يتجدد الحديث من آن لآخر داخل الوطن العربي وعلى امتداد العالم الإسلامي، وفي كثير من الغرب ذاته - خصوصاً منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 فى الولاياتالمتحدة - عن الحاجة الملحة الى تجديد الخطاب الديني الإسلامي لغةً ومحتوىً، إطاراً ورسالة، وسيلة وتوجهاً. إلا أن هذه الدعوة ازدادت كثافة واتساعاً وتزايدت دورية ترديدها منذ انطلاق العديد من المبادرات للدول المتقدمة، تحديداً في الولاياتالمتحدة، باتجاه ما تسميه هذه الدول تارة بالإصلاح وطوراً بالديمقراطية أو بالتحديث فى العالمين العربي والإسلامي. والواقع أن الدعوة الى مراجعة الخطاب الديني ليست وليدة ظروف خارجية طارئة أو مستجدة، بل لها جذورها المستمرة فى واقع الأمة وقضاياها الملحة، وهى دعوة مثارة داخل العالم الإسلامي منذ قرنين على الأقل، تحديداً منذ الحملة الفرنسية على مصر من 1798 الى 1801 وما أثارته من أسئلة، وارتبطت بهذه الدعوة دعوات لمراجعة ما أنتجه الفقه الإسلامي - أي اجتهادات الأئمة وتابعيهم وتابعي التابعين - عبر قرون عقب استقرار المكونات الرئيسية للشريعة الإسلامية القرآن الكريم، السنة النبوية، القياس، الإجماع، المصالح المرسلة… لكن الجديد في الدعوات الأخيرة - سواء من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه - أن العديد منها يصب جهده في خانة إيجاد رباط مقدس لا انفصام فيه بين الإسلام والديموقراطية بمعناها الليبرالي الغربي الغالب حالياً على الصعيد العالمي عقب انتهاء الحرب الباردة والزوال السياسي - وإن لم يكن الفكري - لغالبية الدول الشيوعية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي السابق. فالهدف من هذا الكلمات ليس إنكار الحاجة الى مراجعة شاملة - ليس الآن فقط بل في كل مرحلة زمنية - لمعطيات الفكر الإسلامي عبر القرون السابقة وللخطاب الديني الإسلامي الراهن - وهى دعوة تصدق على كل الأديان والأيديولوجيات وليس على الإسلام وحده - وليس الهدف أيضاً إنكار صلة الإسلام بقيم الشورى والمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتحديث على الأصعدة كافة، بل على العكس فإن كاتب هذه السطور ينحاز الى هذين الطرحين. إلا أن الهدف هنا هو التنبيه الى خطورة نقص المصداقية أو غيابها كلياً عندما يكون الغرض من الدعوة لتجديد الفقه أو الخطاب الإسلامي أو كليهما هو توظيف كل منجزات فقهاء الإسلام ومجتهديه - بل توظيف النصوص المقدسة والوقائع الخاصة بالتاريخ الإسلامي في مراحله الأولى - لخدمة رؤية قصيرة المدى، وأقول ضيقة الأفق، تحاول أن تختزل كل ما حواه الإسلام كدين وكحضارة من مبادئ ومثل عليا بخصوص المجتمع والعلاقات الإنسانية والاجتماعية والتركيبة السياسية والقضائية والاقتصادية، فى إثبات أن الإسلام والديموقراطية بشكلها الليبرالي الغربي هما أمر واحد أو وجهان لعملة واحدة أو متطابقان. ومخاطر المصداقية هذه ليست جديدة على عالمنا الإسلامي فهي قديمة قدم محاولات النهضة الإسلامية الحديثة عبر القرنين الماضيين كما سبق وذكرنا، وتغطي التيارات الإصلاحية والتجديدية والإحيائية والتوفيقية على السواء داخل إطار هذه المحاولات. والمثال الأول الذى نذكره هنا يتعلق بالمحاولات