لم يكتشف المخرج الكندي ديفيد كروننبيرغ البارود عندما قدّم في إطار مهرجان"كان"السينمائي المنصرم هذا العام"تاريخ العنف"، بل نقر على وتر سبقه آخرون في هوليوود كما في خارجها الى العزف عليه. في"تورنتو"هذا العام، ومن بين أكثر من 350 فيلماً عرضها في أحد عشر يوماً، العنف هو موضوع رئيس في أكثر من فيلم أميركي بينها اثنان يتعاملان وتجارة الأسلحة. أولهما"مسدس أميركي"لأريك أفيلينو والثاني"سيد الحرب"لأندرو نيكول. كلاهما أبلغ رسالة مما ورد في فيلم كروننبيرغ الذي جلس في مؤتمره الصحافي في تورنتو، بعد عرض فيلمه في المهرجان الكندي، يكرر ما قاله في"كان":"فيلمي ليس ضد أميركا. لم أقرر أن أصنع فيلماً ضدها". كروننبيرغ بدا معتذراً من دون أن يتّهمه أحد غير بعض نقاد حاصروه بسؤال حول ما إذا كان"تاريخ العنف"يعادي الولاياتالمتحدة او سياستها. "تاريخ العنف"لا يمكن أن يكون معادياً لأحد. إنه فيلم لافت يقص حكاية سبق لجون واين أن لعبها في فيلم وسترن من إخراج جيمس إدوار غرانت عنوانه"الملاك والشرير"وفيه ذلك المقاتل المحترف الذي يترك العنف وراءه، لكن العنف لا يريد تركه. إذا لم تكن جذور فيلم كروننبيرغ فيه، فهي بالتأكيد في الكثير غيره من أفلام أميركية حول هذا الوضع. في كل الحالات، وكيفما نظرنا إليه، فإن"تاريخ العنف"يبقى حكاية فردية مزدانة باسم المخرج المصر على أن يعرّي فيلمه من أي اسقاطات، خصوصاً إذا ما اعتبرها البعض معادية لأميركا. في المقابل، نجد في فيلم"مسدس أميركي"للمخرج للمرة الأولى أريك أفيلينو إيماناً شديداً بما يطرحه: كيف أن السلاح عنصر في تاريخ وثقافة وحاضر المجتمع الأميركي كما كان عهده منذ اكتشافها. لا يعمد أفيلينو الى عرض تاريخي بل يُمحور فيلمه حول أربع شخصيات: دونالد سذرلاند صاحب محل بيع سلاح معتد بوظيفته الاجتماعية وبتاريخ عائلته في هذه الصنعة. فورست ويتيكر هو مدير مدرسة مختلطة يحاول قدر استطاعته تجنيب تلامذتها العنف المستشري من المحيط والشارع. المدير ينطلق من حادثة إطلاق نار قام بها شاب في المدرسة. أمّ ذلك الشاب ماريسا غاي هاردن تواجه غضبة أهل الحي ضدها كمسؤولة عما أقدم عليه إبنها من جريمة. الشخص الرابع في هذه الحكاية المتعددة الرؤوس شاب مكسيكي أرلين إسكاربيتا الذي حين يدرك أنه لا يستطيع أن يثق بأحد في تلك البيئة التي يعيش وأن أحداً لن يهبّ لنجدته إذا ما وقع له شيء يصنع مسدساً وهمياً يتسلّح به. "مسدس أميركي"يتبع أبطاله بحس من يريد أن يستعرض. لا علاقة له بتلوين الفيلم صوب وضع سياسي ولو أن المرء ليس بحاجة الى منظار مكبّر ليدرك أن التعليق الشامل للفيلم يصب في خانة الوضع الأميركي الراهن وليس في سواه. أفريقيا ممزقة "سيد الحرب"هو أقوى هذه الأفلام المتعاملة مع العنف وثقافة السلاح. إنه عن تاجر سلاح أميركي يغذّي الحكومات الديكتاتورية في أفريقيا. نيكولاس كايج يلعب هذا الدور وفي مطلع الفيلم يدلي بإحصائية مفادها أن واحداً من كل 12 شخصاً في العام عنده سلاح ما. مشكلة التاجر هو كيف يجعل السلاح منتشراً بين أيدي الجميع. وهو ينطلق في سرد حكايته الفردية واعداً