في استطاعتنا اليوم. هذه القدرات الجديدة للإنسان، تعمل على إحداث تغيرات عظيمة سريعة في المجتمع الانساني. فالاتصال بالانترنت والطائرة جعلا الأرض كلها، من حيث الاتصال والنقل أصغر مما كانت عليه انكلترا في مطلع القرن التاسع عشر. والعالم الآن هو من الصغر حيث ينتج عن الحدث الجلل في أي دولة، رد فعل فوري في كل عاصمة، فإن نشبت حرب فالحرب عالمية، وإن حلت أزمة اقتصادية خطيرة في بلد ما اصبحت الأزمة عالمية. والظروف الطبيعية للدولة العالمية التي اعتاد الفلاسفة الكتابة عنها في الماضي باعتبارها مثالاً أعلى قد يمكن تحقيقه في المستقبل البعيد جداً، فُرضت الآن علينا فرضاً وعلى نحو مفاجئ، غير أن هذه الدولة - حتى الآن - تسودها الفوضى وعدم التنظيم السياسي والحروب الأهلية. وتضاؤل العالم على هذا النحو، وغيره من التغيرات التي أحدثها تقدم في العلم لم يسبق له مثيل حطم البنيان السياسي الذي عرفه القرنان التاسع عشر والعشرون، فغدا من المستحيل أن تعاد إقامة هذا البنيان على النمط القديم. حاولنا ذلك عقب الحرب العالمية الأولى ثم عقب الحرب العالمية الثانية، فتمايل البناء الاول ثم انهار، ثم ها هو البناء الثاني يتهدده الانهيار ما لم نبادر الى إدخال تعديلات جوهرية عليه، فالمجتمع الانساني في حاله الراهنة من التحول السريع هو أشبه بالحشرة في دور التكوين، فقد تتحول الدودة الى فراشة أو قد تموت، غير أنه لن يمكنها أن تعود دودة من جديد، والعالم الذي عليه اليوم ان يجابه مشكلات الطاقة النووية والقوى البيولوجية الحديثة لا تقل عن الطاقة النووية قوة، ومشكلات الأمن والغذاء العالمي، وتلوث البيئة، والانفجار السكاني والسيادة القومية. والبديل الوحيد لانهيار مدنيتنا هو إعادة تنظيم الأوضاع إعادة شاملة حتى تتفق مع نظام عالمي جديد يوجه القوى الجديدة نحو غايات نافعة، ويراعي المصلحة المشتركة وهي استمرار بقاء المدنية على حساب المصالح القومية الضيقة الأفق، ويحول قوى العلم الحديث تدريجاً من انتاج الاسلحة الحربية الى خلق الثروة والقضاء على الفقر والجوع والمرض، وعلى القلق الاجتماعي الناجم عن هذه الشرور والذي يشكل السبب الرئيسي للحروب. وباتت الآن إدارة العالم كله باعتباره وحدة واحدة ايسر من إدارة دولة كبيرة واحدة قبل قرن مضى، بل من ادارة مدينة واحدة في حوالى القرن الخامس قبل الميلاد، فالصعوبة إذاً ليست صعوبة تنظيمية، وإنما الصعوبة هي في تهيئة الشعوب للتخلي عن عادات ومفاهيم راسخة لديها، كالتعلق بالسيادة الوطنية والمشاعر القومية. تغير القيم والاخلاقيات كل من الاعتبارين السابقين يمكن أن يجد له انصاراً ومدافعين: الأول من المتشددين المتمسكين بأهداب الدين، والثاني من المدافعين عن العولمة أو المنادين بسلطة عالمية واحدة. أما الاعتباران التاليان في قائمة الاعتبارات التي تنخر في لبّ مفهوم المواطنة فلا أحسب أن ثمة من يمكنه الذود عنهما، او التماس الأعذار لهما. الاعتبار الثالث هو ما طرأ على قيمنا وأخلاقياتنا من تغيير، خصوصاً لدى الشباب، ما يجعل من قراءتنا للنص الذي اقتبسناه لتوّنا من جون ستيوارت مل عن ضرورة ترسيخ مفهوم المواطنة والحرص على المصلحة العامة لدى النشء امراً مفجعاً. فلو أنني سئلت عن أبرز خصائص شباب هذا الزمان في أقطارنا العربية، وربما في غيرها ايضاً، لأجبت بأنه التعجل ونفاد الصبر، فما من أحد عاد يطيق الانتظار او التدرج، او يؤمن بضرورة المران وإعداد النفس، او يقبل "إضاعة" الوقت في النمو. وقد أضحت كلمة "الغد" وتعبير "في الوقت المناسب" مرفوضين تقريباً من الكافة، كما تحوّل "الأمل في بلوغ أمر أو نوال شيء في خاتمة المطاف"، الى مجرد