شاشات التلفزيون كلها أمس تعرض صور الانفجار الذي أودى بحياة الزميل والنائب جبران تويني، وتتحدث عن الصحافي والنائب الشهيد، وأنا أفكر في والده غسان تويني، ذلك الصديق العظيم، آخر أمراء الصحافة. جبران في رحاب ربه، غير ان غسان تويني باقٍ معنا، ونحن نسأل كم يستطيع القلب المنهك المحزون ان يتحمّل، فبعد ناديا رحلت البنت، ثم الابن، ثم الابن، في سلسلة فواجع ذات وقع اغريقي. كنتُ لا أجتمع بجبران الا وأقول له"طرّيها"أو"روّقها"، وغالباً بالانكليزية Take it easy، حتى أصبحت النصيحة مثل نكتة مشتركة بيننا. ما لم أقل لجبران يوماً هو ان نصيحتي كانت دائماً مرتبطة بغسان تويني لا جبران، فقد كنتُ أشفق على الزميل الكبير من ان يتعرض لهزة أخرى في حياته الشخصية لأنه يحمل على كتفيه ما تنوء به الجبال. كان جبران تويني يعارض الوجود السوري في لبنان ويهاجم الاجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، قبل ان تصبح المعارضة أو الهجوم"موضة"مارسها الذين صمتوا عندما كان يجب ان يحكوا ويأخذوا مواقف. وكان دائماً حاداً في مواقفه، وبما يعكس شباب قلمه، وكنتُ أقارن ما يكتب بما يكتب أبوه، وأجد نفسي أقرب الى الأب فكراً أو أسلوب عمل، فقد جمعنا جهد مشترك في أوائل السبعينات، وتأثرت بأفكاره ومواقفه ولا أزال. جبران تويني كان شيئاً مختلفاً، رأيته خارج لبنان أكثر مما رأيته في الوطن الذي أحب، فقد كان برز كنجم إعلامي بعد ان تركت بيروت الى لندن. وهو كان صاحب شعبية كبيرة بين كثيرين يشاركونه مواقفه السياسية. ولعلّ مثلاً واحداً يكفي، ففي حفلة موسيقية للمغني فيل كولنز في بيروت الشهر الماضي، قامت صديقة لنا وعانقت جبران تويني وقبلته على وجنتيه وهي تقول:"تسلم لي قامتك". وكان واضحاً ان الصديقة معجبة بسياسة جبران لا قامته. السياسة قتلت جبران تويني ولكن من قتله؟ السوريون. دائماً السوريون. لا أستبعد ان يكون السوريون، الا انني لا أستبعد أي طرف آخر، وأنتظر نتائج تحقيق، أرجو ان يكون دولياً، كما أنتظر نتائج التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. المشهد كاد يكون واحداً، سيارات محترقة، وأشلاء، وبنايات محطمة، وزجاج متناثر وقطع معدن. والذين اتهموا سورية هذه المرة هم أنفسهم الذين اتهموا سورية في اغتيال رفيق الحريري. والذين اتهموا كل طرف غير سورية في 14 شباط فبراير وأمس هم أنفسهم أيضاً. كل الاحتمالات وارد. سورية قتلت جبران تويني بسبب معارضته الشديدة للوجود السوري في لبنان وحملته على الاجهزة. سورية لم تقتل جبران تويني لأن مواقفه المعروفة ستجعل اصبع الاتهام توجه اليها فوراً. سورية قتلته لأن أصابع الاتهام ستوجه اليها، فهي ستقول انها لا يمكن ان تقتل رجلاً ستتهم بقتله فوراً. اسرائيل قتلت جبران تويني لتزيد من الازمة التي تواجهها سورية مع الأسرة العالمية. بالنسبة الى التهمة الاخيرة, أرجو وأدعو ان تكون صحيحة، وسأنذر النذور لتثبت الا انني لا أراها كذلك، فاسرائيل قد تستفيد قليلاً من قتل خصم معروف لسورية بإلصاق التهمة بدمشق، الا انها ستخسر كثيراً جداً اذا ضبطت، لذلك فهي في حساب الارباح والخسائر ليست طرفاً مرجحاً. لا أعرف من قتل جبران تويني، ولكن أرجو ان يصل تحقيق دولي الى الحقيقة في جريمتي اغتيال الحريري وتويني وكل جريمة بينهما. أرجو كذلك ان يبقى المجتمع اللبناني متماسكاً، وان تستطيع الحكومة ادارة الأزمة بحكمة تمنع انفجار الوضع. ما أعرف هو ان جبران تويني لن يعود وقلبي مع الحبيب غسان في محنته الجديدة. وما أعرف كذلك هو انني سأكون في دافوس بعد شهر من دون جبران وجدال سياسي لا ينتهي. في 1999 قدمت جبران تويني الى الرئيس ياسر عرفات، ودعاه أبو عمار للجلوس معنا الى طاولته في عشاء مجموعة الشرق الاوسط الذي حضره ايضاً الرئيس حسني مبارك وعقيلته، ورئيس وزراء اسرائيل في حينه بنيامين نتانياهو. وسأل أبو عمار عن غسان تويني، وأثنى عليه كثيراً، وطلب من جبران ان يبلغه تحياته. ست سنوات والدنيا انقلبت راساً على عقب من لبنان الى فلسطين والعراق وكل بلد. وكنتُ أعجب انني وجبران صحافيان من لبنان، ومع ذلك فأنا أراه في دافوس أكثر مما أراه في بيروت. بقيت في بيروت بضعة أيام قرب نهاية الشهر الماضي ومطلع هذا الشهر، واتصلت بدار"النهار"أطلب غسان تويني كعادتي اذا زرت بيروت، وقيل لي انه مسافر، وجبران تويني موجود، وتحدثنا حديثاً سريعاً. سألني: كيف الحالة؟ وقلت حالتي وحالتك طيبة، لكن حالة الأمة في الارض. لم يكن هناك شيء نختلف عليه هذه المرة، فهو مثلي يرى ان الاحوال العامة سيئة. واتفقنا على ان نلتقي في اليوم التالي، وقلت للزملاء في"الحياة"انني سأزور جبران صباحاً ثم انتقل اليهم. غير ان عملاً طرأ في الصباح التالي، وسافرت بعده الى دبي، وكيف كان لي ان اعرف ان تلك المكالمة هي آخر اتصال بيننا. رحم الله جبران تويني، وأعان والده على تحمل المصاب، وأترحم وأدعو وأدرك ان لا عزاء لرجل فجع بابنه البكر بعد اسرته، غير انني لا أملك سوى تقديم العزاء، وكلنا أسرتك يا أخانا الكبير.