التي تمت فى القرن التاسع عشر وتعززت وتطورت خلال النصف الأول من القرن العشرين وهدفت إلى إثبات قابلية الإسلام للتأقلم مع معطيات الحضارة الغربية الحديثة. وشهدت المراكز الأساسية فى العالم الإسلامي عقوداً طويلة من الجدال والسجال والأخذ والرد بين من يقول بعدم تعارض الإسلام مع العلم الحديث بما فى ذلك نظرية النشوء والترقي لتشارلز داروين على صعيد العلوم الطبيعية، ولا مع العلمانية كنظام سياسي واجتماعي وثقافي على المستوى القانوني والمدني، ولا مع قيم الحرية الفردية والأخلاق المدنية والاجتماعية التي نشأت وتطورت فى كنف الحضارة الغربية الحديثة، وبين مدافع عن هذا التطابق بين الإسلام والغرب الحديث، ورافض كلياً لهذا التطابق سواء دفاعاً عن الإسلام أو عن الحضارة الغربية الحديثة، وساع للتوفيق بين الأمرين. وشهد العالم الإسلامي في هذا السياق نقاشات مهمة، ولكنها أيضاً استنزفت طاقات مهمة وخسرت الأمة زمناً طويلاً من دون ان تتوصل فى نهاية المطاف إلى معادلة متوازنة تضمن الاحتفاظ بخصوصيات الأمة مع مراجعة التراث بتراكمه التاريخي والنظر في ما لدى العالم من حولنا من أسباب المنعة ومظاهر القوة وما يمكن نقله عنه بما يحقق مصالح الأمة وبما لا يتنافى مع هويتها، مع تأكيد مشاركة جميع أبناء الأمة فى هذا الجهد سواء كانوا مسلمين أو منتمين إلى ديانات أخرى، وذلك تواصلاً مع مسيرة الحضارة الإسلامية خلال مراحل ازدهارها وثرائها. ووصل الأمر نتيجة أزمة المصداقية تلك بالأمة إلى فقدان الثقة فى أي أمل بأن تؤدي قيم الغرب الحديثة بمعناها الليبرالي والرأسمالي إلى حل قضايا الأمة إلى انتعاش واسع لبدائل عديدة ما بين فاشية قومية وما بين دينية أصولية مسيسة وما بين ماركسية بتنوعاتها المختلفة واكتسابها أرضية واسعة على امتداد العالم الإسلامي بانتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ثم تخلى الشعوب كلياً عن دعم النظم القائمة فيها على أسس القيم الليبرالية الغربية بل وابتهاجها بسقوط هذه النظم أو معظمها عبر حركات للجيوش أطاحت الديموقراطيات الموجودة فى هذه البلدان على النسق الغربي. أما المثال الثاني الذي يحضرنا هنا فيتصل بالفترة التي أعقبت إلغاء الخلافة الإسلامية فى تركيا على يد الرئيس التركي مصطفى كمال اتاتورك في العقد الثالث من القرن العشرين وما أعقب ذلك من تنازع وخصام سواء بين الحكام العرب الذي سعى عديدون منهم حينذاك لوراثة الخلافة العثمانية سعياً وراء زعامة عربية او اسلامية، أو بين جهود غير حكومية، فى بلاد الشام والهند على وجه الخصوص، لإحياء الخلافة للم شمل المسلمين ربما فى أحيان كثيرة بحسن نية وقصد. ودار الخلاف أيضاً حينذاك حول ضرورة الخلافة للمسلمين ومدى اعتبارها مما هو معلوم من الدين بالضرورة أم يمكن إيجاد صيغ بديلة أو حتى استقلال كل دولة إسلامية لتعزيز قدراتها وقوتها باعتبار ذلك يخدم فى نهاية الأمر أهداف الأمة فى مجملها. واستمر الجدال بدون الوصول الى معادلة متوازنة مرة أخرى، مع الإقرار بأهمية إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بعد أكثر من أربعة عقود على إلغاء الخلافة. وأدى ذلك إلى تراجع مصداقية الدعوة هنا وهناك لإحياء الخلافة أو الوحدة