يجلس ثيو مطرقاً. يجلس خلف كاونتر الحانوت الواطئ. أدخل، فلا يبدو أنه قد تنبّه الى وجودي، أو وجود أيما شخص آخر في الحانوت، هو الذي لا يكف عن مراقبة الزبائن. "هناك لصوص كثيرون في هذه المنطقة"يقول لي دوماً، ويعود الى مراقبة الزبائن. لكنه الآن يجلس مطرقاً، غير مكترث بمن يدخل أو يخرج. "أين اختفيت؟"أسأله بصوت أجاهد أن أجعله ودوداً. أوقن جيداً أن ثيو شخص مزاجيّ، وأنه في لحظة قد يكون مرحاً صدوقاً، وفي أخرى عنيفاً لئيماً. يرفع بصره إليّ متثاقلاً. "ألم تر هذه بعد؟"يسأل مشيراً الى الصحيفة المنبسطة أمامه على الطاولة. لم أرها! أهزّ رأسي بالنفي. لم أرها وليس من عادتي قراءة الصحف الإنكليزية عموماً، فما بالك بالصحيفة المختصة بشؤون الجالية القبرصية - اليونانية. يطوي الصحيفة بعناية ويدفعها نحوي، مشيراً الى خبر في وسط إحدى الصفحات الداخلية: "أنظر هنا!". أنظرُ إلى حيث يشير وأقرأ: "تبرئة تلميذ قبرصي من جناية!". أرفع بصري إليه مستغرباً ومتسائلاً. "اقرأ! اقرأ!"يحثني ثيو، وأستأنف القراءة. أُدرك أن ثيو هو التلميذ القبرصي المقصود، ويزداد استغرابي كلما أمعنت في القراءة، فأعود أنظر اليه بدهشة. "هل حصل هذا فعلاً؟". يومئ ثيو بالإيجاب، ويبدو مغتبطاً لما أثار فيّ من دهشة، وهو الذي غالباً ما رآني نصف نائم كسولاً. "وأين كنت تظنني غائباً كل هذه الأيام؟". ثيو حتماً لم يقترف جناية، لا يمكن أن يكون قد قتل ذلك الرجل. أقول لنفسي. أعرف ثيو جيداً. أعرف أنه عصبيّ، لكنه لا يمكن أن يرتكب جناية كهذه! يختلف ثيو كثيراً مع الزبائن، وفي بعض الأحيان يشتمهم، او حتى يطردهم من الحانوت، لكنه لا يلجأ الى العنف الجسديّ. وأقول لنفسي، إن ثيو لم يدخل في عراك بالأيدي الاّ مرة واحدة. أتذكر تلك المرة جيداً. أتذكر ثيو يشتم يون ثم يضربه. يكتشف ثيو أن يون قد تزوج من كيت زواجاً شكلياً. وكيت صديقة ثيو وهو يغضب حينما يعلم بالأمر، حتى إن كان الزواج شكلياً. يتزوج يون من صديقة ثيو لكي يحق له البقاء قانونياً في بريطانيا. لا يحق له البقاء في البلد ما لم يتزوج من بريطانية. وهو يعرف كيت، ولا يعرف امرأة بريطانية سواها. يعرف أن كيت صديقة ثيو، غير انها جشعة ولن تتوانى عن القبول بالزواج زواجاً شكلياً لقاء ألف جنيه. يتزوجان، يون وكيت، زواجاً شكلياً، فيطير عقل ثيو. صديقته تتزوج من رجل آخر! كيف؟ أكان زواجاً شكلياً أو غير شكليّ، لا يهم! يطير صوابه ويضرب يون. يون يرد الضربة بدوره، فيعاود ثيو ضربه من جديد، يتضاربان الى أن تتدخل كيت، واقفة بينهما. يتضاربان ونحن ننظر إليهما ولا نتدخل. أنا وجيم، ننظر إليهما ولا نتدخل. ويسألني جيم ما إذا كان ينبغي أن نطلب الشرطة. أنظر إليه ولا أجد جواباً. لكن كيت تتدخل وتفصل بينهما. "لا يمكن أمراً كهذا أن يحدث لك؟"أقول متظاهراً بالاستنكار والأسف. يهز ثيو رأسه مؤكداً. ويخبرني أن سكيراً دخل الى الحانوت متطوح المشية وجعل يشتمه ويشتم كل من وقف في سبيله. يشتم السكير ثيو، ويشتم الزبائن ويشتم الأجانب الذين ما انفكوا يتكاثرون في المدينة. يأمره ثيو بأن يرحل على الفور وإلا فإنه سيطلب رجال الشرطة. لكن السكير يتجاهل ثيو ويستأنف الشتم: يشتم اليونانيين النصابين بالغريزة، ويهرع نحو الرفوف التي اصطفت عليها الزجاجات وصفائح البيرة. يحاول التقاط زجاجة، بيد ان ثيو يُسارع الى اعتراض سبيله، يدفعه