بأنه لن يحاول تبرئة نفسه من التهمة. طوال ساعتين يقدّم المخرج والكاتب نيكول الذي سبق له أن تطرّق الى مواضيع أخرى عن أوهام الحياة التي نعيش كما في"سايمون"وپ"ترومان شو"- الفيلم الذي كتبه وأخرجه الاسترالي بيتر وير سيرة حياة تاجر سلاح يتغاضى عما يتسبب به من مآس، مكرراً ان لا علاقة له بكيف يستخدم"أسياد الحرب"السلاح الذي يبيعه. الفيلم أكبر حجماً مما توفره القصة من تطورات درامية لكنه جاد في ما يطرحه. قبيل نهايته يذكّرنا الفيلم، وهو يتعامل مع الوقائع والإحصاءات كما بؤس الحياة العائلية للتاجر ذاته، بأن جورج و. بوش كان تباهى في مطلع ولايته الأولى بأن الولاياتالمتحدة تأتي في مقدّم الدول التي تبيع السلاح عالمياً. بوجود تاجر سلاح آخر اسمه للضرورة سايمون وايز يؤديه إيان هولم يبيع السلاح للقوى المعارضة. بذلك تتبدى الحروب الأهلية الأفريقية على حقيقتها، فهي ليست ثورات لقضايا بل نزاعات للسيطرة على مناجم الماس وفرض السيادات. أيضاً في إطار"تورنتو"فيلم"الحدائقي المتواصل"عن رواية جديدة لجون لي كاريه بدورها تتحدّث عن الوضع الأفريقي. العنف هنا يتجلى في استعداد شركات الدواء العالمية لا لإجراء اختباراتها الكيماوية على الشعب الأفريقي بل والذهاب الى حد القتل في سبيل إبقاء ممارساتها سراً. حين تكتشف تيسا راشل وايز تورط أسماء حكومية كبيرة في المؤامرة الدائرة تدفع حياتها ثمناً لذلك. مقاليد التحقيق الذي كانت بدأته تؤول لزوجها راف فاينس الذي يشك في أنها كانت تخونه. حين يدرك عكس ذلك، يندفع في محاولته كشف اللثام عما حدث. ربما كان من الأفضل لو أن بطل الفيلم انطلق في مهامه حتى من قبل أن تتبدى له براءة زوجته، لكن المؤكد أن البرازيلي فرناندو ميريليس، الذي دهمنا بفيلمه الأول"مدينة الله"، يصوغ فيلماً جيّداً على رغم أن الكاميرا وطريقة إدارتها أمر يشغل المخرج ويشغل نظر المشاهد قليلاً أكثر مما يجب. النفس الأخير فورست ويتيكر يظهر أيضاً في فيلم جيّد آخر. على عكس ممثلين أفرو- أميركيين آخرين، في مقدّمهم صامويل ل. جاكسون. يبدو إصرار ويتيكر واضحاً في تفضيل نوعية الأعمال على كثرتها. وهو هنا يسلم مقاليد إدارته لمخرج نيوزيلاندي جديد اسمه بلتسار كورماكور سبق له أن قدّم قبل خمس سنوات فيلمه الأول"010 ريكجافيك"لاعباً شخصية مندوب شركة تأمين يُرسل الى بلدة أميركية صغيرة للتأكد من موت أحد الزبائن قبل دفع التعويض. فورست، الذي يبدو كما لو كان يحمل أعباء حياته أينما حل، ليس واثقاً من أن الزبون قد مات فعلاً. ليست هناك دلائل بل جثة متفحّمة في بلدة صغيرة تبدو كما لو كانت، والقصة تدور في الثمانينات - أي في عهد الرئيس رونالد ريغان، تلفظ أنفاسها الأخيرة بدورها. ويتيكر واحد من جملة ممثلين أميركيين يبحثون عن الجديد والمثير خارج نطاق السينما الأميركية الكبيرة. في الحقيقة آخر مرة أطل فيها عبر فيلم هوليوودي كانت قبل عامين في"غرفة هاتف"لجوويل شوماكر وقبله بعام بفيلم"غرفة الفزع"لديفيد فينشر. في"غرفة الفزع"عمد الى دور البطولة الرجالية أمام جودي فوستر التي كان ذلك الفيلم آخر بطولة لها أيضاً. بعده