1 ابن الساعاتي البعلبكي وُلدَ ابن السَّاعَاتي في مدينة بعلبك سنة 653ه/ 1255م، وكانت وفاته سنة 694 ه/ 1295 م وهو مظفرُ الدين، أحمد بن على بن تغلب أو ثعلب، المعروف بابن الساعاتي البعلبكي الحنفي البغدادي، العالم بفقه الحنفية، وقد انتقل مع أبيه من بعلبك إلى بغداد، وأبوه هو الذي عمل الساعات المشهورة على باب المدرسة المستنصرية في بغداد التي نشأ فيها ابن الساعاتي، وتلقى العلوم في المدرسة المستنصرية التي بناها الإمام المستنصر العباسي، وبعد التخرج والنبوغ تولى ابن الساعاتي تدريس الحنفية في المستنصرية. قال اليافعى: كان ابن الساعاتي مِمَّن يضرب به المثل في الذكاء والفصاحة وحسن الخطّ. له مصنفات منها مجمع البحرين - خ فقه، وشرح مجمع البحرين - خ مجلدان، وبديع النظام، الجامع بين كتابى البزدوى والأحكام - خ في أصول الفقه، والدرّ المنضود في الردّ على ابن كمونة فيلسوف اليهود ونهاية الوصول إلى علم الأصول، والمشهور باسم بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام. 2 رأي ابن خلدون تناول ابن خلدون في الفصل التاسع من مقدمة تاريخه موضوع أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات، فقال: اِعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدراً، وأكثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف. وأصول الأدلة الشرعية هي: الكتاب، الذي هو القرآن، ثم السنة الْمُبَيِّنَةُ له. فعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تُتَلقى منه، بما يُوحى إليه من القرآن، ويُبيِّنُه بقوله وفعله، بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل، ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه، تعذر الخطاب الشفاهي، وانحفظ القرآن بالتواتر. وأما السُّنَّة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها، قولاً أو فعلاً، بالنقل الصحيح، الذي يغلب على الظنِّ صِدْقهُ. وتعيَّنت دلالة الشرع في الكتاب والسُّنَّة بهذا الاعتبار، ثم تَنَزَّلَ الإجماعُ منزلتهما لإجماعِ الصَّحابة على النكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلاّ عن مُستند لأنَّ مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت، مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماعُ دليلاً ثابتاً في الشرعيات. 3 دليل ابن خلدون ثم نظرنا في طُرُقِ استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة، فإذا هُم يقيسون الأشباه منها بالأشباه. ويُناظرون الأمثال بالامثال بإجماعٍ منهم، وتسليمِ بعضِهم لبعضٍ في ذلك. فإنَّ كثيراً من الواقعات بعدَه صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوصُ الثابتة، فقاسُوها بما ثبت، وألحقوها بما نُصَّ عليه، بشروطٍ في ذلك الإلحاق تُصحِّحُ تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظنّ أنَّ حُكْمَ الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلاً شرعياًّ بإجماعهم عليه، وهو القِياس، وهو رابع الأدلة الشرعية. وأتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة، وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ. وأَلْحَقَ بعضُهم بهذه الأدلة الأربعة أدلةً أُخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. 4 مباحث الأصول كان من أول مباحث هذا الفن: النظرُ في كون هذه أدلة. فأما الكتابُ فدليله: المعجزةُ القاطعة في مَتْنِهِ، والتواترُ في نقله، فلم يبقَ فيه مجال للاحتمال. وأما السُّنَّةُ وما نُقِل إلينا منها: فالإجماع على وجوب العمل بما يصحُّ منها كما قلناه، معتضداً بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه*، من إنفاذ الكُتب والرُّسُل إلى النواحي بالأحكام والشرائع أمراً وناهياً. وأما الإجماع: فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأُمة. وأما القياس: فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه أصول الأدلة. ثم إن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر، بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين، لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه، الذي هو مناط وُجوب العمل بالخبر. وهذه أيضاً من قواعد الفن. ويُلحق بذلك، عند التعارض بين الخبرين، وطلب المتقدم منهما، معرفةُ الناسخ والمنسوخ، وهي من فصوله أيضاً وأبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالات الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق، من تراكيب الكلام على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردةً ومركبةً. والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان. وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوماً ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذٍ يحتاج إليها، لأنها جِبلة وملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب، قيَّدَها الجهابذة المتجردون لذلك، بنقلٍ صحيح ومقاييس مُستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم أن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام، وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة بين تراكيب الكلام وهو الفقه. ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بُدَّ من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصَّلَ أهلُ الشرع وجهابذة العلم من ذلك، وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. 5 تطور علم الأصول قال ابن خلدون: واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يُحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملَكَة اللسانية. وأما القوانين التي يُحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فعنهم أُخِذ مُعْظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها، لِقُرْبِ العَصر، وممارسة النَّقَلة وخِبْرَتِهم بهم. فلما انقرَض السَّلَفُ، وذهب الصَّدْرُ الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة الشرعية، فكتبوها فناًّ قائماً برأسه سَمَّوْهُ: أصول الفقه. 