في بحث سابق ألقيته في مكتبة الإسكندرية لفت نظري ورود اسم أحد المستشرقين، كان القائمون على أمر المطبعة في حيدر آباد يلجأون إليه في أحيان كثيرة لإبداء النصيحة أو لتزويدهم بصورة من مخطوطات أو حتى بتحقيق بعض تلك المخطوطات. وتحدثت عنه بصورة مقتضبة نقلاً عن نشراته ومساعداته لنشر التراث العربي الإسلامي، في انتظار العثور على معلومات أغنى عن هذا الرجل المحب للتراث العربي. وأغنانا الدكتور محمد عوني عبدالرؤوف بدراسة مهمة ومتكاملة عن مترجمنا جاء فيها: فريتس كرنكوف (1953 – 1872) Fritz KrenKow ألماني الأصل. درس الإنكليزية والفرنسية وألم باللاتينية واليونانية والفارسية، انتقل إلى برلين عام 1892 وتعرف إلى (سخاو) ودرس عنه، ثم نزح إلى إنكلترا عام 1894 وتجنس بالإنكليزية وتزوج من أدي روزي خالة الروائي الإنجليزي د. ه. لورنس عام 1896، وتابع سيرته العالمية فبدأ يتعلم الفارسية ثم انشغل بالعربية التي حفزه عليها سير تشارلز لايل وتوجه كذلك إلى الشعر العربي ثم اتجه إلى دراسة المعجميات العربية وكتب الترجمات التاريخية والكتب العلمية (الطبيعة والكيمياء)، ولم يمنعه اشتغاله بالتجارة من الإقبال على الدراسة وتصنيف الكتب. وقد زكاه لايل ليكون أستاذاً خاصاً للشعر العربي القديم لفترة قصيرة، ومنذ عام 1903 اعترفت به الأوساط العلمية كنتيجة لامتداح المستشرق وليم آلفارت له، عندما أرسل له كرنكوف مجموعة من النصوص لكي يضمها آلفارت إلى كتابه «مجموع أشعار العرب القدماء». وفي 1923 أصبح عضواً في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد. وفي 1927 أصبح عضواً بجمعية الدراسات الطبيعية والطبية بإيرلانغني، وفي عام 1929 منحته جامعة ليبزيغ بناءً على اقتراح من أوغيست فيشر درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة، وفي السنة ذاتها دعي كرنكوف الذي ذاع صيته في الهند والبلاد العربية للعمل أستاذاً للدراسات الإسلامية في الهند (حيدر آباد وعليكرة) عامي 1929 و1930 ولاقى هناك تقديراً عالياً، لكنه لم يستطع هو وزوجته احتمال الجو في الهند فغادراها، وفي ألمانيا عيّن أستاذاً بمكافأة في جامعة بون باقتراح من بول كالة ولم يستمر كثيراً في تلك الوظيفة. وفي 1934 رجع وزوجته إلى إنكلترا وعاش منعزلاً في كمبريدج. وبعد الحرب العظمى الثانية ومع علمه بخسارة مكتبة معهد تاريخ وثقافة الشرق الأدنى بهامبورغ نجده يوصي بمكتبته في حياته لهذا المعهد. ثم كانت وفاته في 1953. الشعر: انشغل طوال حياته العلمية بالشعر العربي فجمع دواوين أبي دحبل الجمحي، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، والقحيف العقيلي، وشرح التبريزي لبردة كعب بن زهير ونشرها في الدوريات المختصة. كما أصدر مجموعات الشعر العربي العديدة التي نشرها في كتب مفردة مثل: ديوان طفيل بن عوف الفنوى، والطرماح، وابن حكيم الطائر، كذلك نشر كرنكوف الشعر البدوي لمزاحم العقيلي في ليدن عام 1920، وأصدر ديوان النعمان بن بشير من أشعار بكر بن عبدالعزيز ابن أبي دلف في دلهي. ولم يقتصر عمله على نشر الدواوين فقط، بل أنتج بعض الدراسات الخاصة بفن الشعر القديم، ومنها بحث عن فائدة التدوين في حفظ الشعر العربي القديم، كما خط دراسة عن استعمال السحر عند العرب في الجاهلية وأخرى عن القطة العربية، بالإضافة إلى كتابة مداخلات متنوعة عن الشعر الجاهلي في دائرة المعارف الإسلامية مثل: طرفة، زهير، الخنساء... التحقيق: وبخاصة تحقيق فني المعجميات والطبقات فنشر عام 1935 «معجم الشعراء للمرزباني» ونشر في القاهرة، وكذلك نشر «طبقات النماة البصريين» للسيرافي في الجزائر، و»طبقات النحويين واللغويين» لأبي بكر الزبيدي ونشره في روما عام 1919. وعندما كان في حيدر آباد نشر نصوصاً عديدة نذكر منها: جمهرة اللغة لابن دريد، المجتني من المجتبي لابن دريد، الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني، التيجان لابن هشام، الحماسة لابن الشجري، كتاب المناظر لابن الهيثم، المعاني لابن قتيبة، مرآة الزمان لقطب الدين اليونيني... تلك النشرات التي قام على إخراجها كرنكوف تستدعينا لنعطي لمحة عن معرفته بالمخطوطات والتي