بأي أدوات سوسيولوجية تمكن معاينة إندلاع الشغب في فرنسا؟ ومن خلال أي منظومة فكرية تجوز المخاطرة في سبر أغوار الأزمة؟ تقف فرنسا مشدوهة ترتجل التفسير وتتعجل التحليل لإدراك الواقع. تندلع في أزقة الضواحي وقائع غضب جماعي قد يصعب قبول نتائجه والدفاع عن تداعياته، فحركة الميدان لا تستند على مسوغ أيديولوجي أو على تيار فكري معين، كما أن فصول الواقعة لا تشرف عليها قيادة ولا تتولى أطر معينة الترويج لها. العنف انفجر عشوائياً مجانياً لا يهادن سلطة ولا يراعي بيئة ولا تردعه قيّم التغيير الكلاسيكية. ففي زمن الفكرة الواحدة وفي غياب التنافس الأيديولوجي وفي غفلة عن قوانين العولمة، ينفجر العنف المديني في الطبعة الفرنسية بحيث تتفكك طموحات وتتبدد أوهام لطالما شغلت النخب الفرنسية. أهل السلطة في باريس يعترفون بأن نموذج الإندماج الفرنسي في أزمة. وفي هذا الإقرار إعلان إندثار نموذج كانت فرنسا تتفاخر به على الحلفاء والخصوم. أراد الفرنسيون الترويج لرسالتهم في الأرض ودأبوا، وهم أحفاد فلاسفة التنوير وحاملو إرث الثورة الفرنسية، على تخصيب قيم الجمهورية وتقديمها كثروة كونية. تحت هذا العنوان أسس الفرنسيون لدورهم الكولونيالي بصفته رافعة مفصلية لنشر قيم الثورة، على تلك القاعدة إعتبرت فرنسا أن إنجازها المحلي منذ واقعة الباستيل حق إنساني تنسحب ثماره على البشر في أفريقيا وآسيا وأميركا… تماما كما تمتع الفرنسي بها. وإن كانت الحقبة الإستعمارية إنتهت إلى زوال، وناهيك عما إذا كانت القيم الكونية الانسانية حوافز أم حججاً، غير أن فرنسا ونخبتها الحاكمة والمنظّرة إستمرت في مزاولة سلوك يمنح الأرض الفرنسية الأم بعدا بنيويا حاضنا للفكرة الفرنسية وللأمة الفرنسية. إنفردت فرنسا بمفهوم مبتكر للأمة. ففيما تأسست فكرة الأمة في الرؤية الأنغلوسكسونية على رابطة الدم واللغة، اعتبر الفرنسيون أن الأمة تتألف من تآلف أفراد حول قيم معينة. وراح فلاسفتها يمعنون في تصليب فكرة الإجتماع حول مجموعة من القيم يحتضنها المكان الأرض التي تنتهي إلى تشييد الأمة. وضمن هذا المنطق تأتي فرنسا لتكون مشروعاً إرادوياً واعياً تحصنه رغبة الجماعة في التمسك بقيم الجمهورية. الأمة عند الفرنسيين دعوة فردية تناسب الإنسان في الزمان والمكان أيا كان أصله أو دينه أو جنسه أو لغته. عملت فرنسا منذ بدايات القرن الماضي على تطبيق نظريتها حول الأمة والفرد على الوافدين إلى أراضيها. وجهدت بيمينها ويسارها وأيا كانت التيارات السياسية والإيديولوجية التي تناوبت على حكمها، على تشييد مشروع المواطنة المستند على دمج المهاجرين بصفتهم أفراداً تجوز عليهم قيم فرنسا. فالمنطق الفرنسي لا يقبل دمجا في العجينة الإجتماعية العامة على أساس الجماعات والجاليات كما هي حال التجربة الأنغلوسكسونية في هذا الإطار. صحيح أن القيم الجمهورية تقبل بالتعددية وتعترف بالثقافات، إلا أن المواطنة تنبني على الفرد على أساس أن فرنسا هي الانتماء الأصيل فيما تبقى الانتماءات الأخرى خيارات حرة تأتي في درجات لاحقة. جندت فرنسا زادها الثقافي والتاريخي والتربوي لإنجاح نموذج المواطنة الفريد لديها. تفاخرت بجرأتها العلمانية وجعلتها فيصل النموذج الفرنسي. سخّرت مدارسها لنشر قيم الجمهورية تحت الثوابت الثلاثة: حرية - مساواة - اخاء. أشاعت لغتها وسيلة ترويج وتجذير. وإستنفرت سياسات إرادوية تتحرى على الدوام تحويل كل أجنبي على أراضيها إلى فرنسي. في المقابل نظرت فرنسا دائما بعين منتقدة إلى التجارب الأميركية والبريطانية والالمانية في هذا المضمار، والتي تمحورت حول القبول بالأجنبي على قاعدة الجماعات والجاليات، والانتماء إلى الأمة على لُبنة الإنتماء إلى الجماعة بأبعادها اللغوية والإثنية والدينية... كانت باريس تراقب بتعال مواجهات المدن بين ومع الجماعات الاثنية في الولاياتالمتحدة