إذا استثني معرض"فيينا 1880-1938"الذي نُظّم في مركز بومبيدو عام 1986 فلم يُخصص حتى مطلع القرن العشرين في فيينا أي معرض في فرنسا إلى اليوم، على رغم أهمية هذه الحقبة المجيدة في تاريخ الفن الحديث. وهذا ما يجعل من المعرض الذي افتُتح أخيراً في"القصر الكبير"باريس تحت عنوان"فيينا 1900"حدثاً فنياً ذا أهمية بالغة. ففي كل مرّة كانت تتم فيها مقاربة هذه الحقبة في فرنسا، كان ينحصر الاهتمام بالتيار الانطباعي أو التوحشي أو التكعيبي. وللمرة الأولى يتم تعديل هذه النظرة الفرنسية الضيقة من خلال الكشف عن ميول أخرى لعبت في تلك الفترة دوراً مهماً في عملية تحديث الفن في أوروبا. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن باريس شكّلت خلال تلك الحقبة المختبر الأول الذي تبلورت فيه الأساليب الفنية الحديثة. لكن مدناً أوروبية أخرى شهدت أيضاً نشاطاً فنياً مهماً ولعبت دوراً لا يمكن إهماله في عملية التحديث التي كانت جارية، مثل ميونخ ولايبزيغ وشتوتغارت. فقط فيينا كانت قادرة على منافسة باريس نظراً إلى الغليان الثقافي الذي كانت تشهده آنذاك في ميدان الفن التشكيلي، ولكن أيضاً في ميادين أخرى كالسياسة والاقتصاد والفلسفة والعلوم والموسيقى والمسرح والأدب والشعر. ولعل هذا ما يشرح إهمال الفرنسيين للفن النمسوي متحججين بأنه مجرّد فن"تزييني"، تماماً كما أهملوا الفن الألماني لفترة طويلة ولكن لاعتبارات أخرى. ويجب انتظار عام 1980 كي يقتني متحف"أورسيه"لوحة لغوستاف كليمت هي الوحيدة إلى اليوم الموجودة في فرنسا من أعمال هذا الفنان، بينما لم يكترث بعد أي متحف فرنسي في اقتناء لوحة واحدة للفنان إيغون شيلي! ويقارب المعرض الحالي الذي تنظّمه جمعية المتاحف الوطنية بالاشتراك مع متحف"أورسيه"، خصوصيات الفن النمسوي عند مطلع القرن العشرين ومسألة انتقاله من الأسلوب الرمزي إلى الأسلوب التعبيري، من خلال مئة لوحة حققها أربعة فنانون هم: غوستاف كليمت وإيغون شيلي وأوسكار كوكوشكا وكولومان موزر. وتغطي هذه اللوحات فترة تمتد من العام 1890، تاريخ أول لوحة رسمها كليمت، وحتى العام 1918 الذي توفي خلاله كليمت وشيلي وموزر. وأول ميزة تتراء للمتأمل بأعمال هذه الحقبة هي انجذاب الفنانين النمسويين باللوحة المحمّلة بالأفكار والمشبّعة بالمعاني والرموز. ويمكن التحدث في هذا السياق عن"ذاتانية"استبطانية ستطغى أيضاً على التيار التعبيري النمسوي. وعلى خلاف المستقبلية الإيطالية وتمجيدها للعالم المعاصر وديناميكية المدن الكبرى، أو التوحشية وتفجيرها الألوان الفاقعة ورسوخها السعيد في العالم الدنيوي، يظهر في أعمال كليمت وشيلي وكوكوشكا ميلٌ صوفي من دون أي بُعدٍ ديني. وعلى مستوى التنميق الجمالي، بقي ممثّلو الحداثة النمسوية في علاقة وثيقة مع المهن الحرفية التي عرفت آنذاك فترة ازدهار كبيرة. إذ تذكّرنا لباقة رسوم كليمت بالإنتاج المتّقن لمحترفات فيينا، كما تتغذى أعمال كوكوشكا وشيلي أيضاً من مصادر فنون الزخرفة. وحتى بعد عبورهما إلى التعبيرية، لن يتخلى هذان الفنانان عن هذه الثقافة، كما تشهد عليه موضوعاتهما اللاحقة التي تبقى وفية للجمال التزييني. غوستاف كليمت الابرز وأبرز وجه فني في فيينا عند مطلع القرن العشرين هو غوستاف كليمت 1862-1918 الذي لعب دوراً كبيراً في تجديد فن الرسم في موطنه، إن من خلال نشاطه الفني أو بواسطة شخصيته اللامعة وموقعه كمؤسس لحركة"الانفصال"الفنية النمسوية. وهو أيضاً الفنان الذي حقق عملية الانتقال من فنٍّ مرجعه التاريخ والأسطورة إلى فنٍّ يرتكز على الرمزية وما بعد الانطباعية، يتم داخله التعبير عن أزمة الفرد. وبالفعل، لم يكن ممكناً تصوّر أو تحقيق البورتريهات السيكولوجية والأجساد التي تتميّز بتعبيرية حادّة التي سيحققها الجيل اللاحق، لولا لوحاته التي ألهمت أيضاً كوكوشكا وشيلي في شكل كبير. ويظهر كليمت من خلال اللوحات المعروضة كفنان مجدِّد في شكل دائم بلغ بتأسيسه رؤية جديدة مبنية في شكل كاملة على النمنمة والتزيين والاستخدام المفرط للعربسة أو الخطوط المستقيمة. لكن تطوّر فنه حصل تدريجاً وفي شكل متواصل مع بداياته وبتوافق مذهل مع فنون الهندسة والزخرفة المعاصرة له والتي تأثرت بدورها بأسلوبه. ومثل كليمت الذي ظهر كفنان مكمّل للأسلوب الزخرفي المفخّم قبل أن يصدم جمهوره برؤاه المتشائمة للعالم ولوحاته التي تتميز بإروسية فجّة، سيسير كل من أوسكار كوكوشكا 1886-1980 وإيغون شيلي 1890-1918 في الاتجاه ذاته فيتخلل مسار كل منهما فضائح مثيرة. وتمنحنا سلسلة مطبوعات كوكوشكا"الأطفال الحالمون"1908 الموجودة في المعرض، والتي سيهديها الى كليمت، مثالاً عن العالم الخارق والحُلُمي الذي كان غارقاً فيه آنذاك. ويشهد موضوع العري الذي سيعالجه باستخدامه صبياناً وفتياتاً أو برسمه أعضاء بشرية تتداخل في ما بينها، على نزعة طبيعية تم تخطّي حركيتها وأسلوبها. ويتبيّن في هذه الأعمال أيضاً تأثّره الأكيد بمنحوتات جورج مين وفردينان هودلر. لكنه لن يلبث أن يتخلى عن هذا الأسلوب ليصبح"الولد المزعج"في فيينا مع البورتريهات التي سيحققها بعد عام 1909 ودراساته حول موضوع العري التي تتميز بتعبيرية مفرطة، كما تشهد عليه لوحة"القاتل، أمل النساء"الموجودة في المعرض. وسيبدأ إيغون شيلي أيضاً مساره الفني داخل تيار"الأسلوب الحديث"النمسوي. لكنه سيتخلى عن القوانين الجمالية لهذا الأسلوب عام 1909، وإن في شكل أقل راديكالية من كوكوشكا. وستتميز الزهور والأشجار والبورتريهات والأجساد العارية التي سيرسمها بتعرّجات مقرّنة وبزوايا حادة تتناقض مع الخطوط المتموّجة المعتمدة في أعماله السابقة. وسيركّز شيلي اهتمامه على سحنة موديلاته وحركاتها. أما الرسم، وسيط الفنان المفضّل، فيمنح في شكل ظاهر بنية لوحاته. وعلى عكس كوكوشكا الذي يعتمد في رسمه على الألوان وطريقة وضعها على اللوحة، يستند رسم شيلي على وضعيات موديلاته وقاماتها وتنظيمها البنيوي. أما كولومان موزر 1868-1918، رفيق درب كليمت والذي أسس معه حركة"الانفصال"، كما أسس مع الفنان جوزيف هوفمان"محترفات فيينا"، فسيدافع طوال مساره الفني عن موقف يرتكز الى الوفاء للإرث الرمزي، وذلك في كل الموضوعات التي قاربها: العري، البورتريه والطبيعة، بعيداً من الاحتدام الشكلي لتعبيرية كانت قد بدأت تفرض ذاتها.