لا بد أن يكون السعي إلى إقامة "قيادة فلسطينية موحدة" مغرياً في ظرف تردّي الأوضاع في الساحات الفلسطينية إلى حد غير مسبوق... غير أن هناك عقبات لا تزال تعترض هذا المسعى، ومن الصعب التنبؤ في هذا الصدد بمَن مِن الأطراف الفلسطينية ستكون له الكلمة الأخيرة. لقد نجح - أو كاد ينجح - اجتماع عقد في مقر المجلس التشريعي في مدينة غزة للفصائل الفلسطينية ال 13 المشاركة في "لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية"، في إصدار وثيقة تتضمن دعوة الرئيس عرفات إلى تشكيل ما أطلقت عليه "القيادة الوطنية الموحدة" غير أن ممثل "حماس" في الاجتماع اسماعيل أبو شنب عاد ليطلب مزيداً من الوقت لدرس محتويات الوثيقة، بعد إعلانه موافقته الشخصية عليها، الأمر الذي ينم عن وجود خلافات حادة في صفوف حركة "حماس"، مما عطل جهود الفصائل في التوصل إلى موقف استراتيجي مشترك. تضمنت الوثيقة محاور ثلاثة: محور أول يحدد "الأهداف"، وتلخصت في ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة في حرب 1967، بما فيها مدينة القدس، وإقامة دولة فلسطينية فوق هذه الأراضي عاصمتها القدس، وصون حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم بمقتضى قرار الأممالمتحدة رقم 194، ومحور ثانٍ يتعلق ب "الوسائل"، ويؤكد شرعية الانتفاضة والمقاومة واستمرارهما في تواز مع النضال السياسي، مع تأكيد البعدين العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، ويتعرض المحور الثالث للجوانب "التنظيمية"، لحين إجراء انتخابات "ديموقراطية شاملة للمؤسسات الفلسطينية" من القاعدة إلى القمة في بداية العام المقبل، ويشارك جميع الفصائل على مستوى الأمناء العامين وقيادات الصف الأول في تشكيل القيادة الجماعية للقوى الوطنية والإسلامية برئاسة عرفات، والانتخابات هي وسيلة إجراء "عملية إصلاح شاملة للوضع الداخلي" بعيداً عن محاولات أميركا وإسرائيل فرض الوصاية على الحركة الفلسطينية. غير أن محتويات هذه المحاور، التي قد يبدو لأول وهلة أن التغلب على ما هو موضع خلاف داخلها ليس بالأمر العسير، إنما تحمل في طياتها الكثير من الألغام الموقوتة. فقد تحددت - ضمن "الأهداف" - ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لا القضاء على الكيان الصهيوني عملاً بطرح مختلف جبهات الرفض.. وفي "الوسائل" تقرر التمييز بين العمليات التي تجري في الأراضي التي تم احتلالها في 1967، وتلك التي تجري داخل حدود إسرائيل ما قبل 1967.. ومن هنا تسليم من قبل الجميع بأن ثمة اختلافاً بين هذه الأراضي وتلك، قد لا يعني ذلك العدول نهائياً عن فكرة أن الدولة الصهيونية ينبغي أن تزول، ولكنه يحمل معنى العدول عن التصدي لوجود إسرائيل بالكفاح المسلح طوال المرحلة الاستراتيجية القادمة. والجاذب للانتباه تأكيد معنى أن المداولات ليست مقصورة على الأطراف الفلسطينية المشاركة في السلطة الفلسطينية، أو في منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما تتسع، بجانب القوى "الوطنية"، إلى "القوى الإسلامية"، وثمة حرص على تأكيد التضامن بين قيادة عرفات وقيادة "حماس"، من منطلق أن التضامن بين هذين الفصيلين بالذات هو القضية