رغبة جامحة في بلوغه او نيله في التو والساعة، فإن لوّحت لهم بكلمة "المستقبل" أعرضوا وازورّوا بوجوههم، وأجابوك بأن المستقبل هو الآن. باتوا ينظرون الى سنوات التحصيل والدراسة باعتبارها عبئاً لا مبرر له، وعقبة تعسفية تعوق الشروع فوراً في الانخراط في الحياة "الحقيقية". وخريج الجامعة متى نال غرضه وحصل على شهادته، لا يفكر في الالتحاق بالعمل الكفيل بتحقيق ذاته، أو خدمة وطنه وبني قومه او الذي يتفق مع ميوله واستعداداته الذهنية، وإنما يبحث عن العمل الذي يدرّ عليه أعلى دخل مباح لأمثاله في السوق، كوظيفة في بنك او في هيئة أجنبية او شركة من شركات التصدير والاستيراد، او خارج وطنه في دولة منتجة للنفط، واسهمت هذه النقطة الاخيرة اسهاماً خطيراً في زعزعة مفهوم الوطن والمواطنة، فقد بات شعار الشباب هو "ليس بينك وبين بلدٍ نَسَب، خيرُ البلاد ما حَمَلَك" أو قولة علي بن أبي طالب: "الغِنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غُربة"، فإن هو أقدم على الزواج حرص هو زوجته على أن تتوافر في مسكنهما الكماليات كافة دفعة واحدة، رافضين في سخرية فكرة "بناء طوبة طوبة في عشّ حبنا"، فالكل يريد الثروة الفورية والرفاهة الكاملة وقد تمكنت من عقله فكرة ان من لا يملك الاثنين منذ البداية فلن يمتلكهما ابداً. ومن يقبل في مستهل حياته العملية مركزاً صغيراً فسيظل فيه على الدوام، وهو ما قد يفسر لنا قبول بعض المنحرفين الانخراط - ولو مرة واحدة - في نشاط غير مشروع، تمكنه حصيلته منه من وضع أساس للحياة الرغدة التي لا يقبل عوضاً عنها، كما يفسر لنا انتشار ظاهرة الزواج من غير حبّ، بل شيوع الاستخفاف بعاطفة الحب ذاتها، متى سنحت فرصة الاقتران بزوج ثري أو زوجة ثرية، وظاهرة افتقار التجار والوسطاء ومقاولي البناء، بل والكثيرين من الاطباء والمحامين وغيرهم من المشتغلين بالمهن الحرة، الى أدنى مستويات الذمة والأمانة. كيف يمكن في مثل هذا الجو، ان تخطر في الأذهان فكرة الوطن أو تنشغل العقول بمفهوم المواطنة؟ حديث الكافة وشغلهم الشاغل انحصرا في وسائل الكسب السريع. الكادحون يلهثون وراء "القرش" ومن توفرّ له "القرش" أراده "قرشين"، فقد امحت الفوارق في هذا الشأن بين الطبقات، واستغرقت فكر الاغنياء والفقراء على السواء سبل تحصيل المال، فالجميع فقراء بالمعنى اللغوي لكلمة الفقر، وهو الحاجة، والجميع مرهق يلهث وساخط يتأفف. كان ثمة في مجتمع صباي وشبابي تجار، غير أن الناس كانوا وقتها فريقين، تجاراً وغير تجار، وقد أضحت الكافة الآن ومن دون استثناء تقريباً - تجاراً، لا فارق بين بائع "الشاورمة" على قارعة الطريق، وبين استاذ الجامعة أو المدرس أو الصحافي أو الديبلوماسي أو الطبيب او من شئت، وقد انتُهكت أعراض الجميع. ومن الظلم أن نصم "المومس" وحدها بأنها بائعة العرض، فما فعلته لا يتجاوز ما يقترفه الكل في حق أنفسهم، وللدافع نفسه وربما بصور أكثر دناءة. فإن نحن نظرنا الى من اعتزل دنيانا و"تدروش" فإنما ننظر الى الوجه الاخر من العملة نفسها: أناس عجزوا عن المدافعة، وكانوا أضعف من أن يطأوا غيرهم تحت أقدامهم، فاختاروا إدانة المجتمع كله على أساس من الدين، حتى لا يفقدوا احترامهم لأنفسهم. كيف يمكن في مثل هذا المناخ ان تنتعش حياة ثقافية، أو يكون هناك فكر أو فن، اللهم إلا ان كان فكراً تجارياً، وفناً تجارياً؟ فإن كان الاساتذة الجامعيون أضحوا يتاجرون بالعلم، وملائكة الرحمة بالرحمة، فماذا يحول بين الأديب او الصحافي او الفنان بين أن يبيع قلمه أو فنه لمن في يده سلطة إغراق الأموال أو التعيين في المناصب؟ لقد دار الزمان دورته، وعاد الفنان والأديب الى ما كان عليه حالهما وقت أن كانا عاجزين عن الاعتماد في الكسب على الجماهير، وكان كل اعتمادهما على سلطان يكافىء على قصيدة مديح، أو أمير على صورة ترسم له. إذ كيف يمكن الاعتماد على جمهور من أناس لا يعدو تفكيرهم الانشغال بالكسب، خصوصاً ان هدف الاديب والصحافي والفنان في زمننا هذا لم يعد مجرد الحصول من الممدوح على ما يعينه على مواجهة اعباء الحياة، وإنما اصبح الاستمتاع، وإلى أقصى حد متاح، بأطايب الحياة ومباهجها، وهو ما ليس بالوسع اعتماداً على القلة القليلة المتضائلة ممن لا يزال بمقدورها تقدّر ادباً أو تسيغ فناً؟ الاعتبار الرابع والأخير ثمة قولة شهيرة قالها ابيقور لحاكم اثينا لا أجد خيراً منها لاختتام مقالي هذا، سأله ابيقور: "أراغب انت في علاج المفاسد ولكنك غير قادر؟ إذاً فأنت غبي. اقادر أنت على علاج المفاسد ولكنك غير راغب؟ إذن فأنت شرير. أراغب انت في علاج المفاسد وقادر عليه؟ فمن أين إذاً جاءت كل هذه المفساد التي تحيق بنا؟". وما قصدي من ايراد هذا النص إلا أن اشير الى أنه من أخطر ما بات يتهدد مفهوم الوطن والمواطنة في الكثير من دول العالم، ويعطله في أذهان الناس والشباب منهم بخاصة، اهتزاز صدقية الحكام لدى الشعب بتأثير انتشار الفساد في دوائر السلطة، وتزايد جشعها وحرصها على تحقيق مآربها الذاتية من دون خدمة مصالح المواطنين أو الرعايا وقمعها حرية التعبير عن الرأي متى رأت في هذه الحرية خطراً على استمرارها في انتهاج الطريق المعوجّ الذي تنتجه، بل إنه كثيراً ما يصل هذا الاعوجاج حداً تبدو الصورة معه وكأنما لا فارق بين ان تتبنى السلطة سياستها الآثمة بكامل حريتها واختيارها، وبين ان تتبناها نتيجة ضغط وتوجيهات من العدو الاجنبي للدولة، والأرجح ان يدور التساؤل في خلد الشعب، إذ يتأمل سلوك حكامه، عما اذا كان الوضع سيختلف اختلافاً كبيراً او ضئيلاً لو أن العدو شارك فعلاً في مداولات كبار رجال الدولة، وتقدم اليهم بتوصياته في شأن ما يتخذونه من اجراءات، وينتهجونه من سياسات؟ نضيف الى ذلك أنه مع التقدم في طريق العولمة، سيتزايد عجز الحكومات عن اتخاذ المبادرة من اجل اجراء الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الضرورية في الدولة، ومن أجل الدفاع عن الثقافة القومية ضد حضارة "التنميط" التي تسعى العولمة الى فرضها، وسيقتصر دورها على حراسة المصالح المالية لرجال المال والأعمال، وضمان مزاولتهم لنشاطهم في جو من استتباب الأمن والنظام من دون مراعاة البعد الاجتماعي، أو الاهتمام بسد حاجات الطبقات الدنيا، ومن دون ان ترى ثمة حاجة الى اشراك الناس في اتخاذ القرارات ورسم السياسات الاقتصادية الجديدة، أو حتى الى موافقتهم عليها. عندئذ يتحول المواطنون الى رعايا من جديد، ويتخلقون - كما ذكر هيرودوت - بأخلاق العبيد، لا يد لهم في إدارة شؤون دولتهم، ولا يعرفون مبدأ المساواة، ولا ثمة من يذكرهم بمبادىء تداول السلطة، او حتى بحقوق الانسان. والمؤكد أن الاحساس بضياع الحقوق سيقضي بدوره على الالتزام بالمساهمة في النهوض بالاعباء العامة، وأداء واجبات المواطنة، ومراعاة "المصلحة المشتركة"، وقتها لن نجد غرابة في ان تمتد يد من نافذة السيارة الفارهة لإلقاء قشر البرتقال في الطريق العام، او في أن يدير كل منا مذياعه بأعلى صوت من دون مراعاة لراحة جاره، أو أن تلقي الخادمة بالقمامة أمام مسكن الجيران، أو أن تذيع مكبرات الصوت الاغاني وغيرها فتزعج أهل الحيّ بأسره، أو أن يطوف الصبية في أرجاء الحدائق العامة يقطفون أزهارها ويقطعون في غل وتشف فروع أشجارها، وسائر ما نلمسه في كل ساعة ولحظة مما يدرج في باب غياب الإحساس بالمواطنة. * كاتب مصري.