يمكن النظر إلى أحداث غزة المتوالية، منذ الانسحاب الإسرائيلي، من أكثر من زاوية. وفي كل مرة لا يمكن لمهموم بقضية فلسطين إلا أن يخاف. لكن الأكثر إثارة للخوف أن نرى فيها دليلا على أن الفلسطينيين يدورون حول أنفسهم ولا يتقدمون خطوة إلى الأمام. تربكهم أي مبادرة إسرائيلية تكشف هشاشة الأرض التي يقفون عليها وتفضح عجزهم عن الاتفاق على برنامج حد أدنى بالرغم من جولات الحوار الوطني التي لم تنقطع منذ أكثر من عامين. لقد أكدت أحداث غزة أنهم لم يحصدوا من هذه الجولات إلا الريح، وأن الرعاية المصرية للحوار لم تنجز إلا شكلا للتوافق قد يبدو براقا في حينه، لكنه لا يقرّب المسافات البعيدة بين فصائل فضلت الهرب من قضايا الخلاف الجوهرية حرصا على استمرار شكل الحوار دون مضمونه. وخضع الرعاة المصريون لابتزاز مارسه بعض قادة الفصائل الأكثر تشدداً عبر تسريبات تفيد بأن القاهرة تضغط عليهم. وكان هؤلاء الرعاة بذلوا جهدا يفوق الطاقة سعيا إلى توافق فلسطيني يضع حدا لفوضى لم تعرف مثلها حركة تحرر وطني في تاريخ النضال ضد الاستعمار. لكنهم رضوا بأقل من القليل واستبدلوا تدخلا مستمرا، بل يوميا في بعض الفترات، للتوفيق بين الفصائل، بالاتفاق على برنامج حد أدنى بدا مستحيلا. ووصل الأمر إلى حد أن وفدا مصريا بات مقيما في غزة بشكل دائم منذ شهور للتدخل السريع لحل أي مشكلة أو أزمة بين"الأخوة الأعداء"، وكأنهم أطفال لا يمكن تركهم لحالهم. لذلك كان طبيعيا، ومتوقعا، أن يكون"تحرير"غزة مدخلا إلى فصل جديد في الأزمة الفلسطينية أكبر وأخطر من ذي قبل. لكن سرعة نشوب الأزمة فاقت معظم التوقعات، واستبقت زيارة الرئيس محمود عباس المنتظرة إلى واشنطن في 20 الجاري، وأضعفت مركزه. فعباس سيواجه في واشنطن ضغطا لا سابق له منذ رحيل عرفات، استهلته كوندوليزا رايس في خطابها في جامعة برنستون قبل أيام، بإعادة فتح ملف تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كاد المجتمع الدولي أن ينساه. وإذا كانت"حماس"تتحمل المسؤولية الأولى عن هذا التدهور، فالمشكلة أبعد من عدم التزامها بنتائج جولة الحوار الوطني الأخيرة بالقاهرة مطلع العام الجاري. فالأزمة ليست فقط في مدى التزام"حماس"أو غيرها بالتهدئة، وإنما في منهج الحوار الوطني وطريقة إدارته. فهذا الحوار الذي تمخض فلم يلد إلا صيغة ملتبسة لوقف إطلاق النار، كان حوارا تكتيكياً محضاً سادته مناورات من جانب مختلف أطرافه على حساب وظيفته الأولى، وهي التفاهم على برنامج للعمل الوطني. صحيح أن أي حوار سياسي لا يمكن أن يخلو من مناورات. لكن هذا يختلف عن حوار يغرق في مناورات فلا يرسو على شاطئ، ويصبح الحرص على استمراره دافعا إلى تقزيم المستهدف منه. فاعتبر أطرافه، ومعهم مصر التي رعت محطات رئيسة فيه، أن استمرار الحوار بغض النظر عن نتائجه مؤشر على الوحدة الوطنية ودليل على ابتعاد خطر الصدام أو الاقتتال الأهلي. وهذا اتجاه يحرص على شكل الوحدة الوطنية أكثر من مضمونها، بالرغم من أن أصحابه مخلصون في سعيهم للحفاظ على هذه الوحدة. والمشكلة الأكبر هي أن يتواصل هذا المنهج على صعيد الحوار الوطني، والعلاقة بين الفرقاء الفلسطينيين بشكل عام، بعد أن ظهر قصوره واضحا عند تدهور الموقف في قطاع غزة. فالمفترض أن يكون هذا التدهور وضع أطراف الحوار جميعها أمام حقيقة أن هذا الحوار لا يصلح لبناء عمل وطني جاد في ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد. كما أن النتيجة المتواضعة للغاية التي رضي بها أطرافه ورعاته خلال الفترة الماضية، وهي شكل"الوحدة الوطنية"، بدت في مهب الريح. فما فعلته"حماس"في غزة ليس مجرد خطأ وقعت فيه ويمكن تصحيحه. فقد تصرفت على نحو ينسجم مع استراتيجيتها المختلفة جذريا عن استراتيجية"فتح"وفصائل أخرى، وعن سياسة السلطة الوطنية بطبيعة الحال. وهذا الخلاف بين استراتيجيات متباينة، حتى لا نقول متناقضة، غاب تماما في الحوار الفلسطيني. ومفهوم تماما أن الخلافات الاستراتيجية والتناقضات في شأن الأهداف النهائية للنضال الفلسطيني يمكن أن تعوق الشروع في أي حوار وطني من حيث الأصل. لكن ثمة فرقا بين أن تكون هذه الخلافات محور الحوار، وبين حضورها