متأخرة يرافقها الخجل، جاءت استفاقة بعض الدول العربية الى كلفة البخل والتجاهل للمسؤولية العالمية أمام الكوارث وحجب المعونات الانسانية الضرورية. جاءت كرد فعل على الانتقاد وليس نتيجة مراجعة عميقة للأخطاء أو انقلاب على تقليد عقيم، فبقيت قاصرة ومقصرة وغير مؤسساتية. وحتى مضاعفة المبالغ الأولية التي قدمها بعض الدول الخليجية للمساعدة في معالجة بؤس كارثة الزلزال الآسيوي والتيار الجارف، تسونامي، بقيت المعونات العربية ضئيلة قياساً ببقية العالم ولوحظ غياب وتغيب أكثرية الدول العربية عن مد يد المساعدة حتى للصومال العربية المتضررة وان لم يكن بقدر ضرر اندونيسيا أكبر دولة اسلامية في العالم. هذه الكارثة فتحت أكثر من حديث سياسي وقيادي وجعلت البعض يتساءل ان كان فيها فرصة للاستقطاب. شرّعت أبواب التنافس على العطاء لأسباب تعدت الكرم، منها ما هو انساني محض ومنها ما له غايات التسابق السياسي. ووفرت هذه الفاجعة مناسبة لأكثر من دولة وقطب ومؤسسة وفرد إما لاستعادة الاعتبار أو للتمركز في طيات العظمة. الأممالمتحدة كمنظمة ووكالات كما الأمين العام كوفي انان، وجدت في الكارثة مناسبة لتحويل الأنظار عن تهم الفساد والفضائح الناتجة عن برنامج"النفط للغذاء"في العراق باتجاه ما تحسن المنظمة الدولية القيام به عند وقوع الكوارث الطبيعية وتلك التي تصنعها الحروب، أي تنسيق العطاء. كوفي انان قطع اجازته وعاد الى مقر الأممالمتحدة في نيويورك ليساعد في تنسيق المساعدة ثم غادر الى اندونيسيا والمناطق الأخرى المتضررة في المحيط الهندي. وكيل الأمين العام للشؤون الانسانية ومنسق الاغاثة، يان ايغلاند، بات معروفاً في كل بيت يحوي التلفزة في العالم وهو يقدم يومياً حصيلة تسوماني وتقصير العالم نحو الكارثة التي لا سابقة لها. وعلى رغم ما أثاره ايغلاند من احتجاج على لسان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ووزير الخارجية كولن باول بسبب استخدامه تعبير"البخل"في حديثه عن الدول الأغنى في العالم، نجت الأممالمتحدة من المحاكمة والمحاسبة. نجت لأن توقيت المعاقبة لم يكن مؤاتياً في خضم الكارثة ولأن المسلة تحت إبط الادارة الأميركية جعلتها تستدرك خطأ التقدم في البدء بمبلغ زهيد قدره 15 مليون دولار لترفعه الى 350 مليون دولار ولتذكّر العالم بأن أميركا لم تكن أبداً بخيلة وانما سخية تنفق مبلغ 2 بليون دولار سنوياً على المساعدات الانسانية. وللتأكيد على السخاء على مستوى القطاع الشعبي والقطاع الخاص، اطلق الرئيس الاميركي النداء للقطاعين وكلف والده الرئيس السابق جورج بوش والرئيس الديموقراطي السابق بيل كلينتون القيام بالحملة فالتبرع مؤسساتي في الحياة الاميركية، الرسمية وغير الحكومية، وان كانت نسبته عادية قياساً الى تبرع أمثال النروج والدنمارك والسويد وغيرها من الدول الاسكندنافية وكندا واليابان. اليابان تبرعت بمبلغ 500 مليون دولار كأموال جاهزة لأية مساعدة ترتأيها الأممالمتحدة. المانيا تبرعت بالسخاء ذاته بل زايدت مما جعل البعض الساخر يعلل بأن السبب هو المزاحمة والمنافسة على مقعد دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي في زمن الاصلاح الآتي الى المنظمة الدولية. الصين التي تعتبر نفسها العملاق الآسيوي المرشح لوراثة مرتبة الدولة العظمى في العالم خجلت من التبرعات الضئيلة التي تقدمت بها في البداية فضاعفتها الى ما يقارب 65 مليون دولار، مبلغ ضئيل مقارنة مع العظمة المتوخاة. فالحاجة ماسة الى بلايين الدولارات وليس الى ملايينها فقط. ايران ايضاً تقدمت بالقليل قياساً الى ما تلقته عندما وقعت في كارثة مثل زلزال بام ومقارنة مع نظرتها الى نفسها كدولة مهمة. ومؤسف ان انشغلت ايران المسلمة بتفاهات الخلاف على تسمية الخليج، فارسياً كان أو عربياً، لدرجة تطلبت انتباه وزير خارجيتها مما جعلها تبدو نرجسية للغاية أمام الكارثة الآسيوية التي حلّت ايضاً بعدد كبير من المسلمين. ليبيا التي لم تتردد في تمويل التعويضات والانقلابات والارهاب والتفجيرات في الماضي وجدت صعوبة، بعد تأهيلها اميركياً، في ان تتبرع بسخاء لضحايا الكوارث الطبيعية. سورية انشغلت باستقبال وكيل وزير الخارجية الاميركية المغادر بعد أيام ريتشارد