لا تربطني بالراحل الكبير غسان تويني معرفة شخصية، رغم أن علاقتي مع «النهار» والكتابة في صفحاتها تعود إلى 2007، مروراً بهذه الأيام العصيبة من تاريخ سورية وانتفاضتها، والتي جعلت مني واحداً من عائلة الملحق الثقافي للنهار. لكنني أستطيع أن أزعم أن متابعتي لمحطات من حياة عميد الصحافة وعلاقته بنا، نحن الكتّاب والمثقفين السوريين، تجعل الكتابة عنه واجباً أخلاقياً بعد رحيله. يبدو لي، من خلال تجربتي الكتابية المتواضعة، أنه لا بد لكل كاتب شاب من ممر إجباري يتلخص في التعلق الاستحواذي بعدد من الرموز والشخصيات التي تستحيل أيقونات له، تبدأ تلك الأيقونات بالتهاوي واحداً تلو الآخر مع تبحّر الكاتب في فضاء الكلمة الحرة والصحافة والكتابة الجريئة الشجاعة. قلة من هؤلاء الرموز يصمدون أمام المواقف والاستحقاقات التي تفرضها عليهم لحظات تاريخية في تاريخ هذه البلاد. غسان تويني واحد من تلك القامات التي عاشت وماتت ولها في قلوب الأصدقاء والأعداء ذات الاعتبار والوزن والتقدير للحضور والوضوح في الرؤية والموقف، والصبر على نائبات الزمن ورحيل الأحبة، من الابنين: مكرم وجبران، إلى الابن الروحي: سمير قصير. *** التاريخ: 12 كانون الاول 2007. المناسبة: تتويج الفائز بجائزة جبران تويني للصحافة. الفائز كان الكاتب والصحافي الشاب: ميشيل حاجي جورجيو. ميشيل حاجي جورجيو يقول: هنالك معتقلون في العالم العربي، ومن بينهم صحافيون وكتّاب، وبما أن هذه الجائزة جائزة صحافية عربية، اسمحوا لي ان أهديها إلى ميشيل كيلو في سجنه». يومها، صفق الحضور طويلاً، وصعد غسان تويني إلى المنصة ليلقي كلمة في الذكرى الثانية لجبران، وبدأ من حيث أنهى الفائز كلامه، وقال: «بما أن زميلي الشاب قد ذكر ميشيل كيلو في سجنه، فإنني سأطلب من الحاضرين أن يسألوا رياض الترك كيف كان يخرج قصائده من السجن، حيث لا ورقة ولا قلم للكتابة. أبو هشام كان يقوم بتحفيظ كل شخص من المساجين بيتاً واحداً من القصيدة ليكتبه بعد خروجه من السجن، وفي النهاية يأتي أحد الأصدقاء ويقوم بجمع القصيدة كلها». كان طيف المثقفين السوريين في سجونهم يخيم على قاعة الحفل، وكانت الكلمات تخرج من بين شفتي غسان تويني كأنها برد وسلام لهم وللحضور، كما كانت «النهار» بهمة غسان وجبران وسمير منبر المثقفين السوريين الأول، من جيل ربيع دمشق الاول، وأسماء محمد علي الأتاسي وياسين الحاج صالح وأكرم البني وميشيل كيلو وآخرين، إلى ربيع دمشق الثاني وكتّاب الانتفاضة السورية الشجعان الذين لم يترددوا في الكتابة بمستوى الحدث السوري منذ 15 آذار 2011 وحتى اليوم. *** ما زلتُ أحتفظ بالعدد الذي صدر في اليوم الثاني من استشهاد جبران، والذي خطّ الأستاذ غسان تويني عنوانه «جبران لم يمت... والنهار مستمرة». لا حقد ولا ثأر ولا انتقام، نريد وطناً للجميع... تلك كانت دعوته للترفع عن الأحقاد بعد استشهاد ولده، وتلك هي الدعوة التي يفترض أن نتمسك بها في انتفاضتنا ضد نظام الأسد، لكي نبني وطناً لكل السوريين، رغم تعقد الواقع السوري يوماً بعد يوم، ورغم الصعوبات واحتمالات الاحتراب والاقتتال الأهلي التي تقترب وتتزايد باطراد. تلك هي رسالة النهضة والثقافة في البلدين الجارين. إن ربيع دمشق الذي أزهر قبل أزيد من عقد في الصحافة اللبنانية، سيزهر في بيروت بعد انتصار الانتفاضة السورية على قتلة سمير قصير وجبران تويني وجورج حاوي، أي على قتلة الشعب السوري ومعتقِلي نُخبه وأحراره وناشطيه. ولن يبخل طيف غسان تويني علينا بالزيارة كل حين برفقة ديك النهار، صوت الحرية التي ستنتقل إلى لبنان ونظامه الطائفي البليد، كما لا بد، عبر أثير الانتفاضة التي يخوضها السوريون اليوم. * كاتب سوري