سرحت فوستر بين أدوار صغيرة ودور الأمومة في البيت لكنها تعود الآن في أول فيلم رئيس لها منذ ذلك الحين وعنوانه"خطة طيران". انها مثل ويتيكر تفضّل التمثيل حالياً تحت إدارة مخرجين غير اميركيين ومخرج"خطة طيران"هو الألماني روبرت شويتيكي الذي سبق له أن حاز قبل عامين جائزة أفضل فيلم ألماني في مسابقة الأفلام المحلية هناك وذلك عن"ثروة العائلة"، فيلم ساخر عن اليهود والمال والأسرة. "خطة طيران"يتعامل مع موضوع مختلف تماماً ومهرجان"تورنتو"عرضه من بين نحو خمسين فيلماً شهدت عروضها الأميركية الشمالية للمرة الأولى. بطلة الفيلم تصعد الطائرة الكبيرة من ألمانيا في طريقها الى نيويورك. لا تصعد وحدها بل تصطحب معها ابنتها وذلك بعد أيام من انتحار زوجها لسبب لا تدركه. حين تقلع الطائرة تخلد الأم وابنتها الى النوم. الى هنا كل شيء طبيعي. حين تستيقظ الأم تلتفت صوب ابنتها فلا تجدها بجانبها. تبدأ بالبحث عنها على نحو عادي في مطلع الأمر. حين لا تجدها في الطابق العلوي من الطائرة تدلف الى الطابق السفلي ثم الى الحمّامات وينقلب الهدوء الى توتر شديد. كل المضيفات إما لم يشاهدنها مع أي أحد او إنهن لسن متأكدات. مارشال الجو بيتر سكارغارد يحاول مساعدتها دوماً. ترفض تصديق بأنها موهومة وأن حالتها العصبية تتسبب في اعتقادها بأنها كانت بصحبة ابنتها. حين تبحث عن بطاقة الصعود الخاصة بابنتها لا تجدها. تلجأ الى الكابتن شين بين وهو ممثل بريطاني لا علاقة له بالأميركي شون بن الذي يأمر بتفتيش كل الطائرة. المتهم البريء هنا، بعد نحو 45 دقيقة من الفيلم يحدث الصدام الأول بين هذه المرأة الملتاعة وبين راكب عربي بريء. فجأة ينضح الريب الغربي بكل من هو عربي تبعاً لأحداث 11/9/2001 وتهجم على الراكب ورفيقه متهمة إياه بأنه خطف إبنها. ليس عندها دليل لكن لديها الموروث العنصري والخوف الطافح من الآخر. أيضاً من بين الركاب أجنبي لا يهمه موضوع الطفل بل يرمي بثقله الى تلك المعركة بين الأم وبين العربي متهماً العربي بالإرهاب. "خطة طيران"وُصف بأنه"غرفة فزع"في الجو. مع انه ينتقد الخوف من العربي ويوضح كيف أن تهمة الإرهاب جاهزة ذاهباً بهذه الرسالة الى حيث لم يذهب فيلم روائي من قبل، الا أنه في النهاية يبدو محتاراً بما يصنعه بذلك العربي. على نحو غير مقنع نراه يساعد بطلة الفيلم التي وجدت ابنتها مخطوفة ضمن مؤامرة لا علاقة للعربي بها في حمل حقيبتها. تنظر إليه آسفة ومعتذرة لكنها لا تتفوّه بكلمة. ربما تخيّل المخرج أن اللقطة، وهي متوسطة - بعيدة، كافية لمنح العربي صورة إيجابية سليمة، لكن العربي هنا بدا ساذجاً ومستعطفاً فيما بدت هي كما لو أنها تعتذر غصباً عنها. في مهرجان يموج بالتيارات والأعمال نصف ما مر في برلين وكان وفانيسيا ونصف جديد فإن كل فيلم يعرض هنا هو قطعة تنضم الى موزاييك الأفلام المقبلة من شتّى أنحاء العالم. مع"يوم آخر"للبنانيين جوانا حجي توما وزوجها خليل جريج وپ"الجنة الآن"للفلسطيني هاني أبو أسعد وپ"انتظار"لمواطنه رشيد مشهراوي وضعت السينما العربية بصمتها المهمة على هذه الدورة وكانت أصغر بصمة أيضاً.