بعد أن غاب غابريل غارسيا ماركيز عن المشهد الروائي نحو عشر سنوات، عاد إلينا برواية صغيرة مكثفة، في موضوع طريف هو الحياة العاطفية في الشيخوخة، التي تحمل معها العجز والعزلة عادة، لكنها تأخذ مداراً آخر في رواية"ذاكرة غانياتي الحزينات"ترجمة صالح علماني دار المدى،"حيث يلعب"موستوكوياد"دور البطولة المطلقة، وهو يحتفل بنفسه في عامه التسعين، بأناقة تليق بالذين لا يجلدون أنفسهم ندماً على ما ضاع من مسرات الحياة المنسربة نحو الأفول. كان ماركيز مولعاً برواية الياباني ياسوناري كواباتا"بيت الجميلات النائمات"، وذكر هذا الإعجاب مرة في موضوع صحافي، حول امرأة حسناء كانت إلى جانبه في الطائرة، في رحلة طويلة، كان يراقبها وهي نائمة في كرسيها، وهو يتذكر من تلك الرواية التحذير الذي وجهته المرأة التي تدير الفندق إلى العجوز أيغوشي الذي كان يتأمل فتيات الغيشا الحسناوات النائمات وهن مكشوفات: يجب عدم الإقدام على عمل أي شيء مناف للذوق... قال ماركيز مرة عن نفسه:"أنا من أكثر الناس الذين أعرفهم عزلة وحزناً"، وهو في هذه الرواية يترصد عزلة عجوز، وحيد فريد، اعتاد أن يتصابى دائماً، ويحتفل بغواياته الخاصة، ويقيس عمره بالعقود وليس بالسنين، ولكنه ظل مشدوداً إلى الحب في مواجهة سطوة الزمن، ولم يكتمل احتفاله بنفسه إلا"بليلة حب مجنون"، فالحب كما يراه يستمر مع الحياة كلها، لا تتغير معانيه ورموزه، إذا تغيرت طقوسه وتنويعاته بين وقت وآخر، أو من شخص لآخر، فهو يستعيد ماضيه الحسي بالتأمل، ويتذكر النساء اللواتي عبرن في خطوط حياته، صعوداً وهبوطاً، ومنعنه من الزواج بالمواعيد المتواصلة، وهو ليس خائفاً من عامه التسعين، لأنه يرنو إلى بلوغه المئوية التي يمكن أن يحتفل فيها بذكرياته، ويتفحص طاقاته الذهنية والجسدية في طقس احتفالي آخر، له ما يناسبه من غوايات الحب، مع إحدى النساء الحزينات الماجنات، التي يمكن أن يلتقط من أقوالهن حكمة نادرة تقول: إن الشيخوخة لا يشعر بها المرء في داخله، ولكن الآخرين يرونها من الخارج. ومن هنا استطاع"موستوكوياد"أن يستنفر حواسه في معاندة الطبيعة وكسر حواجز العزلة:"عند الغروب واجهت وابل المطر، وكانت رياحه الإعصارية تهدد باقتلاع البيت، عانيت نوبة عطاس منثال، وأصبت بألم في رأسي وحمى، ولكنني كنت أشعر بامتلاك قوة وتصميم لم أمتلك مثلهما في أي مرحلة أخرى، ولا في سبيل أي قضية". كان يمكن هذه الرواية أن تنتمي إلى كتب الأدب الإباحي، الأكثر مبيعاً في محطات السفر، لو لم يكن مؤلفها ماركيز الذي ابتعد بها عن إسفاف التفاصيل الجنسية، واكتفى بالإيحاءات والتحولات اليومية المتوالية للشخصيات الواقعية في الوجوه والأقنعة، وظل كعادته يتصيد اللحظات الأكثر التماعاً بين ساعات النهار والليل، في حياة الشخصيات المتحركة في المكان والزمان، بكل ما فيها من عمق وجماليات إنسانية، تحملها إلينا حالات خاصة من الحب، حتى حينما يكون هذا الحب"بضاعة"في سوق الملذات. ولا يحتاج ماركيز إلى المواربة كعادته، حينما يرسم لنا مشهداً سحرياً مفاجئاً بين المشاهد التي نظن أنها مألوفة في حياة الناس الذين نعرفهم جيداً، ولكننا لا نعرف ما وراء الأقنعة التي يرتدونها أحياناً. أثارت رواية"ذاكرة غانياتي الحزينات"ضجة إعلامية في الدول الناطقة بالاسبانية، قبل صدورها وبعده، في نهايات العام الماضي، بمليون نسخة، ثلاثمئة وخمسون ألفاً منها في كولومبيا وحدها، وأحيط موعد صدورها بالكتمان خوفاً من القرصنة، واستخدمت في حركة توزيعها سيارات مصفحة تحت حراسة مشددة، ومع ذلك استطاع القراصنة إصدار طبعتهم السرية الخاصة، وتوزيعها في الشوارع قبل أسبوعين من إصدار الطبعة الرسمية، وبيعت في العاصمة الكولومبية بوغوتا بأقل من نصف سعرها. ومع اضطراب الحال الصحية لماركيز حملت الأخبار أنه سيصدر رواية صغيرة أخرى، في الصيف المقبل، ينتظرها القراء والناشرون والقراصنة معاً، وهو بذلك يعاند المرض ويستمر في الكتابة، بعد أن نشر قصيدة منذ خمس سنوات يودع فيها الحياة التي كانت مسرحاً غنياً لأعماله.