في ثناياه سعيا إلى الحد من أثرها على أي تفاهم مرحلي يمكن بلوغه. فاستبعاد الخلافات الاستراتيجية، بل التحاور كما لو أنها غير موجودة أصلا، يصيب أي تفاهم مرحلي بالهشاشة ويجعل الوصول إلى برنامج عمل وطني مرحلي مستحيلا. ولذلك رأينا كيف عجزت الجولة الأخيرة في الحوار، التي عقدت في القاهرة، عن الوصول إلى أكثر من صيغة، لا تخلو من غموض، تقضي بالتهدئة حتى نهاية العام نفسه. وفضلا عن غموض الصيغة، كان هذا تفاهما إجرائيا محدودا وأبعد ما يكون عن أن يؤسس لبرنامج مرحلي للعمل الوطني. اقتصر هذا التفاهم على تجنب أي عمل يعطل خطة الانسحاب الإسرائيلي من غزة، من دون أن يمتد أثره أبعد من ذلك. لم يشمل هذا التفاهم حتى رؤية مشتركة للتعاون في بناء القطاع المهدم وتنمية اقتصاده ورفع مستوى حياة أبنائه وتعويضهم عن كثير ضحوا به بما في ذلك تعليمٌ تعثّر لأكثر من خمس سنوات وتدنى مستواه في عصر باتت المعرفة المصدر الأول للقوة. وفي ظل تفاهم هذه حدوده، فضلا عن غموضه، لا تجد"حماس"مانعا من السعي إلى حصد مكسب خاص عبر التصرف بطريقة توحي بأن جهادها هو الذي أرغم الإسرائيليين على الفرار من غزة. ولا يقتصر هذا المكسب على زيادة شعبيتها لأغراض انتخابية، وإنما يشمل، فوق ذلك، تنصيب نفسها قائدة للجهاد المتواصل. ففي غياب برنامج سياسي، بل حتى نقاط برنامجية لمرحلة ما بعد الانسحاب، تصرفت"حماس"في إطار ما تعتبره ثوابتها وموقفها الاستراتيجي عندما نظّمت العرض المسلح في منطقة هي الأعلى من حيث الكثافة السكانية في عالم اليوم، ومن دون أن يكون لديها وسائل كافية للسيطرة على الأسلحة المعروضة. فكان أن انقلبت عربة عليها بعض الصواريخ فأحدثت تفجيرات حصدت أرواح نحو 20 من كوادرها وأنصارها. ولأن الاعتراف بهذا الخطأ يثير سؤالا في العمق عن حدود قدراتها العسكرية التي تحرص على المبالغة فيها، اتهمت إسرائيل. وبهذا الاتهام لم تستطع قيادتها أن تمنع بعض منتسبيها من إطلاق 40 صاروخا على سيديروت، في لحظة كان ارييل شارون المأزوم داخليا في أمس الحاجة إلى مبرر لشن اعتداءات واسعة على غزة عشية اجتماع مركز حزبه للاقتراع على موعد الانتخابات الداخلية. وعندما توترت الأجواء، لم يجد بعض عناصرها رادعا يردعهم عن التصعيد ضد السلطة وأجهزتها. ولم تكن"حماس"في هذا كله إلا منسجمة مع استراتيجيتها. فالحوار الوطني الذي امتد لسنوات اكتفى بتفاهمات على السطح. وآثرت أطرافه، في جولته الأخيرة، السلامة في مدى قصير جدا لا يتجاوز شهورا، فخلقت خطرا داهما على مدى لا يتجاوز هذه الشهور إلا بأقل القليل. مع ذلك لا يبدو حتى الآن أن أحدا استخلص هذا الدرس. لا السلطة ولا"حماس"، ولا حتى مصر التي قامت بدور كبير في رعاية الحوار وذهب إليها الرئيس عباس في 29 أيلول سبتمبر الماضي شاكيا مخالفة"حماس"للتهدئة، وليس مقترحا تصويب مسار الحوار. فالخلل في المنهج هو ما يجعل مثل هذه المخالفة، وأكثر منها، واردا كلَ وقت. ولا منجاة إلا عبر مراجعة أمينة لمسار الحوار الوطني لاستخلاص الدرس واستبدال المنهج لاستئنافه بأفق الوصول إلى برنامج مرحلي لفترة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، وليس إلى تفاهم جزئي يكتنف الغموض صيغته. ولا سبيل إلى مثل هذا دون معالجة صريحة وشفافة لأثر الخلافات الاستراتيجية على الالتزام به. فالخوف من فشل الحوار إذا دخل في المناطق الأصعب لا يبرر المبادرة بإفشاله عبر حصره في دائرة لا يفيد التوافق فيها إلا على الصعيد التكتيكي، فيما يبقى الخلاف الأساسي قابلا للانفجار في أي وقت. فالحوار لا يفشل لأن فصيلا أصر على وضع العصا في عجلاته، وإنما لأن باقي الفصائل تفتقد الرؤية وتنقصها إرادة الإصرار على المضي قدما لبلوغ البرنامج الوطني وكسب غالبية الشعب الفلسطيني لصفّه. فإذا كان الوفاق الكامل صعبا، فلتحتضن الغالبية البرنامج الذي يفقد الفلسطينيون في غيابه البوصلة ويضلوا الطريق. لقد فوت الفلسطينيون، ومعهم مصر، لحظة مواجهة الحقيقة على هذا النحو في الأيام الماضية. وليس معروفًا متى ستحل اللحظة التالية، وكيف سيكون أثرها، وهل سيتمكن الفلسطينيون من تحمل تداعياتها إذا لم يبادروا بتصويب منهج الحوار بينهم.