يحاجج معلقون في وسائل إعلام عربية، بأن ما جرى في العراق، منذ 20 آذار مارس الماضي، هو احتلال للأراضي العراقية. وواقع الأمر أن هذا الاستخلاص لا يأتي بجديد، فهو بذاته ليس محل خلاف، حتى أن مسؤولين أميركيين منهم كولن باول صحف الاثنين 14 نيسان/ ابريل يقرّون بأن وجود قواتهم مع القوات البريطانية على أرض العراق هو احتلال. ومع انتهاء العمليات العسكرية الكبيرة بالاستيلاء على بغداد فجر التاسع من نيسان، فإن شعار الحملة "حرية العراق" قد تراجع وأصبح الحديث يدور حول الاستيلاء والسيطرة والتمكن وإكمال الانتشار والتواجد والتمركز. ومع كل من الأردن وسورية أغلقت القوات الغازية حدود العراق، وسيطرت على حدود العراقالشرقية مع إيران. أما مع الكويت وتركيا وبدرجة أقل مع السعودية، فإن تفاهم هذه البلدان مع الولاياتالمتحدة، سيسمح كما من قبل بإقامة ترتيبات متفاهم عليها على الحدود. وكانت نقطة التحول الكبرى في الحرب هي السيطرة على المطار، حين تفنن محمد سعيد الصحاف في إنكار السيطرة آنذاك مرة بقذف القوات الأميركية خارج "السور الكلي البعيد للمدرج"، حسب وصفه، وتارة بالحديث عن تمكين القوات الغازية من العبور عبر ممر مفتوح إلى المطار، وذلك لحسابات عسكرية، كما قال. إلى أن تم بث صور أفراد القوة وهم يتجولون في صالات المطار، الذي جاء الاستيلاء عليه ليؤذن بإغلاق الحدود والسيطرة على نقاط العبور، وكما هي حال أية قوة محتلة تسعى الى بسط سيطرتها على المنافذ البرية والجوية والبحرية ميناء أم قصر وهكذا فقد حرصت القوات الغازية على أن تثبت في خضم المعارك أنها بصدد احتلال أراضي الدولة العراقية ، وليس أقل من ذلك. وقبل أن يهدأ غبار المعارك بأسابيع ، كانت وسائل الإعلام تتداول أسماء الطاقم الأميركي الذي سيجري تنصيبه لإدارة شؤون هذا البلد، خلال فترة لا تقل عن ستة أشهر في أحسن الأحوال، والراجح أنها ستمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. لا شك أن وضعاً استثنائياً قد نشأ بحلول يوم التاسع من نيسان. فلئن كانت هناك أولوية لإنهاء الاحتلال، كما هو الشأن في مثل هذه الظروف، لدى أي بلد أو أي شعب من بلدان وشعوب العالم. إلا أن السعي لبلوغ هذا الهدف، يتطلب تحقيق أولويات موازية إن لم تكن متقدمة، بما يؤشر الى خصوصية مجمل الوضع بما فيه وجود القوة المحتلة. ومن هذه الأولويات بلورة بديل وطني متماسك ومقبول تؤول إليه مقاليد الأمو . هذا ما ينطق به الواقع وما يمثل لسان حال سواد العراقيين... خلافا لحالات الاحتلال "التقليدية"، حين يتم إنكار وجود وتمثيل الحركة الوطنية الداخلية من جانب القوة المحتلة، فيما هي قائمة. أما في الوضع الراهن، فإن ائتلافاً متجانساً ومتماسكاً لم ينشأ بعد، ليس بسبب قصور لدى أصحاب الشأن، بل لأن المعارضة نشأت في الخارج، ولم تحظَ باعتراف فعلي كبديل وطني لا من الداخل ولا من دول العالم. وبما أن العراقيين يدركون أن انسحاباً افتراضياً للقوات الأجنبية، من دون نشوء البديل الوطني القيادي واستوائه، سيحمل مخاطر تفوق في المدى المنظور مخاطر وجود هذه