يشعر قارئ ديوان الشاعرة ندى الحاج «تحت المطر الأزرق» (دار ضفاف) ان روح ابيها الشاعر انسي الحاج ترين على الديوان وأن طيفه يلوح بين الصفحات والقصائد. ليس هذا الشعور ناجماً عن اهداء الشاعرة ديوانها اليه في المستهل، ولا عن الجمل الشعرية التي اوردتها له كشهادات يمكن العودة اليها، بل عن حال الشوق الذي احدثه غيابه في روحها وشعرها على السواء وحال الصفاء الذي يتجلى في لغتها. والشوق والصفاء خاصتان في قصائد الديوان، الشوق في بعده الروحي والذي اعتبره المتصوفون واحداً من أرقى المقامات، والصفاء في معنييه، النفسي واللغوي، وهو يبلغ اوجه في احيان عدة. تنقل ندى عن أبيها قوله الرائع «الشوق ضوء العالم» لتؤكد كم حفر هذا الشوق في دخيلائها من جروح وأضواء، وكم كان الغياب مؤثراً في المعنى الوجودي. الحزن الذي تتشح به بضع قصائد ليس الا بداية السؤال الكبير: سؤال الموت والكينونة، سؤال ما بعد الموت والأزل. والشوق الذي احدثه ويحدثه الغياب اعمق من ان يكون مجرد حزن رومنطيقي او وجداني. تخاطب الشاعرة اباها مخاطبة القرين الذي اصبح بمثابة طيف ولكن حقيقياً، قائلة: «سأدجّن لك الليل وابتلع غربته فيك». ما اجمل هذا السطر الشعري وما اعمق دلالة الليل فيه، فالليل لدى انسي الحاج كان هو المملكة والطريق الى الحياة الغائبة حيث يكتمل الضوء ويمتلئ النقصان. «ايها العارف الهارب» تناديه، «ايها الكتوم المنكفئ»، وفي ظنها انه هنا لأنها كما تقول: «تعرف وأعرف أن ما من هنا وما من هناك». وهذه مقولة تصب في عمق الصوفية التي تلغي الثنائيات في احوال الزمن كما في احوال المكان. وتمضي في ترسيخ هذه الوحدة «الزمكانية» في استدعائها وحدة «الواحد - الأحد» التي تنصهر فيها ذاتها وذات الأب: «إني احيا وتحيا في الواحد الأحد»، تقول. الا ان حضور الأب لم يكن البتة مدعاة لمواجهته كما في الحكاية الأوديبية، مقدار ما كان حافزاً على الانصهار في طيفيته بعيداً عن استعادته شعرياً. فالشاعرة لم تتكئ على انجاز ابيها لتحاكيه او تقلده، بل هي على العكس جعلت تأثرها به داخلياً وروحياً. ومعروف ان الجيل الجديد من الشعراء لم ينج من أثر انسي الحاج، حتى الشعراء الجدد الذين لم يقرأوه تأثروا به، كما يقول الشاعر أمجد ناصر، جواً وجرأة. لا شك في ان عالم ندى الحاج هو عالم صوفي، ولكن بلا أحاج ولا ألغاز. حتى الحب لديها يميل غالباً الى ان يكون مشبعاً بالنفَس الصوفي، وإن غالى احياناً في حسّيته او جسدانيّته. وصوفيتها شعرية مثلما هي روحانية، وتغرف من مدارس صوفية شتى، حتى غير التوحيدية، ولعل هذا ما انعكس على لغتها ونسيجها: بساطة وشفافية تعكسان عمقاً في الاختبار والتجربة: «كتبت الوجد سرياً/ كتبت الحب بلغة السماء/ كتبت الموت ببساطة الحياة/ كتبت الحياة ببساطة الحب»، تقول وكأنها تؤكد ان الشعر ليس سوى خطاب القلب، القلب الذي جعله المتصوفة، مستودع السر ونور المعرفة. الشعر فيض روحي يتجلى في اللغة، شفافاً شديد الشفافية ليعكس ما يحمل في داخله من بذور وجذور». الموت؟ سهولة اليقين». هذان السؤال والجواب المختصران جداً يتمثلان اعمق وصف ممكن للموت، وهو طبعاً وصف وجداني وعرفاني إن امكن القول. الموت سهولة اليقين: ألا تذكّر هذه الجملة الشعرية بما ورد في «الحديث» من وصف للموت ب «الانتباه»؟ توحّد الشاعرة كما تقول في إحدى قصائدها بين القبلة والحلم والسر والانحطاف والشوق والخيال... كل هذه العناصر واحد، على رغم تبيانها الحسي والروحي والتخييلي. انها الشاعرة التي لا تفرّق بين جسد وروح، بين نزوة مشتعلة ورغبة روحية. لا تناقض هنا في عمق التجربة المعيشة بالحواس كما بالقلب أو الروح، بل انصهار وانعتاق: «أفقدتُ الأشياء توازنها/ وانعتقتْ من جاذبيتها»، تقول الشاعرة. وفي لحظات الشوق المستعر لا تضيق اللغة وحدها بل الروح والجسد كأن تقول الشاعرة: «ماذا أفعل بروح تضيق/ وجسد يضيق/ وجد اوسع منهما؟». انها المكابدة التي تحدّث عنها المتصوفة والقديسون وحتى الشعراء العشاق، العرب القدامى والتروبادور و«المجانين» ومنهم مجنون ليلى ... المكابدة واحدة سواء أتت من الحبيب الغائب وغير المرئي ام من الحبيب الذي يخفق مرآه في القلب: «أنسج من فمك طيراً/ وأحبس لك مطراً/ بلا سقف ولا قبعة / وأغطيك بسمائي»، تقول الشاعرة على لسان الحبيب في حوارية شعرية تذكر بحواريات «نشيد الأناشيد»، أو تقول هي له في حوارية اخرى: «في نومك استهدي على كوكبي حيث الذئب يصالح الطفلة التي لم تكبر». وهذا الجو الطفولي السحري لن يلبث ان يطل في قصيدة جميلة عنوانها «الحورية البيضاء» وهي بمثابة قصة شعرية او قصيدة سردية تسترجع الحالة العدنية في نفَس غنائي تخييلي وغرائبي بدا كأنه مسكوب سكباً في لغة مشرقة بعذوبتها وبراءتها. قصيدة حب ذات مناخ سحري (قصص الساحرات) وقد استهلتها ندى بجملة تقول فيها: «صوت المطر يشبه صوت أبي حين كان يهطل قصصاً لا تشبه شيئاً في الحياة...». وتحكي القصيدة عن رجل في جنة عدن «يتوق الى بياض وسط العتمة» ويفتقد وجود شريكة، فاستدعى «الحيوانات الأليفة ليسألها عن وجود البياض بين الإنس والكائنات»، وإذا «بحورية ذات جناحين تطل من قلب الدجى». الشعر لدى ندى الحاج فعل حياة، فعل مواجهة مثلما هو فعل إصغاء ورؤية وفعل حضور. تخاطب الشاعرة ذاتها في إحدى القصائد قائلة: «لا تنسلبي/هذا القلم لتحيي/ هذا الانشقاق لتتجمعي». الشعر ايضاً فعل لملمة للأصداء كما تقول في احدى الشذرات: «لملمت اصدائي لأكتنز التوغل في الرقة». هو الترنح وفيض الصمت، هو النوم في «فيء العينين» واجتراح المعجزات، كما تعبّر. هو كذلك «اقتراف البياض» و«جعل البياض أشدّ نصاعة». هذه أوصاف تعيشها الشاعرة ولا تبتدعها فقط، تعيشها بالحدس وفي صميم اللغة وفي تلافيف القلب الذي كما تقول، «يعمه الفجر». وتعيد الى الشاعر(ة) المهمة التي يكاد العصر يطمسها مثل «الاتشاح بالبياض الساري منذ الأزل» أو «مساءلة الفراغ عما بعده» أو «إدمان السؤال والجواب غائب». انها الشاعرة التي تدرك معنى اللحظة التي يلزمها، كما تعبر، ألف سنة لتسردها، اللحظة التي اختصر بها الشاعر رينه شار الأبدية برمتها. وعلى رغم الحيرة وارتفاع «نداء المستور» والتباس الظاهر والخفي تقول بصوت جارح: «إني ثمينة وكريمة/ مروّضة العتمة والضوء/ مسربلة الصمت والسكون». «تحت المطر الأزرق» ديوان حافل بالزرقة عندما تكون الزرقة هي لون الشعر وماهيته. زرقة الكون قبل ان يكون، وزرقة السماء والبحر، زرقة القلب و«زرقة الشموع في العيون».