19 دقيقة فقط كانت كافية لتنقلنا من عالم إلى آخر، من حضارة إلى أخرى. إنه الزمن الذي تستغرقه الرحلة الجوية من لبنان إلى قبرص. لم يكد ركاب الطائرة يشدّون أحزمة مقاعدهم ويأخذون نَفَساً عميقاً بعد احتساء كوب من المرطبات... حتى أعلنت المضيفة الحسناء: «أهلاً بكم في مطار لارنكا الدولي». هكذا، ما بين طرفة عين وانتباهتها، أصبحنا في ربوع قبرص، ثالث أهم جزيرة في البحر المتوسط بعد صقلية وسردينيا. يعرف القبارصة جيداً من أين يؤكل كتف السياحة. إذ نجح هؤلاء خلال العقود الثلاثة الأخيرة في تسويق جزيرتهم الصغيرة، والتي لا تزيد مساحتها على 9251 كيلومتراً مربعاً، في أرجاء المعمورة على أنها قبلة سياحية بامتياز. فجذبوا حوالي 2.4 مليون سائح سنوياً، يتهافتون على الشواطئ الرملية - الذهبية للجزيرة تحت شمسها الحارقة، وجبالها المكسوة بأشجار الصنوبر والأرز، فضلاً عن طبيعة خلابة ومرافق سياحية جميلة، أثرية وعصرية، ساحلاً وجبلاً، تستقبل الضيف بأيدٍ مفتوحة ووجوه بشوشة. لا يشعر العرب بغربة في هذه الجزيرة المتوسطية الخضراء. فهي على «مرمى حجر» من بلدانهم، سواء أكانوا من المشرق العربي أو من مغربه... وصولاً إلى خليجه. ولعل الموقع الاستراتيجي لقبرص، بين ثلاث قارات، آسيا وأوروبا وأفريقيا، طبع الجزيرة بميزة خاصة تمزج بين سحر الشرق وحضارة الغرب. فيشمّ السائح في أرجاء هذا البلد عبق التاريخ الموغل آلافاً من السنين، جنباً إلى جنب مع مظاهر الحداثة والحياة العصرية، بكل تفاصيلها... ونوافلها. تستقبلك لارنكا بشوارعها الفسيحة وكورنيشها الطويل المزدان بأشجار النخيل الناضجة، فتتنزه مع خيالاتك المفتوحة على الأفق. ولأنها المدينة الحاضنة للمطار الدولي للجزيرة، فإنها تعتبر البوابة الرئيسية لقبرص، لتعطي زائريها الانطباع الأول عن هذا البلد الصغير. تتميز هذه المدينة الساحلية الوادعة بمقاهيها ومطاعمها المرصوفة بأناقة على طول واجهتها البحرية، والتي تقدم ما لذ وطاب من أطباق السمك الطازج على أنواعه وأجناسه، فضلاً عن محالها التجارية وميناء للسفن يرتاده أصحاب اليخوت والقوارب من أقطار العالم. كما تزخر لارنكا بالأماكن الأثرية، ككنيسة القديس فانوروميني المبنية على كهف صخري وتعود أسسها الأولى إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وعلى الواجهة البحرية للمدينة قلعة تعود إلى القرن السابع عشر وتضم متحفاً من العصر الوسيط. تتوجه غرباً إلى ليماسول، ثاني أهم المدن القبرصية، إذ تحتضن مقرات حكومية وجامعات ومؤسسات تجارية ومصرفية، من دون ان تفقد موقعها السياحي الأول في البلد مع سعيها إلى تسويق ذاتها على أنها «مدينة عامرة سياحياً» على مدار الفصول الأربعة. وفعلاً، تعتبر ليماسول مركزاً للفعاليات السياحية والمهرجانات طيلة أيام السنة، لعل أهمها «كرنفال الربيع». وتوفر المنطقة السياحية من المدينة كل الخدمات التي تجذب السياح، إذ تعج بالمطاعم والمقاهي ومراكز التسوق التقليدية والتراثية، فضلاً عن مراكز الترفيه على أنواعه، كدور السينما والمسارح والملاهي التي تنافس نظيرتها الأوروبية. تضج المدينة الواقعة على الساحل الجنوبي لقبرص نشاطاً وحركة، ولعل أهم ما يميزها المدينة شاطئها الرملي الممتد بطول 11 كيلومتراً، والذي يجذب إليه قسماً كبيراً من سكانها ال100 ألف كل مساء. ثم تتوجه ساحلاً إلى أقصى غرب الجزيرة حتى تصل إلى بافوس التي تقول الأساطير الأغريقية ان أفروديت (عشتروت)، رمز الحب والجمال، ولدت فوق صخرة على ساحل قريب