الى الخلف، بعيداً عن الرفوف ويأمره بمغادرة الحانوت على الفور. يصير ثيو الآن غاضباً. ويشتم السكير مهدداً إياه بأنه سيدق عنقه، لكن هذا يتجاهله ويقوم بمحاولة أخرى لالتقاط زجاجة، فيسارع ثيو الى الإمساك به من ياقة معطفه الفضفاض ويجره نحو باب الحانوت. ولدهشة ثيو فإنه يتمكن من جرّ الرجل نحو الباب الخارجي ببالغ اليسر. لا يبدي السكير أدنى مقاومة، يترك نفسه تنقاد الى الخارج وكأنه أيقن أن لا جدوى من المقاومة. يُطلق بعض كلمات احتجاج، لكنه لا يقاوم. يدفعه ثيو الى الخارج ويأمره بألاّ يعود ثانية، يأمره بألاّ يطأ أرض الحانوت ثانية. ويمتثل السكير بطريقة تثير العجب. يقف على الرصيف نصف صاح، حائراً، وكأنه استفاق لتوه من حلم غريب. ينظر من خلف زجاج الواجهة وكأنما يحاول استعادة ما جرى قبل ثوانٍ معدودة. ينظر فيُواجه بنظرة ثيو العابس الوجه. ينظر اليه ثيو بوجه عابس، أو متصنع العبوس، ويومئ إليه، آمراً إياه بالانصراف، هازاً سبابته بعلامة تهديد. لكن السكير يلبث ساكناً في مكانه، ولا يتحرك إلا حينما يبصر ثيو هاماً بالتوجه نحوه. عندها يشرع بالابتعاد. يختفي. يختفي السكير ويستعيد ثيو هدوءه. يشرع في التخطر أمام الزبائن وقد أضاءت وجهه نظرة انتصار. يتخطر أمام الزبائن وينظر إليهم وكأنه ينتظر منهم أن يهنئوه على انتصاره. بيد أن انتصاره لا يدوم طويلاً. فما إن يستدير عائداً الى مقعده المتحرك خلف الكاونتر، حتى يُفاجأ بظهور السكير ثانية. يظهر السكير فجأة، ويندفع إلى داخل الحانوت صارخاً بأعلى صوته، شاتماً. يتسمّر ثيو في مكانه، واجماً، مصدوماً. ولا يستفيق من أثر الصدمة إلا بعدما يقذفه السكير بزجاجتين فارغتين، تطير الأولى بالقرب من رأسه في حين أن الثانية تصيب كتفه. لا يصدق ثيو عينيه، هو الذي ظن أنه قد تخلص من تلك الحثالة، لكنه سرعان ما يستفيق من الصدمة ويندفع نحو السكير بجنون. الغضب عارم على وجه ثيو المندفع نحو السكير. لكن السكير يبقى واقفاً في مكانه. يبدو كأنه يقلب الأمر على وجهيه: أيبقى ويدخل في عراك مع ثيو، أم يطلق ساقيه للريح؟ يبدو السكير وكأنه يفكر بالأمر على هذا النحو، ويبدو كمن قرر أخيراً الفرار. ويستدير بسرعة مذهلة ويجري. يجري بأسرع ما يمكن. يرتطم بحوامل البضائع، فتهوي الأشياء وتتناثر على أرض الحانوت. لكنه يجري خارجاً من الحانوت ويستدير منطلقاً نحو المحطة. "سأقتلك! سأقتلك!". يندفع ثيو خلف السكير، خارج الحانوت وعلى الرصيف باتجاه محطة كنغز كروس. "سأجهز عليك! سأعثر عليك في الليل أو في النهار وأقتلك!"يصرخ ثيو المندفع بجنون خلف السكير. "لو كنت أعلم أن الرجل سيموت في تلك الليلة لما كنت نطقت بتلك الكلمات!"يقول ثيو، الآن، متهكماً. يموت السكير في تلك الليلة بالذات. يُقتل، في الحقيقة، بعد ساعات من إطلاق ثيو لتلك التهديدات. يُعثر على جثته في متنزّه قريب من"كاليدونيا روود"، على مسيرة خمس دقائق من الحانوت. وألفى ثيو نفسه في ورطة كبيرة. يا للمصيبة! لقد سمعه الناس يهدد السكير بالقتل، وها هو الرجل، بعد ساعات قليلة فقط، جثة هامدة. ماذا فعلت بنفسك يا ثيو؟ يتساءل ثيو بحسرة. ولا يضيّع رجال الشرطة الوقت. يأتون الى ثيو مباشرة ويشرعون باستجوابه. ويجد ثيو نفسه في محنة كبيرة. على الأقل موضع شبهات قويّة. "وماذا حدث بعد ذلك؟"أسأل ثيو متلهفاً لسماع بقية القصة بعدما يكون قد خلد الى الصمت. "ماذا حدث بعد ذلك؟"