ارميتاج، لتتأكد من القول للصحافة ان الحديث ركز على العراق ولم يتطرق جذرياً الى لبنان. هوس دمشق بامتلاك القرار السياسي بوسائل استخبارية في لبنان أعماها عن فوائد الاقبال بقدر الامكان الى مواساة من هم أطفال القارة التي تسكنها. ومصر! مصر التي تعتبر نفسها أم الدنيا أيضاً انشغلت بأمور"مصيرية". نعم، قدمت معونات عينية لا نعرف حجمها أو وزنها أو مفعولها أو قدرها. لكن الانشغال الأساسي لها صب في منع تعديل الدستور بما يسمح بمنافسة الرئيس حسني مبارك على ولاية خامسة له في الحكم. مصر، التي ينشغل بعض نخبتها في"مكافحة"من يدعو الى عملية سياسية شاملة لا تستبعد حتى"الاخوان المسلمين"وذلك عبر حملة هدفها اقناع الأميركيين بوضع"الاخوان المسلمين"في قائمة الارهاب. هذا فيما جاءت كارثة تسونامي بحديث ملفت للانتباه عن المنظمات الاسلامية، اذ تمكنت هذه التنظيمات المحلية وليس تنظيم شبكة"القاعدة" من مد يد العون الى المتضررين. ما طرح السؤال إن كانت هذه التنظيمات ستستخدم شبكة معوناتها للتجنيد في صفوفها. أميركياً، وطرحت مؤسسات فكرية ووسائل اعلامية سؤالاً عما إذا كانت الكارثة الآسيوية ستعزز القدرة الاميركية على الانتصار في"حرب الارهاب". فالفكرة تنبثق من سؤال عن"مفعول"ملايين الدولارات الاميركية في الأماكن المتضررة المكتظة بالمسلمين بمعنى: هل يقدرون المساعدة ويتوقفون عن كرهنا؟ هل ستجندهم أموالنا معنا أو هل ستجندهم المنظمات الاسلامية المحلية مع"الارهاب"؟ بقدر هوس هؤلاء بفكرة"معنا أو ضدنا"أو"لماذا يكرهوننا"وبقدر ما يريدون حصر أي شيء مسلم أو عربي في خانة"إما معنا أو مع الارهاب"، بقدر ما هناك هوس آخر مخجل في الساحات العربية والاسلامية حيث انصبت ردود الفعل على الكارثة في اشاعات قيام اختبارات الولاياتالمتحدة واسرائيل والهند في تفجيرات نووية مشتركة أدت الى هيجان البحر في المحيط الهندي. هؤلاء المنغمسون في نظرية المؤامرة هذه يجب أن يخجلوا من أنفسهم لأنهم ينصبون على المؤامرة لحجب المعونات عن المتضررين ولتجنب مسؤولية المواطنية الضرورية. انهم جبناء وأغبياء وبخلاء حتى ولو صدقوا في تصوراتهم الخيالية، لكنهم ليسوا وحدهم المسؤولين عن مثل هذا الفكر ومثل تلك العاطفة ذلك انهم لم يعيشوا في مجتمعات تدرب على العطاء والمسؤولية والمواطنة. قطر فهمت المعادلة قبل غيرها من الدول الخليجية عندما كانت الأولى بين الحكومات العربية ترفع معوناتها الى مبلغ 25 مليون دولار، فالكويت أخذت نصيبها الذي تستحقه من اللوم على بخلها في التجاوب بمجرد 2 مليون دولار بادئ الأمر لتضاعف المبلغ الى 10 ملايين بعدما أسفرت افتتاحية صحيفة"القبس"عن نقد عربي ودولي للحكومة الكويتية المستفيدة من ارتفاع العائدات النفطية والتي سخا العالم عند الدفاع عنها بعد غزو العراق للكويت. والمملكة العربية السعودية التي اعلنت عن حملة تبرعات بين مواطنيها، تأخرت قبل استدراك خطأها الفادح بالتبرع بمجرد 10 مليون دولار قبل رفع المبلغ الى 30 مليون دولار وهو مبلغ ضئيل جداً مقارنة مع تبرعات الآخرين، فما جاء هذا التبرع به على السعودية هو استرجاع سيرتها في الاستثمار عندما أهدرت أموالها في تدريب المجاهدين في افغانستان. انها سيرة المضي بتقليد لم يأتِ على المملكة بعائدات ايجابية على استثمارتها الكثيفة بل جاء اليها بالانتقاد لأنها لم تلتحق بمؤسساتية العطاء الدولي لمد المساعدات الانسانية بصورة منتظمة. كارثة تسونامي علّمت كثيرين دروساً عدة وقد حان للمنطقة العربية، حكومات ونخبة وشعباً وقطاعاً خاصاً أو عاماً، ان تفهم انها وراء كل منطقة أخرى في العالم عندما يتعلق الأمر بثقافة مؤسساتية العطاء والمواطنية المحلية والعالمية. فليس كافياً ان يستيقظ فرد هنا وحكومة هناك بين الحين والآخر، الى رغبة أو حاجة في المساهمة والكرم. المطلوب استفاقة جدية وحقيقية على واجبات المواطنية ومسؤولياتها. فالعرب الأغنياء يهدرون الأموال تحت أنظار العالم في كل بقاع الكون وهم يفرحون ببهجتهم ويفرخون غاضباً عليهم اما من الداخل العربي البائس أو من خارجه الناقم. فالمشكلة أعمق من الثراء والفقر، أنها في الضمير العربي. فهناك تقرع طبول الايقاظ فيما السبات العميق للأسف يلتهم الاستفاقة.