ايام قليلة ونودّع عاماً مثقلاً بالهموم والدماء والدموع والازمات التي انحصرت في مجملها في المنطقة العربية بشكل خاص، وامتدت قليلاً لتشمل الجوار، ومعظمه ينتمي للعالمين العربي والاسلامي. كل يوم من ايام عام 2004 كان يحكي قصة المآسي التي تعيشها الامة العربية وتكتوي بنارها وتشهد المزيد من الدمار في بناها التحتية وتحصد الكثير من ارواح الابرياء... وكل اسبوع كان بحق اسبوع الآلام والاحزان والشجن فاستحق عن جدارة لقب"عام الدم والدمار"من العراق الى فلسطين مروراً بالكثير من المحطات العربية والاسلامية. ومع هذا نقول اننا نخشى ونحن نودّع هذا العام الدامي ان نبكي عليه كما بكينا على العام الذي قبله لأن كل الدلائل تشير الى ان الآتي اسوأ والمخفي اعظم اذا لم يتم حسم الامور ومواجهة الموقف بحكمة وشجاعة. فالأنكى من كل ذلك ان العرب يمرون بحالة سبات وكأنهم تحولوا الى نسخة مجددة من اهل الكهف رغم حجم التحدي الذي يواجهونه وخطورة المؤامرات الي تحاك ضدهم تهدد حاضرهم ومستقبلهم وتشوه تاريخهم وحضارتهم فمنهم من استسلم للنوم عمداً وهرباً من تحمّل المسؤولية، ومنهم من لجأ للمخدر لينسى ويتجاهل الواقع ويعيش في عالم الخيال والاوهام والاحلام، ومنهم من تشبّه بالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال موهمة نفسها بأنها في مأمن من الاخطار وانها طالما انها لا ترى ولا تسمع فإن احداً لن يراها ولن يسمعها، ومنهم من استسلم للواقع وتحالف مع الخوف معتمداً مبدأ"من خاف سلم"محاولين اقناع انفسهم بانهم لم يؤكلوا يوم اكل الثور الابيض طالما انهم لم يحركوا ساكناً ولم ينبسوا ببنت شفة للتعبير عن رأي او للدفاع عن حق فلنقعد مع القاعدين وكفاهم شر القتال. وعندما نشير الى هذا الواقع المخزي بأسف وأسى لا نقصد المزايدة والدعوة لمناطحة طواحين الهواء بسيوف وهمية بالية او الدخول في مواجهات محفوفة بالمخاطر او حتى الانتحار بالدخول في معارك وهمية وحروب خاسرة. المقصود اولاً هو التنبّه للاخطار المحدقة بالأمة ككل وبالاوطان بالجملة والمفرق وبالافراد الى اي جهة انتموا، وثانياً الاستعداد لمواجهتها بالوسائل المتاحة والعمل على درئها او الحد من آثارها وسحب الحجج والذرائع من يد الطامعين والاعداء والمتربصين بالامة. ولا بد لتحقيق هذه النقلة من التخلي عن الاساليب البالية والالتفات لاعادة بناء الاوطان وتصحيح الاوضاع المزرية وازالة اسباب الشكوى وبناء الوحدة الوطنية الداخلية وضرب الفساد والمفسدين والفاسدين من اجل بناء اقتصاد وطني متين نعرف جميعاً انه يمثل حجر الاساس لأي بناء وبأنه السلاح الفعال للصمود والنجاح. ولا بد ايضاً من خطوة ملازمة وموازية تمنح الحياة للعمل العربي المشترك وتعيد الاعتبار لوحدة الكلمة والموقف وتحول التضامن العربي من شعار استهلاكي رخيص الى حالة حقيقية يبنى عليها للانطلاق نحو اثبات الذات وفرض الاحترام والهيبة على العالم اجمع حتى يعود ليحسب للعرب الف حساب ويعاملهم كبشر اولاً وكقوة مهمة لا يمكن تجاهلها بدلاً من المفهوم السائد حالياً الذي روّج له الصهاينة بأن العرب ظاهرة صوتية لا قيمة لقراراتهم ولا حساب لوزنهم وغضبهم، ولا خوف منهم على المصالح الدولية لانهم