دأب العلماء والأكاديميون الألمان منذ أكثر من عشر سنوات على التحذير من مشكلة فريدة وخطيرة هي تناقص عدد سكان البلاد في وقت ترتفع نسبة المعمرين. وعلى رغم خطورتها على مستقبل البلاد فإن المسؤولين لم يعيروا المشكلة أهمية تذكر. ووصل الأمر بحكومة المستشار السابق هلموت كول إلى حد الإيعاز الى مؤسسات الإحصاء الرسمية بالتستر على الأرقام المتعلقة بعدد السكان. وعزت المحللة ماريتا تاكلك ذلك إلى الخوف من مواجهة تبعات المشكلة على صعيد نظام التقاعد والضمان الاجتماعي الذي أراد كول تجميله بحذر، بدلاً من إصلاحه بجرأة. وبغض النظر عن أن القضية تتعدى الخوف إلى مصالح حزبية وعوامل تاريخية فإن مطرقة الضرورات الاقتصادية أجبرت السلطة السياسية أخيراً على الاعتراف بأسرار أخفتها لسنوات طويلة عن الرأي العام. ففي 19 تموز يوليو الماضي، نشرت مصلحة الإحصاء الاتحادية دراستها التاسعة حول التنبؤ السكاني بشكل يختلف عن مثيلاتها من قبل. ومما جاء فيها أن عدد سكان البلاد سيتراجع بنسبة 15 إلى 20 في المئة، اي من 82 مليون إلى 70 أو 65 مليون نسمة ، بحلول عام 2050. وتكمن الخطورة في أن ذلك لن يتوقف حتى في حال استمرار تدفق المهاجرين على المستوى الذي هو عليه الآن، ما يهدد موقع ألمانيا كأكبر قوة اقتصادية في أوروبا. وتم حساب التوقعات على أساس أخذ العديد من الاحتمالات بعين الاعتبار، فإذا تدفق 200 ألف مهاجر سنوياً كما يحصل حالياً، سيكون العدد بحدود 70 مليوناً في مقابل 65 مليوناً في حال مجيء 100 ألف مهاجر فقط. وإذا توقفت الهجرة فإن تعداد السكان سيتراجع إلى 59 مليون نسمة، ما يحمل مخاطر تحول ألمانيا إلى أمة متوسطة الحجم في أوروبا الغربية على غرار فرنسا وبريطانيا. ويزيد من حجم المشكلة توقع ارتفاع الأعمار بمعدل أربع سنوات فيصبح بحدود 78 سنة للرجال و 84 سنة للنساء. ويعني ذلك أن عدد الذين يزيد عمرهم على 60 عاماً سيتضاعف مع نهاية الفترة المأخوذة في الاعتبار. قراءة في الأسباب تعود جذور مشكلة التطور السكاني المعاكس للمجرى الطبيعي في ألمانيا إلى أيام الحرب العالمية الثانية عندما فقدت 16 مليوناً من مواطنيها غالبيتهم من الرجال. ومع الزيادة الكبيرة في نسبة الولادات خلال الستينات، انتعشت الآمال بالتخفيف من حدتها لاحقاً. ولكن حبة منع الحمل التي انتشرت إبان السبعينات، تسببت في تراجع هذه النسبة إلى الحد الذي بدد هذه الآمال. وعلى رغم تحسن الوضع خلال العقدين الماضيين فإن استمرار التدني في معدل الإنجاب يفسر سير المشكلة الديموغرافية نحو مزيد من التفاقم. فهذا المعدل لا يتجاوز في الوقت الحالي 1400 ولادة لكل الف امرأة في ألمانيا الغربية. ويبدو الوضع أسوأ في مقاطعات ألمانياالشرقية سابقاً حيث لا يزيد على 1100 ولادة. ويقل ذلك بكثير عن المعدل المطلوب للحفاظ على مستوى عدد السكان. فمثل هذا الحفاظ يتطلب إنجاب أكثر من طفلين لكل امرأة. وهذا ما يعتبر مجرد أمنية في الوقت الحاضر. فانخفاض معدلات الولادة يشكل أحد الأثمان التي يدفعها الألمان كغيرهم من أمم صناعية عديدة، لقاء تمتعهم بالرفاهية ومستوى