القوات، فإن توفر هذا البديل يصبح في الحال هذه شرطاً شارطاً للمطالبة بانسحاب القوات الغازية. وهكذا فإنه لا يكفي وصف هذا الوجود بأنه احتلال وإدانة هذه الوجود، من أجل صوغ موقف صائب حيال ما جرى ويجري. الأهم هو وضع تصور للظروف التي تسمح ثم تملي انسحاب هذه القوات، والذي إن تم بغير ذلك سيؤدي حكماً إلى نزاع اهلي خطير لا يعلم احد مداه، ولكن الجميع هم أقرب الى الاتفاق على أن هذا النزاع سيحمل مخاطر كيانية مدمرة. إلى ذلك، ومع إدانة السلوك الملتوي والمريب لذي اتخذته القوات الغازية حيال عمليات النهب والسلب في سائر المدن، فإن هذا السلوك بذاته، يجعل من المطالبة بانسحاب فوري لهذه القوات أمراً غير حصيف، مع ثبوت خلو العراق حتى الآن من أسلحة دمار شامل، فقد تعرضت ممتلكات العراقيين العامة والخاصة، إلى استهداف لا مثيل له، يكاد يرقى إلى عملية تدمير ذاتي شامل، وذلك مع الإتلاف المعقد للوثائق من كل الانواع، باعتبارها حبراً على ورق لا نفع فيه ولا قيمة له، وإلى إشعال الحرائق الكبيرة، وتشكيل ميليشيات مسلحة للهجوم وأخرى للدفاع. ومع انه يمكن العلماء والمختصين والخبراء في العلوم الإنسانية من العراقيين تفسير ما جرى بأفضل من سواهم، إلا ان المسألة التي تستحق النظر، هي أن البلد كان مهدداً من حيث لم يحتسب ولم يدر بخلد أحد. وهو ما فرض اولويات استثنائية، حتى سارع ضباط وأفراد من رجال الشرطة الى عرض استعدادهم لاستئناف العمل في وظائفهم ولو تحت إمرة القوات الغازية. هذه الحالة المعينة رآها البعض مجرد تفصيل أو عرض من الأعراض العابرة، رغم ان نتائجها الوخيمة مادياً ومعنوياً وكيانياً تفوق كل وصف، وأن التصدي لها من قبيل الأمور الداهمة والمستعجلة، التي تؤخر ولو لبضعة أيام مطلب انسحاب فوري للقوات الغازية. لكن هناك من اعتبر أن المطالبة بإنهاء الاحتلال أعز وأشرف من العمل على وقف الدمار الذاتي الشامل حتى لو أدى، لا قدر الله، إلى أن يأتي على البلد جميعه. وإلى ما تقدم من اعتبارات تتعلق بإنجاز سد الطرق أمام أية منازعات داخلية عنيفة، وملء الفراغ الأمني الخطير، فإن هناك اعتبارات سياسية تقضي بطرح المطلب المشروع والواجب بإنهاء الاحتلال، ضمن صيغة فاعلة تجتذب تأييداً واسع النطاق في العالم. ذلك أن لهذا الاحتلال، مرة أخرى، طبيعية خاصة. اذ اقترن بتحرير العراقيين من سطوة نظام فاقت كوارثه ما نجم عن عهود الاستعمار السابقة مجتمعة، بما في ذلك خلال العهد العثماني. وهذه النتيجة هي بمثابة الطعم الحلو في كأس الشراب الذي تختلط فيه الحلاوة بالمرارة. فلئن كانت الحرب التي شنت لم تحظ بشرعية دولية، فإنها حظيت بشرعية لدى غالبية أطراف المعادلة السياسية العراقية، بمن فيها تلك الأطراف التي اتخذت موقف الحياد، وهو موقف غير اعتراضي من جهة، وقد انتظر أصحابه تحقق نتائج على الأرض لكي يتعاملوا مع تلك النتائج من جهة ثانية. إذن فإن الحرب على قساوتها وعلى الجرائم البشعة والمدانة التي ذهب المدنيون ضحيتها، امتلكت طبيعة معقدة. فغالبية العالم كانت ضدها لأسباب منطقية، لكن شرائح عريضة من