حتى صحيفة"نيويورك تايمز"ضمت صوتها، وهو صوت وازن، إلى الداعين إلى تأجيل الانتخابات العراقية، آخذة على إدراة الرئيس بوش تقديسها لموعد الثلاثين من الشهر الجاري، كأنما الاقتراع أمسى هدفاً في ذاته، منبّهة إلى أن إجراء الانتخابات في ظروف العراق الراهنة قد يفضي إلى"السيناريو الأسوأ، أي الحرب الأهلية بين السنة والشيعة، ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في كامل الشرق الأوسط". والمرجح أن الصحيفة الأميركية النافذة لا ترى هذا الرأي بدافع الإحراج حيال رئيس كانت قد"ناضلت"ضد التجديد له في الانتخابات الأخيرة، كما سبق لها أن تحفظت عن مغامرته الحربية في العراق، بل أنها تستند في ذلك إلى تقييم للأوضاع متزن لا يعوزه الصواب. إذ ما انفك يتأكد أن استجابة الداعين إلى تأجيل الانتخابات ما عادت تعني فقط التراجع أمام أهل التطرف والإرهاب ومن يقترفونهما، بل هي أمر باتت تقتضيه الجدوى، إذا ما أُريد للانتخابات المذكورة أن تضطلع بما وجدت من أجله، أو هكذا يُفترض، أي إرساء نصاب سياسي عراقي قابل للحياة وللاستمرار، ولا يكون في حاجة، إلى أجل غير معلوم، إلى أداة عسكرية، خارجية أو محلية، تفتعل تماسكه وتفرضه فرضاً. ولعل من بين ما هو حريّ بجعل مطلب التأجيل هذا يطمئن الإدارة الأميركية، أو يدعوها على الأقل إلى النظر فيه جدياً، أنه صدر خلال الآونة الأخيرة عن قوى وأطراف سنّية ليست بالضرورة مناوئة للوجود الأميركي في العراق أو مناهضة له عسكرياً. لكن الرئيس بوش وإدراته يبوّئان، كما قيل مرارا، الفعل الانتخابي منزلة إيديولوجية، فلا يعبآن إلا قليلا بوظيفته الإجرائية والأداتية، كلَبنة في اجتراح أنصبة مستقرة، تذلل الاحتقان الأهلي وتحول دون تفاقمه نزاعا مفتوحا. أما إذا حفّت بذلك الفعل الانتخابي اعتبارات سياسية، فهي لا تخص البلد المعنيّ به في المقام الأول العراق في هذه الحالة، بل الرأي العام الأميركي، والظهور أمامه بمظهر الجادّ في إنفاذ الأجندة التي التُزم بها حياله. وذلك هاجس مفهوم، وإن كان سينيكيًّا إلى أبعد الحدود، لعلم الإدارة الأميركية بأن الذي في وسعه أن يحاسبها إنما هو الرأي العام المحلي، لا ذلك العراقي. فمع أن الرئيس بوش لن يخوض غمار معركة انتخابية ثالثة، إلا أنه حريص دون ريب، وهو من هو تبشيريةً إيديولوجية، على بقاء السلطة بين أيدي المحافظين من طينته بعده. كما أن الأمر ذاك، ربما عاد إلى ما هو أبعد وأعمق، إلى خاصية الولاياتالمتحدة كامبراطورية ممتدة سطوةً ومنكفئة عقليةً، كونية المدى و"ريفية"الآفاق، ميالة إلى قياس شؤون العالم الخارجي بمعايير محلية في المقام الأول. غير أن تلك السمة السحرية التي يبدو أن الإدارة الأميركية تسبغها على الفعل الإنتخابي، تراه إكسيراً لحل المشاكل بقطع النظر عن تهيئة ظروفه، لا يوازيها إلا سحرية مماثلة يسبغها الداعون إلى تأجيل الانتخابات، خصوصا في الوسط السني العراقي، على دعوتهم تلك. علما بأن الدعوة تلك، حتى في صورة استجابتها، لن تحقق شيئا ما لم يواكبها سعي من جانب