يردد ثيو سؤالي. "يسألني ماذا حدث بعد ذلك!"يردّد ثيو سؤالي، وكأنه يتكلم الى نفسه. "نعم! ماذا حدث بعد ذلك؟"أسأل، فلقد أمست القصة مشوّقة فعلاً. "ليس فقط أن السكير يُقتل في الليل بعدما كنت هددته بالقتل نهاراً، وليس فقط أنه يُقتل في متنزّه قريب"يقول ثيو هازّاً رأسه بسخرية وأسى،"ولكن لا يكون عندي شاهد واحد بأنني لم أكن في ذلك المتنزّه اللعين". يقول ثيو ويبسط ذراعيه وكأنما لكي يبيّن مبلغ الورطة التي وجد نفسه فيها. "وأين كنت؟". "أين كنت؟"يردد ثيو سؤالي بتلقائية،"كنت في غرفتي أدرس، كما أفعل عادة في المساء، وكما تعرف!". "أعرف! أعرف!"ولطالما رأيته جالساً في غرفته في الطابق الثاني من النزل، منكباً على كتاب او كرّاسة. وكثيراً ما كان يتشاجر مع النزلاء حينما يثيرون ضجة. كان يقف على بسطة الدرج ويصرخ بمثيري الضجة أن يخفضوا أصوات آلات الستيريو أو أن يطبقوا أفواههم. أتذكر مرة أنه كاد أن يتعارك بالأيدي مع بول. وكان بول رفض أن يخفض صوت المذياع. بول يرفض الامتثال لطلب ثيو، وثيو يزداد غضباً، ويهبط الى الطابق الذي يقيم بول فيه، عازماً على إجباره على خفض صوت المذياع. "هذه ليست مكتبة!"يصرخ بول هازئاً. "لا ليست مكتبة! وإنما غرزة للحشاشين من أمثالك!"يرد ثيو غاضباً. "كيف تجرؤ ايها الوغد!". "أغلق ذلك المذياع اللعين، أقول لك، وإلاّ حطمته فوق رأسك المعبأة!"يصرخ ثيو من جديد. "تعال إذاً!"يرد بول متحدياً:"هيا حطّم المذياع! هيا!". ويستجيب ثيو للتحدي، بيد أن كيت تتدخل في اللحظة الأخيرة. تعترض سبيل ثيو، تمسك بكم قميصه وتشرع في جذبه عائدة به الى غرفته. "لا! لا تفعل! إنه لا يستحق!"تهتف به متوسلة. ويهدأ ثيو قليلاً. ثيو يحب كيت، ويهدأ حينما تتوسل إليه بعدم الدخول في عراك. يهدأ ثيو، غير أن بول ينفجر ضاحكاً ويقول بصوت مرح وساخر إنه سيستمع إلى المذياع ما رغب ذلك، وليذهب الجميع الى الجحيم. يضحك بول ساخراً، ويعود الى غرفته. يطلق ضحكة صاخبة ويعود الى غرفته. لكن بول يموت ولا يترامى من غرفته، بعد ذلك، سوى الصمت. يموت بول، ويقول برندن، الايرلندي العجوز، لثيو:"يمكنك أن تدرس بهدوء الآن!". يقول برندن، ويكون في غاية الحزن. وأنا أفكر بأن ثيو هو القاتل الطليق. ألم يكن بول مدمناً المخدرات؟ وألا يستهدف القاتل الطليق المدمنين والسكارى؟"لكنك كنت في غرفتك تدرس!"أقول لثيو منتظراً منه تأكيد كلامي. "نعم! كنت في غرفتي أدرس!"يقول ثيو،"ولكن كيف أبرهن ذلك للشرطة؟". "ألم تأت كيت لرؤيتك؟"أسأل، وأعلم أن كيت غالباً ما تأتي لرؤيته في المساء. وفي بعض الأحيان تقضي الليل عنده، على رغم أن جورج كان لا يسمح لها بذلك. "لم تأت كيت ذلك المساء. كنت وحيداً". يقول ثيو،"فكيف أثبت للشرطة أنني كنت في غرفتي طوال تلك الليلة؟". وأتذكر أن كيت لم تأت في تلك الليلة. لم أرها، وثم بشيء من الهلع، أتذكر أنني لم أر ثيو نفسه. لم يكن ثيو في الفندق. لم يكن في غرفته حتماً. فأين كنت يا ثيو في تلك الليلة؟ أسأل في سري وأعود أفكر بأن ثيو هو القاتل الطليق يتعقب السكارى والمدمنين ويجهز عليهم واحداً واحداً. أرى نفسي الآن، عائداً في ذلك المساء. أتوقف أمام غرفة ثيو وأطرق الباب. أطرق الباب مرتين وأهتف، ثيو، ثيو. أريد ان أسأله... * مقطع من رواية تصدر قريباً عن"المؤسسة العربية للدراسات والنشر"تحت عنوان"طريق بنتونفيل".