ساندتها ذاكرة متميزة أفادت منها دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد كثيراً، فهو لم يكتفِ فقط باقتراح طبع الأعمال المهمة بل انشغل أيضاً بتصوير المخطوطات ونقلها بخطه ومقابلتها بغيره وإعدادها للطباعة. وللحق فإن غالبية ما أصدرته دائرة المعارف طوال عقودها الأخيرة تعود إلى مقابلاته بالدرجة الأولى، بخاصة أنه طاف ببلدان المشرق العربي واتصل بالمسؤولين عن المكتبات والمطابع فيها، وكان على صداقة بمن كانوا يشاركونه هواية تتبع المخطوطات كأحمد زكي باشا، وكان كارل بروكلمان يركن إليه للسؤال عن أماكن وجود مخطوطات معينة، حتى إن بروكلمان حرص على أن يسجل في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أنه ينقل الخبر عن كرنكوف فنجد اسمه يتردد في كتابه أكثر من ستين مرة، وهكذا فقد كان كرنكوف إنساناً نبيلاً مستعداً دائماً لتقديم المساعدة وهو الوصف الذي وصف به في شهادة الدكتوراه الفخرية. كان منكراً لذاته، يؤثر الآخرين على نفسه، كان له أصدقاء كثيرون في جميع بلاد المشرق والهند وباكستان. وظل لفترة طويلة يحكم رسائل الدكتوراه في جامعات الهند حتى مماته، ومن فرط تعاطفه مع المسلمين والإسلام سمى نفسه «سالم». وبالعودة إلى أعماله في نشر المخطوطات، كثيراً ما كان يشكو من الهيئات المشرفة على الطبع وعمال الطباعة. فقد قام بتحقيق «حماسة ابن الشجري»، ثم قامت دائرة المعارف في حيدر آباد بحذف شكله وحواشيه وظهر الكتاب خالياً من ذلك عام 1926 كما شوه العمال تحقيقه لكتاب «المجتني من المجتبي» عام 1923؛ كذلك جاءت طبعة معجم الشعراء للمرزباني التي أصدرتها دار الجيل في بيروت عام 1991 خالياً من المقدمات والفهارس، وكان كرنكوف يؤمن بضرورة وضع الفهارس للكتب التي يحققها وقد أفاد في هذا من معاونة الأستاذ بيفان له، إذ ساعده في صناعة فهرس الأمالي لابن القالي الذي حققه ونشره كرنكوف بلندن في 1913 وبيفان هذا هو محقق نقائض جرير والفرزدق واشتهر بصناعة الفهارس حيث عاون أيضاً تشارلز لايل في عمل فهارس المفضليات، ووضع كرنكوف فهارس لكتاب «المأثور فيما اتفق لقطة واختلف معناه» لأبي العمثيل علي بن خالد الأعرابي وكذلك ديوان الطرماح بن حكيم مع ديوان طفيل الفنوي مع فهارس ومعجم لمفرداتهما بالعربية والإنكليزية، ومقدمة وشروح واستدراكات وطبع في ليدن عام 1928، ووضع لكتاب «الجمهرة» لابن دريد – حققه في مجلدات ثلاث – فهارس طبعها في مجلد رابع (1923) بحيدر آباد، وكذلك كتاب «أخبار النحو يني البصر يني» للسيرافي مع مقدمة وفهارس لأسماء الرجال والقبائل والأماكن والكتب، ووضع فهارس لكتاب «المعاني الكبير» لابن قتيبة وكتاب «الأمالي» لليزيدي... ويلاحظ أن هذه الكتب جميعاً لم تطبع إلا بالهند أو بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ونجد أن بعض من قاموا بتحقيق كتب، سبق أن حققها كرنكوف أو قدموا لهذه التحقيقات قد وجهوا إليه الشكر على ما قام به، ومنهم محمود مكي في مقدمة تحقيق عبدالستار فراج لمعجم الشعراء إذ يقول «... وإن كان علينا أن نشيد بصاحب الفضل الأول في نشرهما لأول مرة وهو العالم الفاضل سالم الكرنكوف». وكذلك السيد زين الدين بن الموسوي المصحح الثاني لطبعة الجمهرة بحيدر آباد ومحمد إبراهيم البنا محقق كتاب أخبار النحويين البصريين والسيد عبدالرحمن بن يحي اليمني. وثمة مقالات عديدة نشرت في الأعداد السنوية لدورية المجمع الملكي الآسيوي في بريطانيا وايرلندا jRAS في السنوات 1920– 1940 وكذلك في كثير من المراجعات القصيرة التي نشرت في كل جزء من أجزاء مجلات لغة العرب، مجمع دمشق، مجمع القاهرة... تعرضت لنقد أعمال كرنكوف. وقد أحصى د. عوني آثار كرنكوف في دراساته عنه في الصفحات 260 – 277 في مجالات التحقيق والترجمة ودراسات تتعلق بالثقافات الشرقية نشرها في دوريات ونشرات مختلفة منها jRAS وفي دائرة المعارف الإسلامية وفي WZKM وفي إسلاميكا وفي لغة العرب وفي مجلة RAAP وفي مجلة R A S وفي نشرة المكتب الهندي بلندن Office–Ind، كما أن بروكلمان أورد العديد من أسماء المخطوطات منسوبة إلى كرنكوف وأعطى بيانات عن المخطوطات التي كانت في حوزة كرنكوف.