توفّر أمامنا مجموعة عبدالله أبو هيف القصصية الجديدة"هواجس غير منتهية"أكثر من مدخل لقراءتها النقدية. 1- تمكن قراءتها انطلاقاً من احدى بطلات قصصه وهي قصة"نزهة الروح"ص59 التي وردت ضمن ثلاثية"أمكنة اخرى كثيرة". 2- ويمكن ان تنطلق قراءتها من توقعات، أو أحكام، مسبقة عنوانها الأساس: الناقد كاتباً... أو الكاتب ناقداً. 3- لكن المدخل الأول المتوافر لدينا هو عنوان المجموعة أصلاً:"هواجس غير منتهية"مع التركيز على شطري العنوان. الى ذلك نستطيع الاسترسال مع مداخل أخرى متنوعة. 4- شعرية المكان، بل الأمكنة في تنوّعها، ضمن هذه القصص، وبخاصة الأمكنة البعيدة جغرافياً، وتاريخياً أيضاً، والتي تستدعيها الذاكرة. 5- شعرية اللغة التي ما إن تحط قليلاً في رتابة الحياة اليومية والحدث الواقعي، حتى تحلّق عالياً لأسباب عدة، قد يعود بعضها، في نظرنا، الى دوافع عدة، منها: - انسيابية الكتابة - الهاجس. - أو جعل هذا النوع من الكتابة مهرباً أميناً للتلميح دون التصريح، بخاصة في ما يتعلق بالرقابة الذاتية آو المسكوت عنه إجمالاً. يعود هذا التنوّع والغنى الى تعدد زوايا النظر لدى الكاتب، والى تنوّع الأمكنة وتراثها، فضلاً عن تنوّع الاهتمامات. القصة التي أشرنا اليها في المدخل، ورأينا انها تصلح مدخلاً للقراءة المتعمقة، هي قصة في منتهى البساطة: عن امرأة تعود من باريس الى وطنها، فتبدو حتى لحظة بلوغ مطار أورلي، وكذلك داخل الطائرة، في منتهى البهجة والفرح والتحرّك، جسدياً أيضاً، ببهجة لا تقل عن فرحها المعنوي وحيوية لا تدل أنها في الخمسين من العمر. هي أم شرقية، كرّست حياتها لأبنائها. ويضاف الى ذلك انها موظفة لم تغادر دمشق منذ زمن طويل، وتقول عن ذلك:"لم أحسّ بهذه السعادة. لقد وهبت حياتي كلها لبيتي. إن أولادي هم كل شيء عندي". وعندما يسألها الراوي:"اذاً كنتُ تتنزهين في باريس"؟ تتلعثم وهي تتمتم:"لم أفعل شيئاً، ان روحي هي التي كانت تتنزّه"."نزهة الروح"هذه، تنتهي لدى الوصول الى الأرض الأولى، الى الموطن"كانت تعود الى حياتها الطبيعية عندما بدأ الركاب بالنزول من الطائرة، كانت متثاقلة حتى انه غفل عنها، لأنها لم تكن تشبه المرأة التي غادرت معه من مطار أورلي". كذلك هي قصص عبدالله أبو هيف، تأتي بالكثير من الاشراق عندما تحلّق الى أمكنة، وأمكنة أخرى كثيرة، كما في القصص التي حملت عناوين"أمكنة"وأمكنة أخرى كثيرة"وكذلك"عند حافة الأفق"،"مونولوغ ومونولوغ آخر"،"عتمة غافية""من يذكر أم قيس""مراثي الوقت"... في هذه القصص يفرد الكاتب جناحين هائلين، ويطلعنا على أماكن وشخصيات ومصائر لافتة ومؤثرة ضمن أسلوب لا يخلو من لغة شعرية، وطرافة رصد والتقاط، مع بساطة في النقل، تزخر بالعمق والايحاء: نقل أصوات الآخرين، وأصدائها، ونقل علاقاتهم بالمكان والزمان، وبالآخرين أيضاً. من دمشق الى شمال سورية، الى اليمن والأردن والمغرب، وصولاً الى فرنسا وموسكو، وبولنده وألمانيا والصين، تصلنا أصوات وآراء، وتومض فينا أمكنة مغايرة، لا يسترسل الكاتب في وصفها الا بما يخدم الموقف أو نفسيات أبطاله. أما قراءة المجموعة انطلاقاً من أحكام مسبقة، فهي لا تعفي الكاتب من أحكامنا تلك. واذا كان الناقد موجوداً في أعماق كل كاتب، كما يقال، فهو يحاول التواري والاختفاء في كتابات عبدالله أبو هيف، ليظهر على رغم ذلك مسربلاً بغلالات شفيفة كثيراً ما يفتضح أمرها لجهة الاهتمامات الثقافية لدى عدد من شخصيات قصصه، وأكثر من ذلك انطلاقاً من المشاكسات الأسلوبية التي يتوخاها الكاتب مقتفياً أثر زكريا تامر في قصة"رحيل الى البحر"لزكريا تامر أو"رأيت في ما يرى النائم"لنجيب محفوظ، أو في قصص أخرى تتحدث عن محمد القيسي وحميد العقابي، وعن مهمات ومؤثرات كثيرة! ويمكن ان نضيف الى كل ذلك ذهاب الكاتب الى توخي أكثر من أسلوب قصصي، ونجاحه في الاختزال وترك المجال للقصة كي تعبّر عن نفسها، بما هي كذلك، بعيداً من الاسترسال والاستطراد. تلك الخبرة النقدية التي تستفيد منها قصص عبدالله أبو هيف، تجعلها متدرجة من القصة"الحالة"التي لا تقدّم حدثاً معيناً بمقدار ما تنقل حالة تنتاب صاحبها، أو هاجساً يسكنه، الى القصة التقليدية التي تتطلب أحداثاً وحبكة وخاتمة، وصولاً الى القصص الأكثر حداثة، وتلك التي تجاور قصيدة النثر، لو تم اختزالها أكثر. وكثيراً ما يلجأ الكاتب الى الناقد، فيربط بين تلك الحالات، مرقّمة في قصة واحدة. وكأن"الحالة"القصيرة الواحدة لا تكفي"لتملأ العين"وتشكل قصة مكتملة. كذلك الشأن بالنسبة الى القصة الشعرية التي يأتي أبطالها بين ظل وضوء، وصمت عن الإفصاح، فلا يقدمون لنا قصتهم كاملة بل يتركون ظلالاً تتخللها انفراجات ضوء. ذلك ايضاً ما يجعل معظم تلك القصص"هواجس"و"هواجس غير منتهية أيضاً"يمكن ان يضاف اليها الكثير، سواء من القارئ، أو من القاص، روائياً، هذه المرة.