سبب تناولي هذا الأمر هو اطلاعي منذ ربع قرن على مسيرة تاريخ العلوم، وعندما أُدقِّقُ ببحث باحثٍ عن العلوم في اللغة العربية أجده قد تُرجم من لغةٍ ما من اللغات الأجنبية، ولم يتورع المترجم عن نسبة البحث لنفسه مُتكلاً على جهل أبناء الأمة باللغات الأجنبية، وكسلهم عن البحث المقارن، وفي بعض الأحيان أجد الباحث قد اعتمد مصادر ومراجع من لغة يجهلها جهلاً تاماً، وجلّ اعتماده على فهارس الذين بحثوا في تلك اللغة التي يجهلها، ولكنه ينسب لنفسه جهود الآخرين. ولا أبالغ إذا قلت: إن مركزاً أجنبياً واحداً يتفوق على كل المؤسسات والوزارات والجامعات العربية متحدة، ومثال على ما أقول معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت في ألمانيا الذي يشرف عليه البروفسور التركي الأصل فؤاد سزكين والذي أصدر أكثر من ألف مجلد عن تاريخ العلوم العربية والإسلامية. مشكلة منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت، أنها محدوة الطبعات حيث يطبع من الكتاب عدد قليل جداً أقله خمسون نسخة، ومتوسطها مئة نسخة، وأكثرها خمسمئة، وبذلك تبقى هذه المطبوعات متداولة بين خاصة الخاصة، وأسعارها مرتفعة تعجز عن دفعها معظم الجامعات العربية، وبذلك لا يتمكن من شرائها إلا الذين لا يقرأون. وعلى رغم هذه المشكلات، فإن هذا المعهد قد أتاح لبعض المؤسسات الثرية مالياًَ، والفقيرة ثقافياً اقتناء هذه المجموعات الكثيرة من الكتب الخاصة بالعلوم العربية والإسلامية بعدد كبير من اللغات الإنسانية الحية من عربية وفارسية وعثمانية تركية، وفرنسية وإنكليزية وألمانية وإيطالية ولاتينية وإسبانية. من خلال متابعتي لما يصدره معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت من كتب لاحظت توزع أكثرية الكتب على ثلاثة محاور: فكان أقدمها وأولها: طبع المخطوطات العلمية بالتصوير طبق الأصل عن المخطوط الأصلي مع مقدمة وفهارس مقتضبة، ومراعاة النواحي الفنية بحيث يشبه الكتابُ المطبوعُ المخطوطةَ الأمّ من حيث الورق، وتجليد الكتب تجليداً تقليدياً، ونشرت تلك السلسة تحت عنوان: عيون التراث. وجاء المحور الثاني على شكل تجميع لدراسات خاصة بعالم من العلماء الأعلام الذين اهتموا بالعلوم العربية والإسلامية، فجمعت مقالاتهم وبحوثهم في مجلد خاص، أو عدة مجلدات. وجاء المحور الثالث على شكل سلاسل عدة تختص كل سلسلة منها بعلم من العلوم، وتنشر ما كتب فيه من مقالات وبحوث، وما نُشر من كتبه، وقد تجاوزت كتب بعض هذه السلاسل المئة مجلد، وقد اكتمل بعضها، والبعض الآخر لا يزال مستمراً، وتجاوز مجموعها الألف مجلد. نشر معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت في صيف سنة 1999م مجلداً ضخماً يعرف بمنشورات المعهد من سنة 1984 حتى سنة 1999م، وشمل العلوم الدينية من أصول فقه وتصوف، وتاريخ، وشعر وفلسفة، وعلوم لغة، وموسوعات وفهرسة، ورياضيات وفلك، وموسيقى وطب وصيدلة وبيزرة وبيطرة، وفيزياء وكيمياء، وفنون وجغرافيا وخرائط وبلدانيات ورحلات، ثم أصدر المعهد فهرساً آخر، وتابع نشر الكتب حتى الآن. سلسلة عيون التراث: من المخطوطات التي نشرها معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، طبق الأصل مخطوطة كتاب في حل شكوك كتاب أقليدس في الأصول ومعانيه، تأليف أبي علي الحسن بن الحسن، المشهور بابن الهيثم، المولود نحو سنة 354 ه/ 965م، والمتوفى نحو سنة 432 ه/ 1041م، وتم نشر المخطوط سنة 1985م، وأخذ رقم المجلد 11 في السلسة: ج: عيون التراث، والكتاب المنشور تصويراً عن مخطوطة مكتبة جامعة إسطنبول، القسم العربي رقم: 800، وهي منسوخة في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وأكمل بقسم من مخطوطة مكتبة جامعة لايدن، رقم: شرقي 516. ومن المخطوطات المصورة التي نشرها معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، مخطوطة كتاب الجبر والمقابلة، تأليف أبي كامل، شجاع بن أسلم، الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقد أخذت النسخة المطبوعة رقم المجلد: 24 من سلسلة عيون التراث، وطبعت بالتصوير عن مخطوطة مكتبة قره مصطفى باشا، رقم 379، والمحفوظة في مكتبة السلطان أبا يزيد في إسطنبول. ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، تتألف من 111 ورقة، وقد نسخت سنة 651 ه/ 1253م، في الجبر والمقابلة، والهندسة، ومعادلات سيالة من الدرجة الأولى والثانية وأنظمتها، وبذلك يمثل مدرسة عربية وإسلامية مبتكرة تفوق ما سبقها في علم الرياضيات بما في ذلك الخوارزمي وديوفانتوس، ولذلك تأثر به من جاء بعده مثل الكرجي المتوفى بعد سنة 400ه/ 1010م في كتابه الفخري الذي تُرجم إلى العبرية واللاتينية والألمانية، واقتبس منه كثيراً ليوناردو فيبوناتشي 1170-1240م واهتم به الأوروبيون في العصر الحديث، لكن الكتاب لم يحقق ولم ينشر منه باللغة العربية سوى طبعة المعهد المصورة غير المحققة. المحور الثاني: سلسلة تجميع للدراسات الخاصة بعالم من العلماء الأعلام الذين اهتموا بالعلوم العربية والإسلامية، ونذكر منها سلسة: ب - إعادة طبع فرع الرياضيات، ومنها مجلدان صدرا عن المعهد سنة 1986م، وهما يتضمنان دراسات في الرياضيات العربية والإسلامية للمستشرق الألماني فرانتز فوبكه، الذي درس في ألمانيا، وقصد باريس سنة 1850م، ومحتويات المجلدين هي إعادة طبع ما نُشِرَ من بحوثه ما بين سنة 1842 وسنة 1874م، عن الرياضيات العربية والإسلامية، وذلك بعد وفاته سنة 1864م، ومما تضمنته دراساته ملاحظات حول نظرية في الحساب لثابت بن قرّة، وملخص كتاب الفخري في الجبر والمقابلة لأبي بكر محمد بن حسن الكرجي، ومقال حول التعبير الجبري عند العرب، وتلخيص لمجموعة من المسائل الهندسية لأبي الوفاء، وترجمة رسالة لأبي الحسن القلصادي، وترجمة قطعة من مخطوطة في المثلثات لأبي جعفر محمد بن الحسين الخازن، ومدخل إلى الحساب الغباري والهوائي، وثلاث رسائل عربية في البركار التام، وغير ذلك من البحوث والترجمات العلمية التي تجاوزت الأربعين عملاً. وأصدر المعهد سنة 1988م في أربعة مجلدات أعمال المستشرق الألماني كارل شوي، ضمن سلسلة دراسات في تاريخ الرياضيات والفلك عند العرب والمسلمين، وتتضمن المجلدات إعادة طبع لأبحاث كارل شوي التي نشرت ما بين سنة 1911 وسنة 1926م، وقد ولد شوي سنة 1877م، ودرس الجغرافيا الرياضية عند العرب والمسلمين، ومات سنة 1925م، وكتب دراسات عن الساعات الشمسية عند العرب، ومعرفة أوقات العبادات عند المسلمين، ومقالة للحسن بن الهيثم في استخراج ارتفاع القطب على غاية التحقيق، ومقالة لابن الهيثم في استخراج سمت القبلة، ودراسات لنصوص القانون المسعودي للفلكي محمد بن أحمد أبي الريحان البيروني، وترجمة مقالة لابن الهيثم في ماهية الأثر الذي في وجه القمر من اللغة العربية إلى اللغة الألمانية استناداً على مخطوطة في مكتبة الإسكندرية. وغير ذلك كثير من الترجمات، ونقد أخطاء بعض المستشرقين. وأعيدت طباعة مجموعة المقالات التي جمعتها السيدة دوروتيا جيركه من مقالات وترجمات وبحوث المستشرق الألماني آيلهارد فيدمان في تاريخ العلوم العربية والإسلامية المنشورة من سنة 1912 حتى سنة 1927م، وصدرت عن المعهد في ثلاثة مجلدات سنة 1984م، وأرفق المجلدان بفهرس تحليلي لمقالات فيدمان التي نشرت في المجلدات الثلاثة التي نشرها المعهد وعددها 153 ما بين دراسة وترجمة. والمقالات الموجودة في المجلدين اللذين نشرا في إرلانجن سنة 1970م. ووردت في المجلد الأول 9 مقالات نشرت ما بين سنة 1876 وسنة 1882م، وهي في تاريخ العلوم الطبيعية عند العرب، وأولها حول الحجرة المظلمة عند ابن الهيثم، والثانية حول كتاب ميزان الحكمة للخازني، والثالثة حول رسالة ابن الهيثم في الضوء، والرابعة حول القوة المغناطيسية، والخامسة حول المرايا المحرقة عند ابن الهيثم وثابت بن قرة وغيرهما، والسادسة حول بعض مسائل البصريات عند ابن الهيثم إلخ.. وفي سنة 1906م نشر الباحث كتاباً عنه يتحدث عن حياة ونشاط ابن الهيثم في مجالات الرياضة والفيزياء، والميكانيكا، والفلك والفلسفة والطب، ويترجم ترجمة كاملة لما رواه ابن أصيبعة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء، كما يترجم رسالة لابن الهيثم في موضع المجرة في السماء، وفي سنة 1909م يترجم مقالة ابن الهيثم في المرايا المحرقة في الدائرة، ويصف كتاب تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر لابن الهيثم اعتماداً على مخطوطة لايدن المتضمنة شرح كمال الدين الفارسي على المناظر، ويترجم الفصول الأولى من المناظر، وغير ذلك كثير مما يخص العلم والعلماء العرب والمسلمين. وتضمنت مقالات المجلدين اللذين نشرا سنة 1970 في إرلانجن 79 مقالة، فقد وردت في المجلد الأول مقالة من سنة 1902 في تاريخ الكيمياء عند العرب، وفي سنة 1904 توجد دراسة حول تاريخ العلوم الطبيعية عند العرب والمسلمين، في المغناطسية والظواهر الكهربائية، والمشاهدات البصرية، والمرايا المحرقة عند ابن الهيثم، وفي سنة 1909 ينشر قول ابن الهيثم في استخراج مسألة عددية، ويعتمد على مخطوطة في المكتب الهندي. * باحث سوري مقيم في لندن.