قبرص معشوقة البحر الذي إبتلع من حولها عدداً من الحضارات القديمة لكنه أبقى عليها لتكون البقعة التي تعوض ذلك التراث الضائع، فأبدع في تلوينها وتنويع تضاريسها الطبيعية حتى غدت متميزة في كل شيء. وهي لا تزال تعانق امواج البحر، غير أنها تنظر بعيونها الواسعة صوب الشرق والغرب، كأنها تغري اولئك الذين يبحثون عن المتعة والراحة والتأمل، ويحاولون لمس محاسن الطبيعة الخلابة فيها، والتي طغت على أرضها الساحرة. تقول الأساطير اليونانية ان امواج البحر التي تضرب سواحل الجزيرة هي التي أنجبت"أفروديت"رمز الحب والجمال عند الاغريق، وان الآلهة إختارتها لتكون المكان المفضل لراحتها بسبب طبيعتها الخلابة وموقعها المتميز... لذلك قفزت"أفروديت"من مياه البحر لتستقر في الجزيرة بشكل نهائي. جمال قبرص إذاً من جمال"أفروديت". هكذا أصبحت تلك الجزيرة التي تطفو فوق مياه المتوسط نقطة جذب للسواح من كل أنحاء العالم وعلى مدى فصول السنة. فالبحث عن الطبيعة الخلابة لا يحتاج الى مزيد من العناء بعد ان يحطّ الزائر قدميه على أرضها. جبالها الشاهقة تتلوّن بألوان الطبيعة المختلفة، والغابات الخضراء وأشجار الفاكهة والحمضيات التي تبعث بروائحها الزكية من بعيد تغطي معظم أراضيها. وقراها المتناثرة بين السهول والمنعطفات تبدو كشذرات لامعة من الأحجار الكريمة الملونة. وسماؤها تبدو في غالب الأحيان زرقاء كلون الماء الجاري حول سواحلها الذهبية التي أصبحت من أجمل"بلاجات"المدن البحرية في العالم. وآثارها القديمة التي تعود الى زمن الفينيقيين مروراً بالاغريق والآشوريين والفرس والعرب والأتراك، جعلتها موضع إهتمام متميز من قبل المؤسسات العلمية والتاريخية، ودفعت"اليونيسكو"الى إعتبار بعض هذه الآثار ملكية عالمية تعبّر عن الحضارة البشرية المتميزة وأخضعتها لعنايتها المباشرة. أبرز ما يميز قبرص صناعة السياحة، تلك الخدمات التي أصبحت رمزاً لرقي هذا الميدان الحيوي. ولم يكن بمقدور شركات السياحة والفنادق ان تتقدم الى الأمام من دون وجود المرافق السياحية الظاهرة، مثل سواحل"البلاجات"التي تغطيها الرمال الذهبية وتمتد على طول محيط الجزيرة وتتميز بنظافتها وصفاء مائها. وينسحب الأمر على المرافق الأخرى، مثل الجبال والوديان والسهول التي تغطيها الغابات والأشجار، والحشيش الناعم الذي ينبسط على منتزهاتها المنتشرة في كل مكان كأنه سجادة خضراء حيكت بعناية فائقة، وهي تصلح لاجتذاب عشاق الرياضة بأنواعها وبالأخص لاعبي الغولف والكرة والمتسابقين في رياضة الجري وقيادة الدراجات الهوائية والدراجات النارية. وقبرص حاضنة متميزة لأنواع الطيور المهاجرة والمستوطنة، فالزائر يستطيع ان يراقب افواج الطيور التي تترك اعشاشها وتتلوى في الجو كأنها تلعب لعبة مثيرة او تستعرض قابليتها على الطيران امام الزوار، ثم تحط عند سواحل البحيرات في منظر جذاب للغاية. "البلاجات"في قبرص كثيرة ومتنوعة، منها الكبير ومنها الصغير، وجميعها تقريباً يمتاز بالهدوء الذي يحتاجه الزائر. ويوجد أيضاً عدد من الحمامات التركية الشهيرة التي تعتبر من أرقى الحمامات في العالم. وهي تقدم خدماتها في كل مواسم السنة، ولا تحتاج الى فترة راحة أو انقطاع، ما دامت حركة السياحة جارية على قدم وساق. تتمتع قبرص بعام مشمس، وقليلة هي الأيام التي تغيب فيها الشمس عن هذه الجزيرة المضيئة التي تعتبر أكبر جزر البحر المتوسط بعد صقلية وسردينيا. مساحتها 9251 كيلومتراً مربعاً، وعدد نفوسها لم يصل بعد الى المليون، وعاصمتها نيقوسيا