يقولون ما لا يفعلون ويتراجعون عن مواقفهم قبل ان يجفّ حبر التواقيع عليها. وانطلاقاً من هذه النظرة الفوقية رسمت السياسات والاستراتيجيات ونفذت نظريات السيئ الذكر هنري كيسنجر بتفتيت المنطقة وتقسيم العرب وتفكيك مفاصلهم ومن ثم تفتيت الصراع العربي الاسرائيلي الى خطوات صغيرة تافهة وحلول جزئية لم تجلب سوى الخراب والدمار والدم المسفوك بغزارة في كل مكان وردود فعل خطيرة تمثل معظمها في اعتماد العنف كمبدأ اساسي ونشر آفة الارهاب التي زرعها في الاساس الصهاينة كأفراد ومنظمات في البداية ثم كدولة وهو ما تمارسه اسرائيل بلا رحمة ضد الشعب الفلسطيني. وبين الهجمات المعادية والخنوع العربي يبقى عامل الوقت عنصراً غائباً او مغيّبا عن العقلية العربية مع اننا نعرف ان الوقت من ذهب وان كل دقيقة تحول في العالم الى حسابات انتاج وطني وان الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك كما كان يردد رائد القصة العربية كرم ملحم كرم، ونشعر بهذا الغياب في كل مرة نودع عاماً ونستقبل عاماً جديداً ونأسف لأن الزمن يمر من دون ان يحقق العرب انجازاً او على الاقل يُرصد لهم نجاح واحد في درء خطر او وقف تدهور او القضاء على آفة، والايام تدور وتدور ونحن ما زلنا في مقاعد المتفرجين نتفرج ولا نشارك، ونتفاعل ولا نفعل، ونتأثر ولا نؤثر، ونهرب من اللعب حتى ولو في الوقت الضائع. وهذا ليس بكاء على الاطلال ولا مشاركة في جلد الذات بل مجرد تنبيه لواقع مؤسف وحاضر أليم ودعوة للنهوض والتحرك قبل فوات الأوان حتى لا نكرر انفسنا كل عام ونردد العبارات نفسها في وداع عام واستقبال عام ليس احتفالاً في حدث لا وزن له بل احتساب لقيمة الزمن الضائع واهمية كل دقيقة في حياة الشعوب ولا سيما تلك المتأخرة كثيراً عن ركب الحضارة والعلم والحرية والديموقراطية. ولو اجرينا جردة لحسابات العام المنصرم لأدركنا حقيقة ما شهده من آلام وما خسرته الامة من امكانات وكرامة وبشر! ففي العراق تخلص الشعب العراقي من نظام ظالم ديكتاتوري فاسد استنزف طاقاته وثرواته ليقع تحت نير احتلال يخبط خبط عشواء وظلم وارهاب لا يميز بين المحتل والمواطن ولا يفرق بين مذنب وبريء فحصدت الحرب غير المبررة ارواح عشرات الآلاف من المدنيين الابرياء ودمرت البنى التحتية لهذا البلد العربي الاصيل واستنزفت ثرواته التي كانت لا تقدر بثمن ويحسب له ولها الف حساب وحساب. وسقط العراقيون جميعاً ضحايا لمطامع واخطاء وخطايا وتصفية حسابات، تجعل من الخروج من مأزقها بمثابة المعجزة فهم الآن عالقون تحت مطرقة الاحتلال وسندان الارهاب الذي وجد العراق مرتعاً خصباً لدعواته. وهكذا كان عام 2004 عام الدم والدمار بجدارة من النجف الى الفلوجة ومن البصرة الى الموصل، ولم يعد هناك سوى بصيص أمل يتمثل في الانتخابات المكررة في مطلع العام المقبل رغم المآخذ الكثيرة على عملية الاعداد لها والمخاوف الكبيرة من محاولات تعطيلها او تحويلها عن مجراها الاساسي المطلوب ونتائجها الفاعلة وقدرتها على اضفاء ثوب الشرعية على النظام العراقي تمهيداً لانهاء الاحتلال وانسحاب القوات الاجنبية. ويمكن القول ان هذه الانتخابات تمثل نافذة الامل الوحيدة التي يجب على العراقيين التمسك بها اياً