المحورية في الظرف الراهن. إن الوثيقة تلتزم في الحقيقة ب "موقف وسط" بين السلطة الفلسطينية و"حماس"، موقف لا هو إطلاق عمليات المقاومة المسلحة دون تحفظات، ولا هو الإحجام عن اطلاقها على طول الخط، لا هو الموقف الذي يطالب به شارون - وأيضاًَ بوش - وهو التخلي كلية عن العنف كل منهما يصف كل أشكال العنف بالإرهاب، ولا هو موقف بعض قوى الرفض منها "الجهاد" إن لم يكن أيضاً "حماس" التي مازالت ترفض الالتزام بالتخلي عن العنف على إطلاقه، حتى العنف الموجه إلى كيان إسرائيل ذاته، أو ضد مدنيين وأهداف غير عسكرية. إن الأرضية المشتركة التي تتبناها الوثيقة هي أرضية ربما تنطوي على قدر من الالتباس، بغية استبعاد تأثير ما هو مختلف عليه في الأهداف البعيدة، الطويلة الأمد، من الوقوف عقبة في وجه التحرك المشترك في الحاضر، وفي المستقبل القريب، المنظور. وربما كان مربط الفرس في الظرف الراهن هو الضجة التي تثيرها العمليات الاستشهادية، وبالذات التي تشمل ضحاياها مدنيين أبرياء، وبادئ ذي بدء، أعتقد أنه يتعين التمييز بين عمليات وارد وصفها بالاستشهاد، وعمليات تسفر في النهاية عن قتل مدنيين، فكل جندي معرض للقتل، والفارق بين "الاستشهادي" ولنخلع عنه الصفة الدينية ولو موقتاً، ولنصفه ب "الانتحاري" وبين الجندي العادي، هو أن الجندي العادي معرض في الحرب للقتل، ولكنه لا يُقتل بالضرورة.. أما "الانتحاري"، فإن مصيره الموت حتماً لأنه يُقدم على قتل آخرين بأسلوب يتضمن قتل نفسه. وثمة أمثلة كثيرة في التاريخ، أقدم فيها جنود على عمليات جاز وصفها بالانتحار، أبرز ما يذكر في هذا الصدد هو عمليات "الكاميكاز" التي كانت تقدم عليها فرق خاصة من الجنود اليابانيين في الحرب العالمية الثانية. كان اليابانيون يصممون قذائف "طوربيد" آدمية "يمتطيها" جندي ليضبط سير الطوربيد، ويضمن بلوغه الهدف المقرر سفينة حربية معادية مثلاً بدقة كبيرة، ثم كانت هناك أسطورة هذا الجندي الروسي الذي تسلل، في يوم من أيام الحرب العالمية الثانية، إلى موقع قريب من مقر هيئة أركان حرب قوة ألمانية غازية، وبحوزته جهاز راديو للإرسال والاستقبال، وقد طالب المدفعية الروسية بتركيز ضرباتها على الموقع الذي يقف هو فيه، كي تنسف القيادة الألمانية مع نسفها لموقعه هو، إن هذه أعمال "انتحارية" تنم عن أرقى أشكال البطولة، ولا تحتمل الإدانة على أي نحو. ولذلك، نقول: لا يُحكم على العمليات الفدائية بسلوك من يرتكبها، بقدر ما يُحكم عليها بنوعية البشر الذين تصيبهم، إن المستهدف ينبغي أن يكون جهة مشاركة في القتال، جهة عسكرية، لا جهة مدنية ليست طرفاً في المعركة، ثم ربما كان أفضل أن يدور القتال في أرض هي موضع النزاع، ذلك أن العمليات التي تتجاوز هذا الحيز، كثيراً ما تصيب، ولو بشكل غير مباشر، وحتى غير مقصود، أطرافاً ليست أطرافاً في النزاع، غير أن هذه التمييزات النظرية من الصعب عدم مخالفتها في التطبيق، فثمة ضرب، وضرب مقابل، ويتوه من في موقع الفعل ومن في موقع رد الفعل، وتسفر العمليات عن اتجاه إلى التصعيد، والغرق في حلقة مفرغة.. فكيف الخروج من المأزق؟ من هنا أهمية ألا تجرفنا النواحي العملية لنغفل الأساسيات، وبادئ ذي بدء، علينا أن نتذكر أن احتلال الأرض هو في حد ذاته عنف حتى لو ساد الهدوء، لفترات قصرت أو طالت، جبهات القتال، وهو عمل غير مشروع بمقتضى الشرعية الدولية، بل بنص ميثاق الأممالمتحدة، غير أنه قد يقال إن ثمة وضعاً استثنائياً فيما يتعلق بالقرار 242. ذلك أنه قرار بات يُفهم على أنه يعني "مبادلة الأرض بالسلام"، أي تعليق الانسحاب على التوصل إلى اتفاق سلام يحدد أية أرض من الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل تشكل الآن أرضاً "محتلة"، وهذا هو مبرر إسرائيل لتعليق الانسحاب برمته على إنجاز اتفاقات تحدد معنى التوصل إلى حل "سلام" مع كل طرف عربي على حدة. وفي غياب هذه الاتفاقات، وما دامت المفاوضات سارية ولم يعلن انقطاعها، فتتمسك إسرائيل بعدم جواز اللجوء إلى العنف، وتتخذ ذلك تكأة لمد الاحتلال إلى غير أجل، وهكذا تحمّل إسرائيل الفلسطينيين مسؤولية العنف، ولجوئها في المقابل إلى عمليات ردع باترة كلما وقعت عملية فدائية بالذات العمليات الاستشهادية، مستندة في عملياتها العقابية إلى تفوقها العسكري الكاسح، الأمر الذي يثير لدى الفلسطينيين غضباً عارماً، وردود أفعال يائسة، وبلوغ الكراهية المتبادلة حداً غير مسبوق، وعمليات انتقامية لا تملك ترف التمييز بين عسكري ومدني. والحقيقة أن الوضع قد بلغ حداً من التردي بحيث أصبحت المراهنة المتبادلة على الثأر والقتل والموت، لا التصالح والأمل والحياة.. فالذي يبدي استعداداً للتضحية بالحياة يشعر بأنه يملك سلاحاً لا يقهر.. سلاحاً لا يميز بين مَن مِن ضحاياه مدني أو عسكري، بل لا يرى مبرراً لإجراء مثل هذا التمييز، فالتمييز وارد في نظر من لا يزال يحتكم إلى الحياة، ويحرض عليها، ولا معنى لهذا التمييز قط لدى من ينطلق من أن الموت عنده شر أهون من الحياة، بل يمكنه من جر أطراف غيره - لا تريد أن تموت - إلى الموت معه.. هكذا يصبح إعمال الموت سلاحاً جباراً يدعو البعض إلى الاعتقاد أن إسرائيل إذا صح أنها تملك تفوقاً عسكرياً كاسحاً، فبوسع العمليات الانتحارية أن تكون سلاحاً مماثلاً في التأثير والفعالية وكفاءة الأداء، ومن هنا مبرر استمرار التشبث بها، وبوجه خاص من قِبل من يؤمنون - من منطلق ديني - بأن القضية هي دفاع عن مقدسات تفتح لهم أبواب السماء. ومع ذلك، من الصعب المراهنة على لعبة الموت لضمان التماسك والتضامن في صفوف الفلسطينيين، من الصعب إزالة التناقضات في صفوفهم ولعبة الموت هي اللعبة السائدة، وإذا صح أن سلاح الانتحار فعالٌ ضد العدو الصهيوني، فمن الممكن أن يكون أيضاً فعالاً ضد قوى فلسطينية وعربية حليفة، إن الظرف الراهن هو أكثر الظروف حاجة إلى بناء الثقة المتبادلة بين الفصائل الفلسطينية، والثقة لا تُبنى على التربص والاقتتال والطعنات الخلفية المتبادلة، ولو كان هناك حرص على تأكيد معنى أن التضامن الفلسطيني إنما لا بد أن يعني، في المقام الأول، التضامن بين فتح وبين حماس، بين أبرز رموز القوى العلمانية والدينية الفلسطينية، فذلك لأن هذه العلاقة هي أكثر العلاقات الفلسطينية / الفلسطينية حساسية وهشاشة، هي أكثرها عرضة لانتكاسات وتوترات، وهي الثغرة التي لن تكف إسرائيل عن محاولة النفاذ إليها واستغلالها لمصلحتها. كاتب مصري.