تضم 234 الف نسمة. أما المدن الأخرى فهي ليماسول ولارنكا وبافوس، والعملة المتداولة هي"الجنيه القبرصي". العاصمة نيقوسيا تحتل هذه المكانة منذ ألف سنة تقريباً، لكن جذورها التاريخية تمتد الى العصر البرونزي. وهي الآن مدينة تجمع بين التراثين الأوروبي والشرقي، ففي وسطها ينتشر عدد من الآثار التاريخية التي تجذب الزوار. شوارعها ضيقة وبيوتها بيضاء قديمة ذات شرفات مزينة، وفيها مقاهٍ ومشاغل صغيرة فنية ومتحف متميز ومعارض فنية عدة وكاتدرائية"اكيوس لوينس"من القرن السابع عشر. أما مدينة ليماسول، وهي الأكبر بعد نيقوسيا، فهي ميناء مهم ومركز صناعي معروف. ومن الناحية الجمالية والعمرانية يطلق عليها الأهالي لقب"باريس الصغيرة". وتضم اليوم"بنك الاستثمارات"ومقرات عدد من الشركات العالمية والفنادق الراقية، وأكثر أحيائها السياحية جاذبية هو"الحي القديم"الذي يعود الى القرون الوسطى، وكذلك المسرح الأغريقي القديم الذي يقدم عروضاً فنية متنوعة. ولا تقدم ليماسول الى الزوار تاريخها الحضاري الحافل فقط وإنما أيضاً"البلاجات"الرائعة وعشرات المقاهي والمطاعم ودور اللهو. وأهاليها يحتفلون سنوياً بذكرى زواج الملك الانكليزي ريتشارد قلب الأسد من ابنة ملك نافاريا الأميرة بيرنيغاريا. والقصة تبدأ حين فقدت سفينة الملك ريتشارد وجهتها الصحيحة بفعل عاصفة بحرية وكانت تقل الأميرة بيرنيغاريا، فحطت رحالها عند الشواطئ القبرصية في أحد أيام العام 1191، وكان يحكم الجزيرة آنذاك ملك يدعى إيزاك كومبينوس الذي أعلن نفسه القيصر الحاكم. وقد أذل كومبينوس الأميرة، وسمع بالقصة الملك الانكليزي فهب لنجدتها، وجهز قوة بحرية فتكت بكومبينوس واحتلت ليماسول. وفي هذه المدينة ذاتها تزوج الملك المنقذ بأميرة نافاريا، وترك لها في المدينة تاج المملكة الانكليزية، لكنه استعاده بعد سنوات حين طلقها. أما بافوس فمدينة صغيرة تقع على الشاطئ الجنوبي الغربي من قبرص، وهي مركز المحافظة، وتعتبر واحدة من أجمل المدن القبرصية، وتتمتع بهواء عذب ونظافة مبالغ بها، وأجواؤها تتسم بالجمال الساحر، وتشتهر بصناعة الآلات الموسيقية منذ القدم، وقد اعتبرتها"اليونيسكو"موقعاً تراثياً وثقافياً عالمياً. وكانت منذ العام 58 قبل الميلاد وحتى العام 395 بعد الميلاد مقر القنصل الروماني وعاصمة قبرص. يبدأ تاريخ قبرص منذ المرحلة الفينيقية، حيث أقام الفينيقيون أول مملكة لهم في"كيتيون"ثم تلاهم الأغريق الذين احتلوها العام 1400 قبل الميلاد. وفي القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد خضعت لليونانيين الذين جلبوا معهم ثقافتهم ولغتهم. وبالتدريج ظهرت في قبرص عشر ممالك، وفي ما بعد ظهرت ممالك للآشوريين والمصريين والفرس. وبعد فترة من الزمن توحدت الممالك القبرصية الصغيرة على يد الملك أفاكوراس الذي قادها من 411 الى 374 قبل الميلاد، ونجح في جعلها مركزاً سياسياً وثقافياً متطوراً آنذاك. وتناوبت على قبرص أقوام عدة، كان من بينهم العرب الذين أضاعوها في مرحلة من المراحل، لكنهم عادوا اليها بعد ثلاثة قرون واحتلوها، ثم أضاعوها مرة أخرى. ويقال ان ملامح القبارصة أقرب الى الفينيقيين والعرب، ربما بسبب إندماج هذه الأقوام مع أهاليها على مدى قرون. إستقلت قبرص العام 1960، لكنها إنقسمت الى جزئين يوناني وتركي في العام 1974. لكنها تظل واحدة من أجمل الجزر العائمة في البحر المتوسط، وقد إرتقت خلال العقود السابقة لتصبح الآن جزيرة سياحية متألقة تستهوي الأوروبيين والشرقيين باستمرار.