من المدينة حيث تعرفت إلى أدونيس، إله الجمال لدى الأغريق، الذي أوقف جواده هناك. وبحسب الأساطير ذاتها، فإن مواطني بافوس يتحدرون من سلالات تنتمي إلى هذين العاشقين. بافوس هي باختصار متحف في الهواء الطلق. وتزاوج هذه المدينة العريقة بتاريخها بين الطابعين العصري والتراثي. تتوافر فيها أفخم الفنادق والمنتجعات بالإضافة إلى الموتيلات الصغيرة. ويعتبر كورنيشها ومرفأها الواقعان بمحاذاة الحصن البحري من أهم معالم المدينة، إذ يستقطبان يومياً آلاف السياح الذين تجذبهم المطاعم والمقاهي والمحال المتخصصة في بيع التذكارات عن قبرص. وفي الاتجاه الساحلي المعاكس لبافوس، إلى أقصى الجانب الشرقي للجزيرة، تقع أيانابا التي تغسل أطرافها بمياه بحر نقية... ودافئة. لم تكن أيانابا موجودة على الخريطة السياحية لقبرص قبل نحو 15 سنة. لكن التخطيط السياحي المقترن بالإرادة والتحدي... جعل من هذه البلدة الصغيرة أشبه بمنتجع سياحي ضخم ومتكامل يجذب مئات آلاف السياح من أرجاء المعمورة. إذ تنتشر في أيانابا اليوم عشرات الفنادق والمنتجعات البحرية والمطاعم والمقاهي والملاهي وحدائق الأطفال المائية... الأمر الذي يجعل المدينة مركزاً سياحياً «كوزموبوليتياً» بامتياز. إنها باختصار مدينة «مخصصة» لهواة السباحة... ومحبي الشمس. لكن زيارة قبرص لا تكتمل إلا مع الصعود إلى جبال ترودوس الخضراء الشاهقة (نحو 1900 متر مربع)، والمرصعة بعشرات القرى السياحية الوادعة والمستلقية بدلال في أحضان تلال ووديان مكسوّة بغابات الصنوبر والأرز والشربين والسنديان. وتفتح هذه القرى (مثل لفكارا وإيلوتيكا... وأومودوس) التي تغمرها السكينة والهدوء، ذراعيها لاستقبال السياح، بكل ساحاتها الفسيحة المزنرة بأشجار وارفة الظلال، وأزقتها العتيقة وبيوتها التراثية وتفاصيلها العمرانية ذات اللمسات اليونانية والشرقية ومتاجرها التي تبيع أشغالاً يدوية ومنتجات جلدية وأعمالاً خزفية وفخاريات ومشغولات نحاسية... وغيرها. لعل أهم ما يميز قبرص هو مزجها بين حضارتين مختلفتين، الأولى أوروبية عصرية... والأخرى يونانية عابقة بروح الشرق. كما تمتاز الجزيرة بقصر المسافات بين المدن من جهة، وبين البحر والجبل من جهة ثانية، ما يجعل السائح قادراً على زيارتها والتمتع بكامل خدماتها السياحية الكثيرة في وقت قصير جداً. وثمة ميزة خاصة لقبرص بالنسبة إلى مواطني دول مجلس التعاون الخليجي، إذ انهم معفيون من تأشيرة الدخول إلى الجزيرة. وعلى رغم ذلك، فإن عدد السائحين الخليجيين في العام الماضي (2008) لم يتجاوز ال25 ألفاً، بحسب ما أوضح هراتش كل سحاكيان، مدير المبيعات والتسويق في مكتب الشرق الأوسط والخليج العربي (مقره دبي) في منظمة السياحة القبرصية، ما يعني ان أبناء الخليج العربي ما زالوا يجهلون أهمية هذه الجزيرة «الجارة» وما يمكن ان تقدمه لهم من خدمات سياحية قد لا تتوافر في كثير من البلدان الأوروبية التي يقصدونها. ويكفي القول ان حوالى مليونين ونصف مليون سائح قصدوا قبرص العام الماضي، غالبيتهم من دول أوروبية مثل بريطانيا وألمانيا واليونان والسويد والنروج وروسيا، لمعرفة «سر» هذه الجزيرة التي يعد قطاع السياحة فيها من أكثر القطاعات حيوية في البلاد، إذ يشكل نحو ثلث الناتج القومي الإجمالي لها. وتطمح منظمة السياحة القبرصية في ان تبلغ عائدات قبرص من السياحة هذا العام نحو 3 بلايين دولار. ويأمل سحاكيان بأن يكتشف العرب «سحر» جارتهم القريبة وحضنها الدافئ... بعيداً من الجارات الأوروبيات البعيدات.