إذا كان يوجد لدينا مهرجان حقيقي للأعمال الدرامية التلفزيونية فهو في شهر رمضان الذي تعرض فيه أهم المسلسلات العربية التي تحشدها القنوات التلفزيونية الحكومية والخاصة من أجل جذب أكبر عدد من المشاهدين تحتم عليهم ظروف الشهر الكريم الجلوس في بيوتهم لفترات أطول من المعتاد. غير أن"مهرجان رمضان"لا يعرف لجان التحكيم المغلقة، ولا توازنات بعض المحكمين لمصلحة البعض، فكل شيء على المشاع مفتوح، والناس أحرار في ما يشاهدون من خلال تحريك مؤشر القنوات، وتذوق البدايات لأعمال تطول حتى تنهي الشهر بأكمله وقد تتجاوزه. وبعد أكثر من عقدين من الزمان على هذا المهرجان غير المتفق عليه أو - اللامهرجان - تطور الأمر بفعل صعود الفضائيات العربية الخاصة وتكاثرها على نحو أضاع من القنوات الحكومية احتكارها الثمين، كما أضاف الى الموضوع العديد من الملامح المهمة. فأولاً: وسع وجود الفضائيات الخاصة هامش الحرية أمام المبدع وليس المتلقي فقط، بحيث أصبح من الممكن للأعمال المرفوضة سياسياً أو رقابياً من القنوات الحكومية أن تجد لها مساحات عرض على الفضائيات العربية، وفي الشهر نفسه. ثانياً: أضاف هذا التنافس حماسة للكثيرين وأصحاب المشاريع الانتاجية الطموحة فكرياً وفنياً لتنفيذها من خلال الشراكة مع هذه الفضائيات وهو ما رفع سقف الحرية في سماء الفن الدرامي التلفزيوني فرأينا هذا العام مثلاً أعمالاً مثل"الطريق الوعر"وپ"الحور العين"وپ"ريا وسكينة"وپ"نزار قباني"وكان انتاجها من خلال القنوات الحكومية صعباً بل مستحيلاً. ثالثاً: جعل هذا التنافس المشاهد في موقع أفضل انسانياً وديموقراطياً بفعل المقارنة التي دفعته للتمييز بين الأعمال وحفزته للوصول إلى الأفضل، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأعمال التي تقدم الموضوع نفسه من خلال انتاجات مختلفة مثل مسلسل"الظاهر بيبرس"السوري الذي رآه جمهور المشاهدين هذا العام، وعلى رأسهم المصريون، أفضل من"الظاهر بيبرس"المصري. رابعاً: أشعل هذا المهرجان المفتوح حماسة المبدعين في بلدان عربية مختلفة لكي ينتبهوا إلى إنتاجهم المحلي ويرتفعوا به ليضعوا أنفسهم لاعبًا أساسيًا ضمن هذه المباراة الفنية الثقافية التي كانت قاصرة أولاً على المصريين ثم تقاسمها معهم السوريون، والآن أصبحت الدراما الخليجية طرفًا أساسيًا في هذه المعادلة، كما تبدلت قواعد الافضلية فأصبح معيارها جودة العمل وليس أسماء نجومه. خامساً: إن هذا المهرجان شهد بروز إمكانات فنية أفضل لعدد كبير من المبدعين العرب لم يكونوا معروفين في إطار سيطرة المحطات الحكومية وحدها، كما شهد حراكاً ما بين تأكيد الإبداع في فن الدراما التلفزيونية وبين تأكيد القالب النمطي التجاري لتتحول إلى صراع دخله المعلنون أصحاب الثروات النامية التي تحاول اقتناص صناعة قرار الانتاج والعرض من المبدعين واصحاب القنوات انفسهم. سادساً: انه - أي هذا المهرجان - شهد ويشهد الآن على أفول عصر النجم الأوحد في دراما طويلة ممتدة تكشف ما لا يكشفه الفيلم السينمائي من ضعف النص أو تهافت الحبكة وسوء الانتاج، ومع الاعتراف بأهمية وجاذبية النجوم الكبار لدى الجمهور العريض، إلا أن هذه النجومية مرهونة بمسؤوليات عدة أهمها حسن اختيار العمل، وما يكشف النجم هو هذا التنافس المفتوح للجميع بحيث يصل الناس إلى الأفضل، وبحيث تتعدل موازين التلقي، ولو ببطء، فيحصل الأكثر إبداعاً على اهتمام يستحقه، وقد يستحق أكثر منه في ظروف أخرى، لكنه، في ميزان ميراث كبير من سيطرة الفن التجاري على ذائقة الناس في السينما والتلفزيون يصبح مهرجان رمضان أول خطوات تصحيح هذا الميزان المائل. سابعاً: إن المهرجان باتساعه واتساع نطاق عروضه مع تكاثر الفضائيات وإقبال الاعلانات عليه وسع دائرة المواضيع المطروحة من خلال الدراما لتصل إلى دائرة غير مسبوقة هي الاختلاف مع السائد قيمياً واخلاقياً - وفقاً للمعايير التقليدية - وهو ما رأيناه من خلال تقويم أول مسلسل يحكي قصة عصابة إجرامية روعت المجتمع المصري في العشرينات من القرن الماضي وهو مسلسل"ريا وسكينة"إخراج جمال عبدالحميد، وما اجتهد في طرحه من ظروف سياسية واجتماعية وبيئية بائسة نبتت من رحمها هذه العصابة. ثامناً: في إطار التغيرات السابقة، أصبح من الممكن لمحاولات التجويد في الدراما التلفزيونية على مستوى الصورة أن ترتفع بالمستوى الفني لصناع هذه الدراما، وأن تصل بالمسلسل إلى آفاق أوسع تطاول مستويات السينما رفيعة المستوى في جمالياتها وقدرتها على تحقيق بلاغة الصورة واكتمالها وهو ما رأيناه من خلال مسلسل"نزار"لباسل الخطيب الذي يحتاج إلى وقفة خاصة به.