فجأة عندما توفي في 1984 عن تسعة وخمسين عاماً لم يستفد من تقليد احترام الموتى الشائع."خطوة مهنية جيدة"قال غور فيدال بلؤم عن زميله ترومان كابوت الذي بقيت سنيناً يقول انه يكتب"صلوات مستجابة"في الوقت الذي لم يكن يكتب شيئاً. اختفى بعد وفاته ثم صحا فجأة في هوليوود التي حققت فيلمين عنه العام الماضي. فيليب سيمور هوفمان بطل"كابوت"لا يشبه الكاتب الضئيل بشيء لكنه قد يرشح لجائزة أوسكار عن دوره. في 1966 ترك كابوت شقته في بروكلين على عجل بعدما رمى رسائل وأوراقاً خاصة وأربعة دفاتر مدرسية كتب عليها روايته الأولى. أنقذها خلفه في الشقة من الاختفاء بين النفايات، والعام الماضي عرضها ابن شقيقه على دار سوذبيز للمزاد بعد وفاته. اختار ورثة الكاتب محامياً داهية قال ان شراء المخطوطة لا يشمل حق نشرها. أحبط همة الحالمين بالربح، وكانت من نصيب مكتبة نيويورك العامة. بعد نشرها في أميركا صدرت في بريطانيا أول الشهر الجاري عن دار بنغوين، وكشفت الوعد الساطع لدى الفتى وبذور روايته الشهيرة اللاحقة"إفطار في تيفاني". سحر كابوت بالأثرياء والمشاهير منذ صغره، وطاف ملاهي نيويورك مع أونا ابنة الكاتب المسرحي أوجين أونيل وصديقتها الثرية غلوريا فاندربلت. عمل كاتب اعلانات في"ذا نيويوركر"لكن الصحيفة طردته عندما ترك قاعة كان الشاعر روبرت فروست يلقي قصائد فيها. زودته الفتاتان خلفية"عبور الصيف"واختار اسم غريدي اونيل لبطلته التي ترفض مرافقة ذويها في جولة أوروبية لكي تبقى قريبة من حبيبها اليهودي الموظف في موقف للسيارات، يعتقد الأهل ان زواج ابنتهما من صديق طفولة من طبقتها مسألة وقت، لكن ميول بيتر تبقى غامضة على رغم رغبته الاقتران بها. عامل المصعد في المبنى الذي تقطنه غريدي واضح كالكاتب، وهو ينظر الى صديقها"والحب يملأ عينيه خلسة". جو الرواية بدا نائياً عندما قصد ألاباما في الجنوب إثر طرده من عمله. بدت"ضعيفة بلا مشاعر"وإن كانت"كاملة تقنياً"قال."كانت لغة أخرى، جغرافيا روحية سرية تبرعم داخلي"على انه التقط بمهارة مشاعر شخصياته وسلوكهم وإن كانت"عبور الصيف"أقل متانة وتعقيداً من"أصوات أخرى، غرف أخرى"التي كانت روايته الرسمية الأولى ورسخت اسمه. يركز فيلم"كابوت"على الحقبة التي كتب فيها"بدم بارد"غير الروائي. استند الى قتل مشردين اسرة في كانزاس في 1959، واستغرق البحث والكتابة ستة أعوام. يصور الفيلم الجانب القاتم في الكاتب الغريب المثلي الذي بقي هامشياً منذ أهمل وهو طفل. قابل كابوت القاتلين مراراً واعتبره هذان حامياً وصديقاً لكنهما تسببا له بوجع الرأس والروح. لم يستطع نشر الكتاب وهما حيّان، وبدا انه انتظر موتهما بلا نهاية لكي يصدره ويؤكد انه ليس خفيفاً أو انثوياً. لم ينقذه إعدامهما ونشر الكتاب الجدي. خضع لانهيار بطيء طويل عالجه بالشرب والمخدرات، وانتهى معه ككاتب قبل أن يموت ويستحسن غور فيدال خطوته المهنية