معيشة عالياً. العيش قبل الانجاب ويبدو ان الالمان يفضلون العيش برفاهية على هموم تربية الاطفال. وقال احدهم ويدعى اولف كلادرو 38 سنة: "قررت وشريكتي الاكتفاء بطفل واحد لأن ميزانيتنا لا تسمح بأكثر. فوجود طفلين يعني مصاريف أكبر والتخلي عن أشياء تهمنا مثل قضاء إجازة في الخارج أو تأمين لوازم نعتبرها ضرورية". وايدته مواطنته كاتيا فوير 28 سنة التي فضلت أيضاً الاكتفاء بطفل واحد لأنها تريد من الحياة أكثر من تربية الأطفال، بحسب تعبيرها. أما كريستينا هوفل 33 سنة فشكت من أن إنجاب الأطفال وتربيتهم مسؤولية ليس سهلاً تحملها في مجتمع يعيش نصف أبنائه بشكل فردي. فشخص واحد بمفرده لا يستطيع بالكاد القيام بذلك إذا كان عليه الذهاب إلى العمل 8 ساعات يومياً. وحمّلت بيرغت بازارا 36 سنة وهي من برلينالشرقية مسؤولية تراجع نسبة الولادات في مقاطعات ألمانياالشرقية الى معدلات البطالة المرتفعة وما ينطوي عليها من خوف على المستقبل، إضافة إلى تدهور مستوى أنظمة ودور الحضانة التي كانت تعتبر الأفضل بين مثيلاتها في العالم. وكانت ألمانياالشرقية سابقاً تقدم ما يكفي من الضمانات لحماية المرأة من أخطار التسريح من العمل، ما شجع مواطناتها على إنجاب الأولاد ولو كانت الواحدة منهن تعيش بمفردها. وإذا كانت غالبية الألمان تفضل الاكتفاء بطفل إلى طفلين، ينبغي عدم نسيان أن هناك نسبة متزايدة لا ترى ضرورة للانجاب. وقال فرانك شمدت 36 سنة: "يمكنني تصور العيش بدون أطفال" واضاف: "أدفع تأمينات التقاعد والصحة ولا خوف عندي من الشيخوخة". وبالنسبة الى ماتياس هولر 26 سنة الذي لا توجد لديه خطة للزواج والإنجاب فان "الأمور مفتوحة للاحتمالات، فإذا تعرفت على شريكة مناسبة لا مانع لدي من إنجاب طفل أو طفلين". ولا يندر سماع آراء تنطوي على تشاؤم بما يخبئه المستقبل اذ أجاب دانيال فوكس 23 سنة بالقول: "تريدني أن انجب أطفالاً في هذا العالم الذي يسير نحو مزيد من الكوارث". وتابع: "لا انصح أحداً بذلك لأن الأمر لا ينطوي على إدراك بالمسؤولية". تحديات وتداعيات وتطرح توقعات النمو المذكورة تحديات جمة، لن تطال الجانب الاقتصادي فحسب، بل تتعداها إلى الجوانب السياسية والثقافية وغيرها. وابرز التحديات تلك التي تواجه أنظمة التقاعد والتأمين الصحي والتعليم وسوق العمل وموضوع الهجرة في المدى المنظور، فهذه القطاعات معرضة لمشاكل جمة قد تصل إلى حد الإفلاس والانهيار، إذا لم تتم المبادرة لإصلاحها بأسرع وقت ممكن. وعلى المدى البعيد سيصعب على ألمانيا الحفاظ على موقعها الاقتصادي أوروبيا وعالمياً. ولن يكون ذلك بسبب المعاناة من نقص الأيدي العاملة فحسب، بل ان قسماً كبيراً من الميزات التي تتمتع بها المانيا حالياً بفضل منافع سوقها الكبيرة بحجم 82 مليون مستهلك، سيكون سائراً إلى زوال. وإذا أخذ بعين الاعتبار تدفق المهاجرين إلى البلاد، يسهل توقع تحول الألمان إلى أقلية ولو رئيسية في بلادهم خلال العقود الخمس المقبلة. ومن الطبيعي أن ذلك لن يمر من دون إفرازات على الصعيدين السياسي والثقافي، ومن شأنه أن يؤدي إلى تغيير الخارطة