وعلى الأراضي البريطانية، وكانت تنظر إلى الهجمات الإنتحارية في شوارع لندن على أنها نتاج حال تفكك بين الأمة وأبنائها كتفسير لقيام شبان ولدوا وترعرعوا في بريطانيا بالقيام بتلك الهجمات الإرهابية المقيتة. وعلى بساط دورها الكوني ورسالتها الإنسانية راحت فرنسا تقود مع ألمانيا المشروع الأوروبي وذهبت الى مقارعة الولاياتالمتحدة تشاكسها وتعاندها. وربما ضمن تلك الفرضيات نشهد شماتة مبطنة تمارسها تلك الدول في المحنة الفرنسية. ففيما يجتمع الأعلام الفرنسي على التخفيف من وتيرة إحتلال الحدث المصاف الأول، تتنافس الوسائل الإعلامية العالمية عامة والانغلوسكسونية بخاصة على إيلاء الأزمة في فرنسا الحيّز الأول تغطية وتحليلا وتضخيما! والمفارقة أن أسباب فشل التجربة الفرنسية قد توجد في الابتعاد عن القيم التي لطالما زينت البيارق الفرنسية. عملت الماكينة الفرنسية على بناء غابات الاسمنت لاحتواء أمواج الهجرة. وفي سعي فرنسا لهضم ظاهرة الهجرة، أسست لشروط العزل لا لظروف الاندماج. بقي الخطاب الأخلاقي المعلن أسير الشعارات تتجاوزه قواعد الحاجة: الحاجة إلى الشعور بتكافؤ الفرص، والحاجة إلى تحصيل مستويات المعرفة والعلم، وإلى العيش بالمستويات التي تستدعيها فكرة المواطنة. لم تغب مشكلة الهجرة والمهاجرين عن النقاش العام في فرنسا منذ السبعينات، أي منذ أن إنتهت حال البحبوحة التي تلت حقبة الحرب العالمية الثانية. أضحى المهاجرون حطب الجدل السياسي الداخلي. حول تلك المسألة يختلف اليسار عن اليمين ويرتفع ميزان"الأفضلية"الفرنسية على الطموحات الكونية. وعلى خلفية تلك القضية إزدهر اليمين المتطرف الجبهة الوطنية وكاد زعيمه جان ماري لوبن ينتخب رئيسا. ولعل حرائق فرنسا الأخيرة تذكرنا بأن الفرنسيين تخلوا منذ زمن عن العامل الإرادوي الذي تميزوا به في هذا المجال وتركوا الأمور تسيرها قوى السوق بالمعايير المعولمة. فأهملت النخبة الحاكمة ذلك الملف واقتطعت الموازنات وألغت التسهيلات وتغاضت عن إجراءات التمييز الإيجابي وأسقطت فعل الدمج واغتالت فكرة الفرد - المواطن. إكتشف الفرنسيون أنهم يعايشون مجتمعا متعدد السرعات، وأدركوا أن ثقافة الضواحي خرجت عن رتابتها لتتحدى قلب الحاضرة. فمن كان متوقعا لهم أن يجسدوا نجاح نموذج الأمة في فرنسا خرجوا من أزقتهم يفتكون بتلك الأمة من متنها ومن خلال رموزها: مؤسسات حكومية، مدارس علمانية، مراكز الرعاية، إلى سيارات سكان تلك الأزقة. الحدث دراماتيكي يعبر عن كره من ارتكبوا ما حصل لمجتمع القيم وأرضه وناسه. لم تستطع التشكيلات السياسية والناشطة مهما تطرفت يسارا أن تجد مسوغا للدفاع عمن وصفهم وزير الداخلية الفرنسي بالرعاع والهمج. فتلك الحركة خرجت عن النظام العام بنخبه وعامته، ولم تندرج ضمن التصنيفات المعروفة. فلا تمكن مقارنتها بإنتفاضة عام 1968 . فلا قضية واضحة ولا مطالب معلنة ولا خريطة طريق موضوعة ولا إيديولوجية حاضنة. ومن خلال غياب الغطاء السياسي وإزاء إنبهار المجتمع وخوفه، أُتيح لحكومة باريس اللجوء إلى قوانين الطوارئ متواكبا مع قرارات مالية تعيد وصل ما إنقطع وتنشيط ما أصابه شلل وتفتح أبواب الأزقة على الحاضرة بمحركاتها التعليمية والخدمية والمصرفية والاقتصادية. وفي إجراءات الحكومة البوليسية إعتراف بالفشل وإقرار بالإهمال ورغبة كسولة بحل أمني. وربما بإحياء قانون الطوارئ العائد إلى أيام إستعمار الجزائر، عودة إلى الفكرة الكولونيالية بالتعامل مع الأجنبي. ربما في تلك الفرضية مبالغة ما، إلا أن في رمزية الأشياء تكمن الحقائق. أليست مفارقة أن تعكس حال الراهن أن الجيل الجديد من الشبان الذين ولدوا في فرنسا هم على رغم تمتعهم بالجنسية الفرنسية منذ المولد وترعرعهم في مدارس الجمهورية أقل إندماجا من أهاليهم المولودين خارج"أرض"تلك الأمة. * كاتب لبناني مقيم في باريس.