الجيدة. سيرة رجل حقيقي غار آرثر كونان دويل من شرلوك هولمز وشكا انه يحجب"أعماله الأرقى". ابتكر الكاتب السكوتلندي التحري المدهش مورداً للرزق، وادخر مواهبه الحقيقية لروايات عن فرسان القرون الوسطى وأعمالهم المجيدة. لكن قصص التحري التي كتبها بسرعة تركت بطلاً خالداً في حين هبطت رواياته التاريخية الى ما دون الوسط. لم تواز الواحدة من هذه"مئة شرلوك هولمز"كما أحب أن يعتقد، ولم تجلب بطولات فرسانه"الرجال"سوى الضحك. بعد جزءين لقصص شرلوك هولمز صدرا العام الماضي، يصدر اليوم الجزء الثالث والأخير مزوداً بحواش كثيفة للزلي كلينغر ورسوم أصلية عن دار نورتون. ضم الجزءان الأولان ستاً وخمسين قصة صدرت في مجلة"ستراند"بين 1887 و1927، ويحوي الجزء الجديد أفضل قصص هولمز"كلب باسكرفيلز"وأول قصتين منشورتين"دراسة بالقرمزي"وپ"إشارة الأربعة". لم يهتم دويل بمراجعة قصص تحريه فارتكب اخطاء كثيرة أوجبت على كلينغر التصحيح والتوضيح. زوجة الراوي الدكتور جون واتسون تنسى اسمه وتناديه"جيمس". أصيب الطبيب في حرب أفغانستان الثانية لكن الجرح يتنقل بين ذراعه ورجله. هولمز واسع الاطلاع لكن المعلومات التي يوردها في الكيمياء والآثار وعالم الحيوان ليست صحيحة بالضرورة. يهجس كلينغر بالتحري بقدر ما يحتقره دويل. يحصي ضحكه 292 مرة ويبحث في احتمال كونه امرأة وفي زواج واتسون من امرأتين. لا يزال هولمز يتلقى رسائل من مختلف انحاء العالم تطلب مساعدته لحل قضية ما، ولا شك لدى مرسليها في صحة العنوان: 221 ب، بيكر ستريت، لندن، غرب 1. اختير هولمز مع سانتا كلوز وميكي ماوس الشخصيات الغربية الثلاثة التي يعرفها معظم الناس. منذ أصدر وليم بيرينغ - غولد"سيرته"الأولفى في 1962 تبارى أنصاره في إثبات وجوده الحقيقي. صاحب العقل البارد يناقض لا عقلانية هؤلاء لكن البطل يلبي الحاجة الى الهروب. لجأ القراء الى هولمز ذي القدرة العقلية الجبارة لكي ينسوا مشكلاتهم الخاصة والعامة، وآمنوا بفوزه الأكيد على الغرباء الأشرار الذين حملوا معهم التهديد لإنكلترا. في"إشارة الأربعة"يستخدم سكان جزيرة اندمان الهندية مزامير ينفخونها فتخرج منها سهام تجرح وتقتل، وفي"دراسة بالقرمزي"يأتي الشر من أتباع طائفة المورمون الذين يتزوجون النساء بالجملة في الوقت نفسه. كتاب آخر صدر أخيراً لنك رينيسون الذي فحص قصص دويل لمعرفة"الرجل"خلف الشخصية."شرلوك هولمز: سيرة بلا اذن"صدرت عن دار أتلانتيك وفصّلت"حياة"هولمز الذي نشأ طفلاً منعزلاً في شمال يوركشير كان أقرب الى المصابين بالتوحد لذا تلقى دراسته أولاً في المنزل. لم يكمل دراسته في كمبريدج والتحق بفرقة تمثيل وعمل في الاستخبارات التي ساهم في تأسيس مؤسستيها الداخلية"أم آي 5"والخارجية"أم آي 6". اختفى بين 1891 و1894 عندما حاول دويل التخلص منه بعدما قفز فوق شلالات رايكنباخ في سويسرا وهو يلاحق عدوه البروفسور موريارتي. أتى البعض بتبرير فاضح لاختفائه وقال ان التحري تنكر كتاجر تبغ وذهب الى روسيا تلبية لدعوة من الكاتب انطون تشيكوف. كاتب السيرة الجديدة أكثر منطقاً. اختفى هولمز في الواقع لأن مايكروفت، شقيقه الموظف الكبير في الاستخبارات، كلفه مهمات جاسوسية! ملحق"صانداي تايمز"الثقافي ذهب باللعبة الى آخرها. إذا كانت كتابة سيرة الشخصيات الروائية ممكنة، ما الذي يمنع مناقشتها؟ لا يمكن أن يكون هولمز عمل للاستخبارات لإحساسه باللاإنتماء وسخريته من المؤسسة. حقن نفسه بالكوكايين ثلاث مرات يومياً لكي يهرب من"روتين الوجود الرتيب"وناصر الضعيف المظلوم لكنه سئم الأحداث السياسية. أعطه غليوناً وكماناً وجريمة وأتركه يجد قليلاً من السعادة ربما ومبرراً لوجوده. الملتزم الأول بعد الثورة الفرنسية في 1789 نصب بطلاً للحرية والعدالة والعقلانية والتسامح. نقل رفاته الى البانتيون وحلّ إيمانه بالله. وحده من دون أديان مكان الكاثوليكية ديناً للدولة. مع عودة النظام الملكي نُبذ فولتير وحُمّل مسؤولية الأخطاء والخطايا. أصر على مبادئه على رغم خوف صديقته المتزوجة إميلي دو شاتليه على حياته من الحكم والكنيسة اللذين صنفاه عدواً مشتركاً. سجن مراراً في الباستيل ورفض الناشرون غالباً إصدار كتبه باسمه، ودافع بشراسة عن ضحايا الظلم مطالباً بالغاء التعذيب والإعدام. لئن تعلقت كتابته الجدلية بأحداث زمنه، وقرأ أعماله اليوم محبو المسرح الفرنسي وحدهم لا يبقى من فولتير سوى داعية حقوق الانسان والمثقف الملتزم الأول الذي دشن تقليداً حقيقياً أو نظرياً في الفكر الفرنسي. "فولتير الكلي القدرة: حياة ساعية الى الحرية"صدر عن دار بلومزبري لروجر بيرسون المعجب بالكاتب من دون أن يتغاضى عن عيوبه. ولد فرنسوا - ماري ارويه في 1694 وكتب"أوديب"عندما كان في السابعة عشرة وبقي ينتج حتى وفاته عن ثلاثة وثمانين عاماً. غادر باريس الى فرنيه قرب جنيف وتحول معلماً سياحياً."أعمل منذ أربعة عشر عاماً مدير نزل أوروبا"قال شاكياً من كثرة زواره. في ستينات القرن التاسع عشر وحدها زاره مئة وخمسون انكليزياً، وربما كانت ضيافته ما شحذت مهارته في الأعمال. أسس مستوطنة لأصحاب الحرف، خصوصاً صانعي الساعات، وشجع زواره على شراء انتاجهم. موهبة الاثراء ظهرت في عقده الثالث عندما اشترك في عملية نصب تتعلق باليانصيب بعد زيارة لانكلترا دامت عامين وانتهت في شكل مفاجئ لفضيحة مالية محتملة. فاوض مبادئه وانتصر عليها عندما تعلق الأمر بالمال. ناهض الحرب لكنه أيد الثروة بلا تحفظ واستثمر أمواله في المعدات العسكرية. كتب خمسة عشر ساعة يومياً في فرنيه التي عاش فيها العقدين الأخيرين من حياته، وفرش مائدته مساء أمام زواره المسحورين بوهجه. حمى رأسه من البرد بشعر مستعار غزير أو ست قلنسوات حرير تحت قبعة صوف عاد ظافراً الى باريس قبيل موته في 1778 وتوج بإكليل غار في مسرح كوميدي فرنسيز.