المجتمع العراقي كانت معها أو مع نتائجها المتوخاة... لا فرق ولأسباب منطقية أيضاً، وبما أن أميركا هي القوة الدولية الوحيدة المؤهلة لتغيير ذلك النظام الذي يبغضونه أشد البغض، وبما أن المقدمات هي هذه فإن النتائج ينبغي أن تكون متسقة معها، لتأتي المطالبة بإنهاء الاحتلال في سياق سياسي متفاهم عليه في الإطار الثنائي العراقي - الأميركي كما تم الاتفاق في البدء على شن الحرب. واذا لم يتحقق ذلك فلا مناص من مقاومة سياسية تدعو العالم الأممالمتحدة إلى تحمل المسؤوليات. أما المطالبة الفورية بوضع حد للاحتلال، فإنها تفتح الباب أمام مقاومة مسلحة، لن يكون من العسير أن يتخيل المرء فيها أين يمكن للأسلحة أن تتوجه، فمع ضخامة القوة المحتلة وتفوقها، فإنه يسهل توجيه البنادق إما إلى "من يؤيد الأجنبي المحتل"، أو إلى "فلول النظام وأعوانه"، مما يفتح أبواب جهنم أمام حرب أهلية. والأصح من كل ذلك أن يتدبر العراقيون ويحزموا أمرهم على تشكيل بديل وطني انتقالي يحظى بالصدقية والتوافق عليه، وأن يبسطوا خلال ذلك وقبله الأمن بالقوى الوطنية الذاتية، لكي يثبتوا في الحالين، وهم أهل لذلك، أنهم يمتلكون حساً وطنياً جماعياً، وإيماناً راسخاً وقوياً بالضرورة العاجلة لإرساء أسس الدولة الوطنية الحديثة والعادلة. وبما أن القوات الغازية تعترف بصفتها هذه كقوة محتلة، وبما أن قادتها السياسيين يشددون على أن لا بقاء في العراق، فإن المطلوب ببساطة هو العمل لإلزامهم هذه التعهدات والالتزامات الذاتية، بكل وسائل العمل السياسي والإعلامي والمدني، وليس بالدعوة الى استنزاف ما تبقى من طاقات وقدرات في حرب رابعة تحمل شعارات زاهية مثل مقاومة الاحتلال ودحره. فالسياق الذي حلّت فيه هذه القوات، لا يأذن لها على أي وجه من الوجوه بطول بقاء. وهذه هي في أي حال الرسائل التي تبلغها الرأي العام الأميركي عشية الحرب وفي الأسابيع التي سبقتها: رسالة تغيير النظام بالتوافق مع المعارضة ونزع أسلحته واستثمار النفط لمصلحة العراقيين. وإذ لا يتهم أحدٌ المسؤولين الأميركيين بالصدق، إلا أن تقييدهم بهذه التعهدات العلنية يظل أمراً واجباً، بل يتعين أن يكون ذلك عنوان المعركة السياسية ضد أية إقامة طويلة ذات طابع احتلالي، تتجاوز تمكين العراقيين من حكم أنفسهم بأنفسهم والتمتع بإرادة وطنية مستقلة. وهكذا فإنه يحسن بالمعلقين العرب ان ينظروا في الطبيعة الخاصة لهذا الاحتلال وظروفه من دون التخلي عن تسمية الأشياء بأسمائها. ولأن للاحتلال أبعاده وجوانبه الخاصة، فإن مقاومته ينبغي أن تتخذ بدورها طرائق ومداخل وربما أدبيات خاصة، بحيث تؤدي هذه المقاومة السياسية إلى معافاة البلد وجمع شتاته وإصلاح عيوبه وإعادة بناء ما تهدم فيه، لا أن تفضي إلى ما هو خلاف ذلك، مع ملاحظة أن القوة المحتلة تتحمل مسؤولية تامة عن التعويض على ذوي الضحايا، وضمان استشفاء المصابين، وإعادة بناء البنى التحتية وكذلك تعويض أصحاب الممتلكات الخاصة، ما دامت القوة الغازية قد تحملت منذ البدء مسؤولية البدء بالحرب وخوضها، خارج قرارات الأممالمتحدة. * كاتب اردني.