قدر العرب أن يعيشوا في منطقة ملتهبة ويتعودوا على الحمم المنطلقة من فوهة البركان ثم أن يستسلموا له ويقنعوا أنفسهم بأنهم ضحايا لا حول لهم ولا قوة في مواجهة الأخطار، أو على الأقل في تحصين أنفسهم وحماية مصالحهم. هذه القناعة الزائفة جلبت معها كل أنواع وأشكال الخنوع واللامبالاة والضعف والوهن الى حدود الذل والهوان وتعليق كل المشاكل والأزمات والأخطاء والخطايا والنكبات والنكسات على شماعة القدر ومن بعده على المخططات الأجنبية والمؤامرات الامبريالية والعوامل الخارجية. لا أحد يعترف بالقصور والتقصير والمسؤولية والواجبات، وما من أحد يريد أن يهب للذود عن الأرض والعرض في هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها الأمة وتعاني منها الأمرين: ظلم الآخر... وظلم ذوي القربى وهو أشد"مضاضة"! وهكذا يبدو المشهد العربي مضطرباً، هائجاً ومائجاً، ومثقلاً بالهموم والاهات والمشاكل... وهكذا يبدو الجسد العربي مستسلماً، منبطحاً يتلقى الطعنة تلو الطعنة من دون أن يحرك ساكناً أو يصد عن نفسه الضربات أو يهب للرد عليها. كل ما تفتقت عنه عقول اصحاب القرار هو"اللعب في الوقت الضائع"والتمادي في لعبة الانتظار بلا ملل ولا أمل، والتذاكي في استخدامها الخاطئ الى حد الادمان القاتل وسط مؤشرات واضحة يستخلصها أي مراقب لهذه الممارسات المشينة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: * الغلو في اطلاق الشعارات والعبارات الطنانة وجمل الانشاء البائدة التي خدرت العرب لأكثر من 60 عاماً حيث تكون الأقوال هي سيدة الكلام والخطابة من دون أن تتبعها أعمال ولو شكلية للحفاظ على المصداقية والموضوعية والصدق والثقة والاحترام. وحتى هذه الأقوال جردت من موضوعيتها ومفاعيلها ومعانيها لأنه ليس مهماً ما يقوله المسؤول، بل كيف يقوله ومتى وأين! ولا قيمة لما يقوله إن لم يتبعه بقرارات ومواقف ومعالجات جذرية. ولا قيمة لما يفعله، بل كيف يمارس هذا الفعل ومتى وأين. * مع غياب عوامل الدقة والاسلوب والتوقيت تحول التهريج والتضليل و"تكبير الكذبة"الى ادمان آفة أخرى وهي الاستمتاع بدور"المفعول به"في كل منحى من مناحي حياتنا وقراراتنا وردود أفعالنا ومواقفنا العامة والخاصة. وصار دور"الفاعل"من عجائب العرب وغرائبهم، إن لم نقل من المستحيلات بإضافته الى العنقاء والخل الوفي. * اصابة العمل العربي المشترك بالشلل وانتقاله الى معظم النشاطات الداخلية المرتبطة به أو بالقضايا الكبرى، وتجمد المبادرات الفاعلة والجدية باستثناء بعض العمليات التجميلية والتحركات الرمزية لتجميد الأوضاع وتسكين الأزمات وتأجيل الاستحقاقات. * تحول هذه الممارسات الى عادة سرية وعلنية تستنزف الطاقات العربية وتخيب الآمال وتخدر الشعوب وصولاً الى تدجينها وتعويدها على الرضوخ للواقع المرير في ظل غياب روح المسؤولية وقدسية الواجب. * غياب المسؤولية أدى الى التهرب من المعالجات ورفض الاعتراف بالمخاطر الراهنة و... الآتية ومن ثم الى ترسيخ حال الفرقة والتشرذم وتحويلها الى واقع مرير آخر علينا التعود عليه. * لا ينكر عاقل وجود مخططات أجنبية معادية ومؤامرات معدة وجاهزة عن حقد وعداء أو عن مطامع وغايات في نفس"يعقوب"المنتشر في مواقع عدة عالمية وصهيونية، ولكن أين واجباتنا ومسؤولياتنا ومخططاتنا واستراتيجيتنا الواضحة، وأين حزمنا وجزمنا وقراراتنا وجهودنا لتوحيد الصف وبناء حصون المواجهة وإعداد القوة اللازمة لدحر الأعداء والدفاع عن حقوقنا وأراضينا ومصالحنا؟ لا شيء يذكر... ولا بارقة أمل... ولا بصيص نور في نهاية النفق الطويل المظلم... فقط أقوال بلا أعمال وأوهام بلا جهود وآمال بلا وقائع واستسلام"للجنرال وقت"كسلاح فعال وورقة سحرية للانقاذ يزعم البعض أنها حققت المرتجى مرات عدة في الماضي، وفي مواجهات عدة سالفة. وهذه الأيام تتكرر اللعبة: الانتظار هو سيد الموقف والاستسلام للواقع بالزعم أو بالوهم بأنه"حلال"المشاكل ومزيل الشرور. افتح يا سمسم وينجلي الغبار وتنفتح أمامنا بوابات الكنوز والحلول... أما الآن فما علينا سوى اللعب في الوقت الضائع الذي برعنا به خلال العقود الماضية في انتظار حسم الاستحقاقات الآتية، ومنها: * في فلسطينالمحتلة: تتكرر المهزلة الديموقراطية المزعومة، تسقط حكومة وتجري انتخابات مبكرة وتأتي حكومة أخرى لتستأنف تنفيذ المخطط الصهيوني الموحد ويضحك الإسرائيليون على ذقوننا وذقون العالم الآخر بعد أن يتبادلوا الأدوار ويناوبوا على ارتداء أقنعة الصقور والحمائم والحملان والذئاب. فشارون خرج بقناع وسيعود بقناع ومعه تاجر الأقنعة المزمن شمعون بيريز. أما الاخراج ففيه تفاصيل الشيطان وروايات رشاوى التحالف مع بقايا ال"ليكود"أو مخلفات"العمل"والمراوح بينهما المتمثل بالأحزاب اليمينية الصغيرة التي تؤدي دور المعرقل لأي قرار والمفرمل لأية خطوة، فانتظروا يا عرب... إننا لمنتظرون... وما على الفلسطينيين والعرب الآن سوى اللعب في الوقت الضائع. * وفي العراق: انتخابات تتلو انتخابات، ودستور يخلف دستوراً، فيما البلاد تغرق في متاهات المذابح والفتن الطائفية والمذهبية ومؤامرات التفتيت والتقسيم. الإرهاب يتعاظم نفوذه والاحتلال يفرز قواعده ويحقق أهدافه رغم الخسائر التي يتكبدها والمصاعب التي يواجهها. تأجيل وراء تأجيل ووعود تتبعها وعود ومؤتمرات ومجالس ووساطات ومبادرات فيما دم الأبرياء يسفك وثروات العراق تستنزف ومصير الأمة يتعرض لمزيد من الأخطار. ورغم كل هذا، علينا أن ننتظر ونمني النفس بحلول قريبة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من العراق الجريح المنكوب... وما علينا سوى اللعب في الوقت الضائع... فانتظروا يا عرب إننا لمنتظرون. * وفي لبنان وسورية: تأجيل وراء تأجيل لحسم الموقف وكشف الحقيقة في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري... 6 أشهر أخرى للجنة التحقيق الدولية و6 أشهر أخرى لحالة الترقب والقلق والجمود في البلدين. و6 أشهر إضافية للبلبلة والأزمات واستنزاف الطاقات والثروات وتجميد الأعمال والمشاريع والقرارات، و6 أشهر لمزيد من الشروخ في العلاقات اللبنانية - السورية ولمشاريع الفتن وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية وتهديد الوحدة الوطنية وتفتيت القوى واشاعة أجواء اليأس وخيبات الأمل. فحتى المقاومة في لبنان بدأت تستنزف قدراتها وتفقد حالة الاجماع التي حققت بفضلها النصر في وجه إسرائيل وأجبرتها على الانسحاب فقد سحبت من رصيدها وسط أجواء طائفية غير مريحة للجميع. ورغم كل هذه المخاطر والتوترات والسلبيات والأوضاع غير المستقرة، ما علينا سوى الانتظار واللعب في الوقت الضائع... فانتظروا يا عرب إننا لمنتظرون. هذه العينات من القضايا المؤجلة تعطي صورة واضحة عن حال العرب هذه الأيام وضياعهم في بحور الأزمات ومتاهات التفاصيل الفرعية والأوهام الغريبة، فيما الحق ضائع والأرض سليبة والحقيقة مخفية والمصالح مسلوبة وحاجات المواطن مهملة وآماله خائبة. وتتواصل مسيرة التراجع وشعارات"الى الخلف سر"ويمنع على العرب التقدم في أي مجال من أجل اللحاق بقطار العصر ومواكبة متغيراته وثرواته العلمية والاستفادة من ثرواته المتاحة... ومن لا يتقدم الى أمام على مدار اللحظة لا بد أن يتراجع الى الخلف. وأخشى ما أخشاه أن نكتشف عندما تنتهي مهزلة اللعب في الوقت الضائع اننا سنعود اليها من جديد وندخل في متاهات دواماتها بلا نتيجة ولا نهاية. فأيام الحسم قادمة بعد يوم أو بعد شهر أو بعد سنة فهل نبحث عن وقت ضائع أو مستقطع جديد لنلعب عبره ونقامر على مصالحنا ومصائر الناس وحاضرهم ومستقبلهم ونتلطى بآفة الانتظار ونختبئ وراءه في محاولة مفضوحة لإخفاء العجز والفشل إن لم نقل التواطؤ المكشوف... أو المخفي عن علم... أو عن جهل وغباء. هذه الكلمات الحزينة لا تهدف للمشاركة في عملية جلد الذات وتعذيب النفس، بل الغاية منها وضع اليد على موطن الداء ووصف الحالة التي نمر بها والآلام التي تؤرق كل إنسان عربي وتعذبه وتؤدي به الى حافة اليأس بسبب التمادي في الإدمان على آفة الانتظار وممارسة اللعب في وقت ضائع اصبح مستعمراً لأوقاتنا وأعمارنا. ودق ناقوس الخطر يهدف ايضاً الى الدعوة للنهوض والاستعداد للاستحقاقات الكبرى والمفاجآت والنتائج المرتقبة لمجريات الأحداث الراهنة التي نراقبها عن بعد وننتظر مع المنتظرين... فهل هناك استراتيجية عربية يتم العمل على وضعها في هذه المرحلة... وهل من مبادرات تعمل لتجميع الصفوف وتحصين الجبهات في انتظار ما ستؤول اليه الاستحقاقات في فلسطينوالعراق وسورية ولبنان وفي شتى ارجاء الوطن العربي الكبير... انتظروا يا عرب... إننا لمنتظرون. كاتب وصحافي عربي.