الإسلامية، على رغم صدق نية بعض الدعوات خصوصاً ذات المصدر المجتمعي وغير الحكومي. والمثال الثالث والأخير هنا، وربما الأكثر دلالة، هو ذلك الخاص بما شهده العالم الإسلامي في الكثير من الدول - خصوصاً الدول العربية - فى النصف الثاني من القرن العشرين من تحول النظم الحاكمة بها نحو الاشتراكية وتبنى مسميات مختلفة لهذا التحول ما بين الاشتراكية العربية والاشتراكية الإسلامية والاشتراكية العلمية ذات التطبيق العربي أو الإسلامي، أو غير ذلك من مسميات. وفى تلك المرحلة أيضاً شهدنا محاولات وجهود حثيثة مشابهة لما نراه اليوم وما أشرنا إليه في الفقرتين الأوليين من هذا المقال، ولكن مع فارق وحيد هو أن الهدف كان حينذاك إظهار الإسلام والاشتراكية وكأنهما متماثلان، بينما اليوم يكون الهدف هو إظهار التطابق بين الإسلام والديموقراطية. ولا يعنى هذا إنكار بعض أوجه الشبه هنا وهناك بين الفكر الإسلامي والخطاب المرتبط به وبين الاشتراكية، كما لا يعني التقليل من شأن اجتهاد فقهاء وعلماء دين ومفكرين نجلهم ونقدرهم سعى الكثير منهم عن حسن نية وقصد للبحث في أوجه التشابه والاختلاف بين الإسلام والاشتراكية. إلا ان دفع حكومات بعض الدول العربية والإسلامية التي تبنت الاشتراكية إلى فرض اتجاه معين على الاجتهاد القائم والحوار الدائم، والذي ظهر كمن يحاول قصر الهدف على غاية محددة وهي إثبات التماثل بين الإسلام والاشتراكية، وتزامن ذلك مع جهد منظم سواء من دول عربية وإسلامية أخرى كان لها تحفظاتها على هذا الربط بين الإسلام الاشتراكية، أو مع دخول القوى العظمى والكبرى على الصعيد العالمي هذا المعترك، الدول الغربية لدحض أي صلة بين الإسلام والاشتراكية، والاتحاد السوفياتي السابق باتجاه إعادة تفسير الإسلام بما يتفق حتى مع الاشتراكية الماركسية ذاتها فى بعض الحالات... كل هذا قلل من المصداقية إلى حد كبير عن هذه الاجتهادات التي نكرر أن بعضها كان منزها عن أي تدخل من الحكومات ويبغي وجه الله والحق. ونتج عن كل هذه التدخلات المباشرة وغير المباشرة لمختلف الأطراف أن تراجعت وتدنت الثقة فى العلاقة الإيجابية بين الإسلام والاشتراكية، كما تراجعت من قبل في العلاقة بين الإسلام والرأسمالية الليبرالية الغربية وفى تعدد المحاولات لإحياء الخلافة الإسلامية. لذا، لا نجد أمامنا سوء تأكيد مسألة المصداقية تلك في الحوار الدائر حالياً حول العلاقة بين الإسلام والديموقراطية على النسق الليبرالي الغربي، حتى لا يتكرر نفس المسار وتهدر الأمة المزيد من الجهد والطاقة فى مشاحنات ومجادلات لا تخدم أهداف الأمة فى التحرر والتقدم والوحدة، فيجب ألا تكون الفروض مفترضة مسبقاً وألا تكون الأهداف المبتغاة من هذا الجهد محددة سلفاً، لان من شأن هذا إجهاض المسعى والجهد والحيلولة دون حوار مفتوح يغطي كافة القضايا التي تهم الأمة ويراجع معطياتها الفقهية والفكرية وما يرتبط بها من خطاب ديني بغرض صادق هو التجديد حينما يكون التجديد مطلوباً، والإحياء عندما يكون الإحياء لازماً، والإصلاح عندما يكون الإصلاح واجباً، والتوفيق عندما يكون التوفيق ضرورياً، على أن يكون الدافع دائماً هو صالح الأمة والحفاظ على هويتها وثوابت مرجعياتها. * كاتب وباحث مصري.