6 طرق المؤلفين الأصوليين قال ابن خلدون: كان أول من كتب في أصول الفقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة، وتكلم فيها في الأوامر والنواهي، والبيان والخبر، والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه، وحققوا تلك القواعد، وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أَمَسُّ بالفقه وأليَقُ بالفروع، لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النُّكَتِ الفقهية. والمتكلمون يجردون صُوَرَ تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم، ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطُّولى من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين aن مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدبوسي"وفاته سنة 430 ه/ 1039م"من أئمة الأحناف، فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهّدت قواعده. وعني الناس بطريقة المتكلمين في أصول الفقه. وكان من أحسن ما كَتَبَ فيه المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني"وفاته سنة 478ه/ 1085م"، والمستصفى لأبي حامد الغزالي الفقيه الشافعي"وفاته في 14 جمادى الآخرة 505 ه/ 1111م"، وهما من الأشعرية. وكتاب العهد للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني"وفاته سنة 415 ه/1024م"، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري"وفاته سنة 436 ه/ 1044م"، وهما من المعتزلة. وكانت الكُتب الأربعة، قواعد فنّ التأليف في أصول الفقه وأركانه. 7 الملخصات والشروح ثم لَخََّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين، المتأخرين، وهما: فخر الدين الرازي ابن الخطيب"وفاته سنة 604 606 ه/ 1207 1209م"في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي"وفاته سنة 631 ه/ 1234م"في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والْحِجَاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مُولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأما كتاب المحصول، فاختصره تلميذ الرازي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي"وفاته سنة 689 ه/1290م"في كتاب التحصيل من المحصول، وتاج الدين محمد بن حسن الأرموي"وفاته سنة 653 655 ه/ 1255 1257م"في كتاب الحاصل. واقتطف شهاب الدين القرافي"وفاته سنة 682 ه/ 1283م"منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. وكذلك فعل البيضاوي"وفاته سنة 685 ه/1286م"في كتاب المنهاج. وعني المبتدئون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب الإحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقاً في المسائل، فلخصه أبو عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب"وفاته سنة 646 ه/ 1248م"في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه. وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات. 8 الجمع بين المؤلفات وأما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن كتابة المتقدمين فيها تأليف أبي زيد الدبوسي"وفاته سنة 430 ه/ 1039م"، وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي"وفاته سنة 482 ه/ 1089م"، من أئمة الأحناف، وهو مستوعب. وجاء أحمد ابن الساعاتي"وفاته سنة 694 ه/ 1295 م"من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الإحكام للآمدي، وكتاب أصول البزدوي في الطريقتين، وسمى كتابه بالبدائع"بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام"، فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونة قراءة وبحثاً. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه. والحال على ذلك لهذا العهد،"وقد حققناه تحقيقاً علميا منذ سنوات". 9 بديع النظام قال حاجي خليفة في كتاب كشف الظنون: بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والأحكام: للشيخ الإمام مظفر الدين أحمد بن علي المعروف بابن الساعاتي البعلبكي البغدادي الحنفي، المتوفى سنة 694 للهجرة، وهو مختصر لطيف أوله:"الخير دأبُكَ اللهم يا واجب الوجود"الخ..، جمع فيه زبدة كلام الآمدي والبزدوي، كما جمع صاحب التنقيح بين ابن الحاجب والبزدوي، وقال ابن الساعاتي:"قد منحتك أيها الطالب بهذا الكتاب البديع في معناه، اسمه كمُسمّاه، لخصته من كتاب الأحكام، ورصعته بالجواهر من أصول فخر الإسلام"انتهى، ولاشتراك ذلك الكتاب بين الأصولين تصدى لشرحه جماعة من الحنفية والشافعية لأن الآمدي شافعي. منهم: ابن أمير الحاج موسى بن محمد التبريزي الحنفي المتوفى سنة 736 وسماه: الرفيع في شرح البديع، وعثمان بن عبدالملك الكردي المصري الحنفي المتوفى سنة 738، وشمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني الشافعي المتوفى سنة 749، وهو شرح بالقول سماه: بيان معاني البديع، أوله: الحمد لله الذي خلق الخلق الخ..، وزين الدين علي بن حسين المعروف بابن شيخ العونية الموصلي الشافعي المتوفى سنة 755، والشيخ العلامة سراج الدين أبو حفص عمر بن إسحاق الهندي الحنفي المتوفى سنة 773، وهو شرح بالقول في أربعة مجلدات سماه: كاشف معاني البديع وبيان مُشكله المنيع. أوله: الحمد لله الذي مهَّد قواعد الفقه الخ..، وشرح العلامة كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن الهمام الحنفي المتوفى سنة 861، وصرح بذلك في شرح الهداية حيث قال: وقد أوضحناه فيما كتبناه على البديع. وشرحه الشيخ المعروف بابن خطيب جبرين الحلبي المتوفى سنة 739. ومن الحواشي على البديع: حاشية محب الدين محمد بن أحمد المعروف بمولانا زاده الحنفي المتوفى سنة 859. وأضاف الباباني في كتاب هدية العارفين: ابن الساعاتي: أحمد بن علي بن ثعلب بن أبي الضياء البعلبكي البغدادي، له من التصانيف: بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والأحكام. وكتاب الدر المنضود في الرد على ابن كمونة فيلسوف اليهود. وكتاب شرح مجمع البحرين في مجلدين. وكتاب مجمع البحرين وملتقى النهرين في الفروع. وكتاب نهاية الوصول إلى علم الأصول، وغير ذلك.