كانت الجهة التي ينتمون اليها لانه ليس هناك بديل متوافر سوى الخراب والدمار وانتشار الفوضى وتعزيز الارهاب وضرب ركائز الوحدة الوطنية وصولاً الى تكريس التقسيم وتفتيت العراق وبقاء الاحتلال الاجنبي الى ما لا نهاية. وينطبق على فلسطين ما ينطبق على العراق من حيث الاحداث والتطورات وحجم الآلام والخسائر البشرية والمادية والدماء التي سفكت من قبل المحتل الغاصب تنفيذاً لخطة شارون الجهنمية لنسف مسيرة السلام وضرب البنى التحتية للدولة الفلسطينية المستقلة وتحويلها الى كانتونات ومناطق مقسمة ومجزأة لا يربط بينها اي رابط سوى جدران العار الصهيوني التي تحاصرها من كل جانب. وينطبق على فلسطين ايضاً بعد رحيل القائد الرمز قضية الوحدة الوطنية والمؤامرات المعدة لاثارة الفتن من اجل اشعال نار حرب اهلية تقضي على شعلة الامل التي يحملها كل فلسطيني في قلبه ووجدانه. وكان الصهاينة يتذرعون بوجود الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ويرفضون التعامل معه وها هم يضعون الآن الشروط التعجيزية ويزرعون حقول الالغام في طريق القيادة الجديدة بعد ان تخلصوا من رمز القضية والشعب والوطن. ولهذا فإن مسؤولية كل فلسطيني اليوم كبيرة جداً ومسؤولية القيادات اكبر لانها مصيرية وحاسمة... فالذي دسّ السم في دماء عرفات يعمل اليوم على دس السم في دم كل فلسطيني بالمخططات التآمرية المباشرة حيناً وبدس السم في عسل الوعود الخادعة حيناً آخر. وهكذا كان عام 2004 للفلسطينيين كما كان للعراقيين والعرب عموماً عام الدم والاحزان والشجن... من مئات الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن شرفهم ووطنهم وحريتهم الى آلاف الاسرى الذين يتجرعون سم العذاب والظلم كل يوم الى الملايين الذين يرزحون تحت نير الاحتلال والحصار والذل والهوان... وليس امام الفلسطينيين في العام المقبل، وهو عام الحسم الاول بعد رحيل قائد فذ بقي مهيمناً على القضية لاكثر من 40 عاماً، وعام الامتحان الصعب للشعب الفلسطيني لكي يثبت انه جدير بالاستقلال والحرية بتوحيد صفوفه والاتفاق على انتخاب رئيس يقود السفينة وسط بحر هائج وامواج متلاطمة ثم القبول بالنتائج والاعتراف بشرعية الرئيس المنتخب والتعامل معه بموضوعية وبالتالي المشاركة في خطوات مطلوبة لضرب الفساد وبناء المؤسسات الوطنية وتوحيد القرار والبندقية والعمل تحت سقف الوطن المرتجى لقطع الطريق على الفتن والمؤامرات الهادفة لاشعال نار الحرب الاهلية وإلهاء الفلسطينيين بحروب مدمّرة جرّبوا نارها، وجرّب غيرهم، وكانت النتيجة النهاية المخزية والدمار الشامل. وبعيداً عن العراقوفلسطين عاش العرب خلال العام المشارف على الرحيل آلاماً واحزاناً من نوع آخر رغم انعكاس احداثهما عليهم واحاسيسهم الملتاعة بآلامهم واحزانهم وتأثرهم بأوجاعهم ومخاوفهم من انتقال سموم العواصف التي لا ترحم احداً الى ديارهم. السودان بالذات عاش اياماً صعبة وأليمة وعانى من تدخلات اجنبية وتهديدات جدية من دارفور الى الجنوب مروراً بالصراعات الداخلية والانقسامات المتزايدة في صفوف الاحزاب والقوى الفاعلة مع غياب الادراك بخطورة الموقف وفقدان البوصلة لدى القيادات في النظام والمعارضة من اجل الاستدلال