السنّة، للاندراج في الواقع العراقي الجديد، يأخذ علماً بالوضع الذي آلوا إليه، ويسلم بفقدانهم لسلطة انفردوا بمزاولتها منذ قيام الكيان العراقي"الحديث"، ويقر بأن أقصى ما يمكنهم أن يطمحوا إليه من هنا فصاعدا، هو إحقاق حقوقهم كأقلية، داخل نصاب ديموقراطي، لا استعادة الغلبة، أقله لأن النصاب الدولي الذي مكّنهم من تلك الغلبة في سالف الأيام، غداة انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقسيم آخر ممتلكاتها المشرقية، لم يعد ملائما لهم الآن وبات يعمل وفق منطق آخر، مختلف تماما، يقوم، على ما يبدو، على إحداث تطابق، وإن نسبي، بين الأغلبيات العددية والأغلبيات السياسية. قد يكون ذلك هو المآل المرجوّ للمعمار السياسي في بلدان المشرق، وقد يكون العراق مختبره ومُفتتحه، بحيث لا يكون من قبيل المبالغة الإفتراض بأن سياسة"نشر الديموقراطية"في ربوع المنطقة، وفق التصور الأميركي، ربما كانت، أقلّه جزئياً،"الاسم الحركي"لتلك الاستراتيجية. وذلك ما يبدو أن سنّة العراق قد أخفقوا حتى الآن في إدراكه، وتالياً في ترجمته إلى مقاربة سياسية تنطلق منه وتتماشى معه وتواكبه، ما منح مقاومتهم ذلك المنحى"العدمي"الذي كثيرا ما أخذه عليهم المراقبون، بمن فيهم الأكثر اعتراضا على المغامرة الأميركية في العراق، خصوصا وقد خالطت تلك المقاومة ولابستها"جهادية"إسلاموية متطرفة، كتلك التي يمثلها أبو مصعب الزرقاوي وتنظيم"القاعدة"، لا يخالجها أي اكتراث بمصير الكيان العراقي، إذ لا يعنيها هذا الأخير إلا بوصفه"ساحة". غير أن معضلة السنة العراقيين قد تتجاوز صعوبة التكيف مع وضع الدونية السياسية الذي آلوا إليه بعد انهيار نظام صدام حسين، على أهمية تلك الصدمة، لتتعلق بما يمكن تسميته بضربٍ من نكوص سوسيولوجي، على صعيد تمثيليتهم، ألمّ بهم وأدى، بدوره، إلى ضرب من التردي في تعاطي السياسة وفي النهوض بها في أوساطهم. إذ يبدو أن التمثيلية السنية قد شهدت مسار"بدوَنة"انتقل بها من الحواضر إلى البوادي ومن النخب المدينية إلى الزعامات القبلية، وهو ما يتجلى في أكثر من ظاهرة وعلى أكثر من صعيد، حتى ضمن السلطة العراقية المؤقتة، حيث تم تفضيل"الشيخ"غازي الياور، رئيسا للدولة، على"الدكتور"عدنان الباجه جي. تلك فرضية نطرحها بحذر، في انتظار أن يؤكدها أو يدحضها باحثون عراقيون أدرى بشؤون بلدهم. لكنها تبدو للوهلة الأولى أداة قد لا تعوزها الفاعلية في تفسير وضع السنة العراقيين. ومسار البدونة ذاك، إن صح، ربما بلغ أوجه خلال فترة حكم صدام حسين، ذلك الذي ربما وصل إلى الشأو الأبعد والأكمل في عملية استبدال النخب داخل الطائفة السنية، وإنجاز الانتقال من نخب مدينية، تتطلع نحو مدن بلاد الشام، تستقي منها التأثير السياسي وتستلهمها إيديولوجياً، إلى نخب بدوية المحتد والأرومة، وإن تمديَنت بشكل من الأشكال، منابعها العشيرة وقيم القبيلة. وربما كان شرط استعادة السنة العراقيين للسياسة هو استعادتهم بُعدهم المديني، وذلك ما يتطلب أجلا يفيض عن المهلة التي يوفرها تأجيل الانتخابات.