الدمية الروسية"، عنوان المجموعة القصصية التي صدرت حديثاً للكاتبة هنرييت عبودي عن دار المدى، دمشق 2005. والدمية الروسية كما هو شائع:".. دمية خشبية ملوّنة مؤلفة من شقين، اذا فصل أحدهما عن الآخر انكشفا عن دمية مماثلة ولكن أصغر حجماً وهكذا دواليك..". ص25. هذه الدمية وضعتها علياء مازني على أحد رفوف الخزانة الزجاجية في صالون بيتها، وكانت:"...صفّت على ذلك الرف أربعاً منها على نحو متدرج، وقد كررت مراراً على مسامع وصيفتها بأن ثمة دميتين لا تزالان في جوف الرابعة". ص25، كما انها حذرت تلك الوصيفة من أن تحاول فتح تلك الدمية الحبلى بدميتين. علياء مازني هذه هي، زمنياً، أول العلياءات المازنيات الثلاث. وهي أديبة من أصل عربي، عاشت في باريس وماتت فيها بتاريخ 23 نيسان 1791، وقبل موتها بلحظات أخرجت احدى الدميتين من جوف الدمية الرابعة. يبدأ سرد القصة مع علياء مازني الاخيرة/الثالثة، التي ستكشف لنا حكاية سميتيها وشبيهتيها في الاصل والمهنة وتاريخ يوم الوفاة. الا ان كلاً منهن يفصلهما عن الاخرى قرن كامل. وقد بدأت علياء مازني الاخيرة لعبتها بحثاً عمّا يربط أو يفصل الوهم عن الحقيقة. الصورة عن الواقع، أو ربما بحثاً عن الموت. بدأت لعبتها هذه، ودون قصد، أثناء زيارتها لمقبرة المشاهير في باريس، وهنا تفاجأ بقبر كتب على شاهدته:"علياء مازني.. أديبة. ولدت عام 1849 وتوفيت عام 1891". وبعد جهد وتقص مضنيين، يصحبنا السرد المشوق وتصحبنا علياء الثالثة لاكتشاف حكاية صاحبة الضريح، في أحد الكتب المغبّرة، وقد كتب عنها:"علياء مازني ولعبة الاوهام القاتلة". ثم يسرد في النهاية كيف ماتت هذه الاديبة وحيدة في بيتها اثناء قراءتها لكتاب ورد فيه شيء من سيرة علياء مازني الاولى، تلك التي عاشت في القرن الثامن عشر. وتنتهي القصة بموت علياء مازني الثالثة، التي كانت في لحظات حياتها الاخيرة وحيدة هي الاخرى في بيتها، تقرأ في الكتاب المغّبر حكاية سميتيها وشبيهتيها. وبهذا نكتشف ان الدمية الرابعة كانت تحوي دميتين/امرأتين/عليائين أخريين. ومثلما تتماثل الدمى تماثلت العلياءات الثلاث حد التطابق، وأنهنّ ثلاثتهن، بالاضافة الى عناصر التشابه الآنفة الذكر، مصابات بلوثة الاوهام القاتلة، مشغولات في التفكير بأمر الوجود وعبثيته، وأمر هذا الكائن البشري الذي لا يعني أكثر من أنه دمية ترسم له الاقدار طريقه ومصيره. ولكن أي معنى ارادته القصة في تركيزها على ذلك التشابه والتطابق بين الشخصيات الثلاث؟ لعلّنا نجد اجابة ما في قصة اخرى بعنوان"الدوامة"، هنا نلتقي شابة في العشرين من عمرها، تتوه بحثاً عن العلاقة بين الصورة والحقيقة، بين الماضي والحاضر، بين الذات والآخر. وتبدأ القصة في احد المقاهي الذي كان نقطة انطلاق لبحث الشابة عن هوية وحقيقة فتاة رأتها في بوستر كانت قد اشترته من محل لبيع الاشياء القديمة، وقد ظهر في البوستر اسم ذلك المقهى حيث اجتمع ثلة من الاصدقاء الشباب اثناء احتفالهم بمناسبة ما. كما بدت صورة الفتاة، موضوع البحث، وقد انعزلت مبتعدة قليلاً عن الجمع المحتفل، واستندت وحيدة الى احد الاعمدة. هذا هو الاطار العام للقصة، أو لنقل الدمية، فالقصة تحوي في جوفها قصصاً اخرى، يرويها لنا الاشخاص الذين التقتهم الشابة، والذين استدلت عليهم من بعضهم بعضاً، وهم شاهد عيان، لوجودهم في صورة البوستر، الصورة التي تعود الى ثلاثين سنة خلت، والطريف ان أياً منهم لم يتفق مع الآخر حول المناسبة الاحتفالية ولا حول هوية الفتاة المنعزلة واسمها. وتظل الشابة تبحث عبثاً، وسبب بحثها ان شابة الصورة عشرينية ايضاً، كما انها تشبهها شبهاً صارخاً! كتشابه الدمى! في هذه القصة يدور حوار بين شخصيتين هما"كارين دوترون"، وهي احدى احتمالات ان تكون فتاة البوستر، و"موريس بيرجيراك"، أحد الرواة، وكانا يتناقشان في أمر فيلم"الدوامة"لهيتشكوك: تقول كارين:"..وكأنما تحدث نفسها:"أين يقف الأنا وأين يبدأ الآخر؟ ان الحدود بينهما ليست قاطعة في مطلق الاحوال. فهنالك تنافذ مستمر بين الاثنين". فيجيب بيرجيراك غير موافق: -"التنافذ مستحيل، ومأساة الانسان أنه لا يستطيع ان يتخطى ذاته فهو سجين هذه الذات". فترد كارين:"ما هي الذات؟ أهي صرح قُدّ من حجر صوان؟.. قد لا تكون أكثر من مرآة تعكس صوراً لثواني ثم تجترّ حنينها اليها.. انها حنين دائم الى الآخر؟". وباعتقادي، ان مثل هذه الحوارات وتلك المقولات، تشكّل الارضية الاساس التي انبتت عليها قصص المجموعة، ولعلها ايضاً تشكل الدمية الكبرى التي تحوي في جوفها عدة دمى متماثلة، لكن دمى هنرييت عبودي/ قصصها الاربع عشرة، وقد حوى اغلبها في جوفه حكايات وقصصاً اخرى، لم تكن متماثلة حدّ التطابق، لتبرز هنا براعة الكاتبة في رسم بناء فني جميل مثير بغرائبيته وشيّق بجرأته، واذا ما كانت قد زينت البناء بنوافذ متشابهة الاطر، الا ان هذه النوافذ تختلف في زخرفتها وألوانها واشعاعاتها، وهو بناء استند الى ركيزة واحدة، لعلي استطيع ايجابها بالقول: هي قصة الانسان وبحثه الأبدي والعبثي عن كنه ذاته وحقيقة وجوده في هذا العالم الملغز. وفي هذا البحث عن الذات، تختار الكاتبة مواضع لقصصها بين الحدّ الفاصل بين الذات والأنا، بين الأنا والآخر، بين الوهم والحقيقة، بين الصورة والواقع وأيضاً بين الحياة والموت. وبأناقة فنية وأدبية متأنية تتوالى الحكايا وثرى الاحداث وتندفع الشخصيات وتتعدد كثيراً، من دون ان يشكل هذا التعدد الوافر عبئاً على السرد، فلكل شخصية وظيفتها السردية: شخصيات تائهة بحمى البحث والتقصي، والدوران في لجج اسئلة وجودية عصية. شخصيات تبحث عن وجهها الحقيقي، عن حاضرها وماضيها، وذاتها التي تحنّ اليها دائماً كما في قصة"الدمية الروسية"و"الرحيل الى البحر"،"الدعوة"،"الدوامة"، شخصيات اخرى تبحث عن بدائلها، تتمسك بها، بدائل تشكل الحلم الذي نرومه لأنفسنا حين نعجز في الواقع، ويستلب الفقر والكذب والضياع لذاتنا الحاضرة. كما في قصص:"الانتحال"،"هاشم وهشام"،"عودة أدهم"وفي هذه القصة الاخيرة، يشكل أدهم الوجه الآخر للشخصية الرئيسية في القصة، وقد ظلت من دون اسم حتى النهاية، فالاسم لا يعطى لها بل للشخصية الحلم والمرام: أدهم، الشاب الفقير، الذي يحول الحرمان بينه وبين ان يحيا حياة سعيدة دافئة، وكأن تغييب اسمه الذي لا يحضر الا مع الشخصية الحلم، والى جانب دلالته التقنية، يعني ان البؤس يلغي عنّا صفة الحضور الفعلي ويجعلنا نكرة في الحياة والمجتمع، في حين ان اسم ادهم اعطي للذات الاخرى، للشخصية التي يرغب في الوصول اليها: فأدهم هذا شاب جميل أنيق ثري يمضي أماسيه الماطرة مع الاصحاب والشراب. وفي طريقه الى احدى السهرات يلتقي بالشخصية الواقعية، أدهم الحقيقي في"دهليز مظلم يفضي الى بيت من البيوت التي تسمى عربية". يحتميان من المطر العاصف، ثم يفترقان وقد دار بينهما حوار قصير. وتمضي السنوات ويعود أدهم الحلم الى أدهم الواقع وقد بات هذا ثرياً، لكنه ظل على حالة من البؤس الروحي والنفسي. وقد أشاخت السنون وجهه وجسده، بينما ظل أدهم الحلم على حالة من الجمال والاناقة وحيوية الشباب. كأنما الحلم يبقى شاباً، جميلاً، ينبض السعادة، مثل مطر، ذلك المطر الذي ظل أدهم الواقع يعشقه. في قصص"التحري"،"الغرفة المقابلة"،"الواحة"،"الحديقة الفسقية""المطاردة"و"البديل"، نجد شخصيات أقرب ما تكون الى الفصامية: فهي تهرب من ذواتها دائماً، ذلك الهروب الدائم الا لكي تبحث عنها، في الآن ذاته، وتلجأ اليها باستمرار: شخصيات مأزومة، تلوب بحثاً وتنقيباً، هرولة ورحيلا... نكتشف بعد سرد حكاية مشوقة ان الرحيل الى البحر انما هو رحيل الى الموت، بعد توهان البحث العبثي عن تطابق الصورة والواقع الوهم والحقيقة، ويبدو ان قراءاتها تدعم خياراتها المعذبة واسئلتها الصعبة، فقد كانت تحمل معها في رحلتها تلك رواية"صحراء التتار"الشهيرة. قصص تأخذنا موضوعاتها في دروب لا أمان فيها، تغرينا بلعبة الاوهام القاتلة لكن سردها، تقنياتها المتنوعة، حواراتها الفنية الموجزة، تأملاتها العميقة، تُولد القصص والشخصيات.