على معالم طريق السلامة والامن والامان. وظهر شعاع نور في نهاية النفق السوداني المظلم بتوقيع اتفاق السلام في الجنوب والسعي لانهاء محنة دارفور وازالة اسباب نشوب هذه الحرب المخزية وتحديد مسؤولية النظام والمتمردين على حد سواء في سفك الدماء البريئة وانتهاك اعراض المواطنين الآمنين. وفي اقاصي الوطن العربي ازمة مستعصية تؤسس لحرب دامية قد تنفجر في اية لحظة بسبب التفتت والتدخلات الاجنبية والمطامع لمنع ايجاد حل عادل لقضية الصحراء والعمل على اقامة دولة غير قابلة للحياة فيها بعد فصلها عن وطنها الام واشغال المغرب بمشاكلها وتجميد قضايا البناء والتنمية وعرقلة المساعي لبناء اتحاد المغرب العربي كأن يداً خفية تزرع الفتن في خاصرة كل دولة عربية لابقائها في مدار الخطر والخوف والتبعية من المحيط الى الخليج. ولا بد من الاشارة ونحن نودع العام 2004 الى محطة ايجابية مهمة في الخليج وفي دولة الاماراتالمتحدة بالذات وتمثلت في عملية انتقال السلطة بيسر وسهولة وتسلّم الرئيس الجديد الشيخ خليفة بن زايد قيادة الدفة باسلوب هادئ وسريع خلفاً لباني الاتحاد وربان سفينة التنمية والوحدة الوطنية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان فتحول الحزن الى راحة، والخوف على المستقبل الى اطمئنان. ولا يمكن اتمام"حفل وداع"العام من دون الاشارة الى الضغوط الدولية التي تعرض لها لبنان وسورية وكانت سمته المميزة بالنسبة اليهما بعد التمديد لولاية الرئيس اميل لحود 3 سنوات اخرى. وجاء القرار 1559 لمجس الامن الدولي ليحول التهديد الى واقع والمخاوف الى سيف قد يرفع ضدهما في اية مناسبة. والرد عليه لا يجدي الا بتوحيد الصفوف وازالة الاسباب ونزع الحجج والذرائع من ايدي اصحاب القرار وفتح باب الحوار البناء مع كافة القوى والاطراف كافة من دون استثناء والتخلي عن سياسة الالغاء والكيدية. ولولا بعض العمليات الارهابية التي وقعت في السعودية خلال العام المنصرم وكان آخرها عملية القنصلية الاميركية في جدة لكان يمكن القول ان منطقة الخليج شهدت استقراراً ملفتاً وتسلّحت ب"زوّادة"مهمة يبنى عليها لاطلاق ورشة بناء وتنمية واصلاح نتيجة للفوائد التي جنتها من ارتفاع اسعار النفط... ولا شك ان نجاح قوى الامن في ضرب اوكار الارهاب واجماع المواطنين على استنكار جرائم الارهابيين ورفض اللجوء الى العنف قد ساهم في اشاعة اجواء الاطمئنان والنظر الى الغد بثقة وتفاؤل بانتظار تنفيذ المشاريع الانمائية والبدء في مسيرة المشاركة عبر الانتخابات. ومن تونس التي جددت للرئيس زين العابدين بن علي الى مصر التي تتجه للتجديد للرئيس حسني مبارك مروراً بسورية التي تشهد تحولات نحو الاصلاح والتحدي والتطوير الهادئ يودع العالم العربي عاماً آخر وعين تدمع على العراق... واخرى تبكي على فلسطين وهي تسأل: اما لهذا الليل من نهاية وأما لهذا الظلام من فجر... ونحن نتساءل معها ونكرر بأنه ما ضاع حق وراءه مطالب فالمؤمن لا ييأس رغم اننا سننتقل خلال ايام من عام مثقل بالهموم والدموع والآلام الى عام محمّل بتركة ثقيلة كل الامور فيها معلّقة... انه انتقال من عام دام الى عام غائم ندعو الله ان يحمل الينا مطر الخير والسلام. كاتب وصحافي عربي.