الشاعر محمد حسين هيثم، واحد من ألمع شعراء القصيدة الجديدة في اليمن إن لم يكن ألمعهم. دخل الى عالم الشعر وكأنه يعرف كل شيء من هذا العالم، تفاصيله الخفية والظاهرة فقد كانت بداياته الاولى مبهرة لقارئ الشعر بعامة والمتخصص بخاصة سواء في مضامينها او في اكتمال بنيتها الفنية. وليس غريباً او مفارقة ان يعمد الشاعر الى تسمية مجموعته الشعرية الاولى -"اكتمالات سين"وما تحمله هذه التسمية من رمزية خفية يكشف معناها عن حقيقة مستوى العمل الإبداعي الاول الذي يتباهى باكتمال نصوصه وقدرتها على التجاوز والتأسيس. كل الشعراء يلثغون ويتأتئون في نطقهم الشعري الأول إلا محمد حسين هيثم هذا الذي تأتي نصوصه منذ البداية سليمة النطق مستوية البناء مغلفة بغيوم شفافة من الرمز اللغوي والفني. ومن قصيدة"اكتمالات سين"التي أخذت المجموعة الاولى عنوانها تبدأ مقاربتنا لهذا المبدع الثمانيني: أحاول أن أبدأ/ ادلق أصابعي في مدى البياض:/ يأتيني"سين"/ إله لا يتكامل/ أحاول مرة أخرى:/ يأتيني شفق الراعيات المأتميات المأربيات/ دائماً بين ارتكاس الذكورة/ والخرائب المطلسمة/ أحاول ثالثة ولتكن الأخيرة/ قبل ذلك/ أصلي ركعتين لامرأة ما/ امرأة لم أحلم بها قط/ أغمس الأصابع في ماء الصباحات الجميلة/ في زغب الفضاء اليتيم/ ادلقها على البياض/ يأتيني حشد الغراب/ التواريخ الهجائية/ التواريخ المهولة/ التواريخ الهجينة/ التواريخ الدم - الطبقات/ النزوحات الوخيمة للدم المأربي/ القبائل الصخرية/ وأشياء لا حصر لها...!!/ من أين أبدأ؟ اكتمالات سين: ص356. لا يستخدم الشاعر في هذه البداية المكتملة من عناصر الشعر المألوفة سوى اللغة، لا وزن، لا قافية، انه الشعر وحيداً إلا من نفسه، ومن شبكة هائلة من المفاجآت التي تتداعى تفاصيلها من دون استحضار مسبق او استعانة بقوة ما خارج الشعر، حتى"سين"وهو إله القمر عند اليمانيين القدماء لم ينفعه بشيء ولم يدله على بداية الطريق، لذلك فهو يحاول مرة، وثانية، وثالثة، قبل أن يدلق أصابعه بالصور الجميلة المغسولة بماء الصباحات والخارجة من"زغب الفضاء اليتيم"!! لقد تكررت كثيراً في كتاباتي وفي أحاديثي أيضاً العبارة الآتية:"من لم يولد شاعراً فلا فائدة من تعذيبه للغة، ومن عبثه بالأوراق البيضاء". في نص آخر حواري البنية ومن المجموعة نفسها بعنوان"متوازيات"يجيد الشاعر أسلوب التراسل مع نفسه وتتكرر معه كلمة"تريدين"وكأن الضمير عائد الى النفس تلك التي تستعجل الاشياء وتريدها حاضرة قبل ان تستوي وتنضج وتغدو مكتملة ومواكبة لإرادة الشاعر وتجربته ووجدانيته. يبدأ النص هكذا:"تريدين قصيدة/ وأريد لرأسي صخرة/ يحط عليها./ تريدين قصيدة/ وأريد لصمتي مظاهرة لا تحدها العصا/ تريدين قصيدة/ وأريد لأشلائي امرأة/ ترتل الأنهار كل صباح/ تريدين قصيدة/ وأريد...". . كل شاعر حقيقي هو في واقع الأمر رسام حقيقي، يرسم لوحاته الرائعة الخطوط والألوان بماء القلب وانفعالاته وفي فضاء من التداعيات الغامضة شبه الواضحة. وأجمل لوحاته هي تلك الاقرب الى حقيقة روحه ومنها تلك التي يرسم فيها وجوه اصدقائه وقلوبهم وأحاديثهم وتلويحات أيديهم. وللشاعر محمد حسين هيثم في مجموعته الاخيرة"استدراكات الحفلة"عدد من النصوص القصيرة الفاتنة يرسم فيها بحبر من الضوء ملامح بعض اصدقائه، وكل نص فيها على شكل لوحة من القطع الصغير، تضيء فيها اللغة وتنداح تراكمات المعنى في مزيج من الخيالي والواقعي، الوجودي والإنساني. وليس المهم المساحة التي تأخذها اللوحة - النص أو النص - اللوحة، بقدر ما تبعثه صورها الفريدة المغايرة في النفس من أحاسيس وخلجات:"كل هذا المطر المشتبك/ نشيد مبحوح لا ينقطع/ لرجل ندى/ تحت شرفة مغلقة/ لامرأة/ تتغطى بشعرها/ أمام/ مرآتها الكبيرة". تلك هي اللوحة التي رسمها هيثم لصديقه الشاعر جميل أبو صبيح، رجل من مطر. ولغة المطر في صحرائنا الجدباء كانت وستبقى أحب اللغات الى الشعر، كما الى القلب وهي تعكس الحضور الرمزي الشعائري للاستقساء بحثاً عن الماء ذلك الحاضر/ الغائب دوماً في واقع المكان والزمان العربيين. الصورة تتجاوز علاقة الرمز بالشعار لتؤسس علاقة الإنسان بالإنسان او بعبارة اوضح علاقة الشاعر بالشاعر. وكما يقدم الشاعر في مجموعة"استدراكات الحفلة"لوحاته الشعرية عن عدد من الاصدقاء فإنه يقدم لوحات مماثلة عن الارض والطبيعة، ولعل اقرب تلك اللوحات الى القلب هي تلك التي ترسم صورة باذخة لحضرموت - المكان بكل تفاصيله ومكوناته وكائناته، وحضرموت التي تخفي من جمالياتها المكانية اكثر مما تظهر تظل الأعذب والأجمل في حديث الشعر والشعراء وحولها تتسع المعاني وتضيق الألفاظ: حضرموت/ سلة إلهية/ ينقشها بحارة/ ذوو مباءات زرقاء/ بحارة يردمون الليل على نساء العواصم/ يسورونهن بالمباخر والشجر المر/ ويرصفونهن باللهاث/ حضرموت/ تبدأ نشيدها/ من محارة يدمي فيها الممسوسون بعشب/ مرجاني واغل". حضرموت ص 62. يلاحظ والحديث عن الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد حسين هيثم انه بدأ هذه الأعمال بأحدث مجموعاته وبذلك صارت اول مجموعاته هي آخرها. وهو ترتيب اتبعه عدد من الشعراء الذين جمعوا نصوصهم المنجزة في مجموعات شعرية تتألف من مجلد او اكثر ليبدأ القارئ رحلته معهم ضمن آخر ما انجزوه لا من بدايات ذلك الانجاز. وفي هذا الصدد فإن استخدام تعبير"الأعمال الشعرية الكاملة"مبرر لشعراء من أمثال محمد حسين هيثم الذي أمضى في صحبة الشعر ما يقرب من ثلاثين عاماً قدّم خلالها تجاربه التي يحسن القارئ انه اخلص فيها للشعر وقضاياه وهمومه.