الحزبية. كما أن القيم والعادات والتقاليد التي سيجلبها المهاجرون معهم ستحاول شق طريقها لتصبح في إطار المألوف. وفي ضوء المعطيات القائمة لا يمكن الجزم بأن ذلك سيتم من دون الإشكاليات المهمة الآتية: 1- لا يمكن الاستمرار في نظام التقاعد الحالي بسبب زيادة نسبة المتقاعدين قياساً لعدد المعيلين لهم، اذ يتحمل حالياً كل مئة عامل مسؤولية دفع رواتب 42 متقاعداً. وسيكون على المئة تحمل نفقات 66 آخرين عام 2030. وانطلاقاً من ذلك تبحث الحكومة والمعارضة في كيفية إيجاد حلول تنطوي على تحميل كل من الطرفين تضحيات يمكن القبول بها. ويقوم ذلك على مبدأ خفض رواتب المتقاعدين وزيادة النسبة المخصصة لضمان التقاعد من رواتب وأجور العاملين. ومن أجل التخفيف من آثار الخفض على مستوى المعيشة، تعد الحكومة الحالية لمشروع ينطوي على تشجيع التوفير في صناديق التقاعد الخاصة بالرغم من احتجاجات النقابات وبعض أوساط المعارضة. 2- انطلاقاً من زيادة نسبة المعمرين سيصبح الضمان الصحي الذي يبتلع 500 بليون مارك سنوياً أكثر كلفة. وإزاء ذلك، ينبغي إعادة هيكلة أسلوب التمويل المتبع بحيث يتحمل المريض مزيداً من الأعباء المالية. ولكن المشكلة السكانية لا تنطوي فقط على زيادة الأعباء وإنما على فتح فرص استثمار وربح كبيرة أمام المؤسسات الصحية. وقدرت دراسة أعدتها مؤسسة "ارثر اندرسون" الشهيرة أن انفاق الألمان على صحتهم سيصل إلى 2000 بليون مارك ، أي إلى أربعة أمثاله بحلول السنوات الخمس عشرة المقبلة. 3- قلة الولادات بدأت تلقي بظلالها على نظام التعليم أيضاً. فالعديد من المدارس بدأت تعاني من نقص في أعداد الطلاب في صفوفها. ويبرز ذلك في مرحلة التعليم الابتدائي. وهذا ما دفع السلطات في مقاطعة برلين إلى اتخاذ قرار بإغلاق العديد من المدارس أو ضم بعضها إلى بعض. أما النقص المذكور فيعكس بالدرجة الأولى فجوة الإنجاب التي عمت مقاطعات ألمانياالشرقية سابقاً بعد قيام الوحدة الألمانية قبل عشر سنوات. فقد شهدت تلك الفترة تراجعاً دراماتيكياً للنمو السكاني في هذه المقاطعات عقب انهيار مؤسساتها الاقتصادية وتحول الملايين إلى عاطلين عن العمل. 4- تتسبب المشكلة الديموغرافية بمشاكل كبيرة بدأت بالظهور في سوق العمل. فخلال العام الماضي نقص العرض في قوة العمل بحوالى 230 ألفاً. ويتوقع ارتفاعه إلى ما لا يقل عن نصف مليون سنوياً لاحقاً. وحذرت الباحثة الاقتصادية هيلمار شنايدر من مغبة التقليل من أهمية ذلك انطلاقاً من أن النقص سيؤدي إلى تراجع معدلات البطالة. فمثل هذا التراجع لن تقابله زيادة أعباء العاملين تجاه أنظمة الضمان فحسب، بل ارتفاع تكاليف العمل ايضاً. ومن شأن ذلك أن يدفع المستثمرين لتجنب النشاط في ألمانيا. وعلى هذا الأساس، طالب توماس شتراوبهار رئيس معهد البحوث الاقتصادية في هامبورغ السلطة السياسية بإعادة نظر راديكالية في الواقع القائم وآفاقه. ويعني ذلك بدء البحث والنقاش لإيجاد البدائل والخيارات من دون تأخير. فتأجيل ذلك أو تسويفه سيلحق أضراراً متزايدة بقدرة ألمانيا على المنافسة عالمياً، على حد تعبيره. وفي إطار البدائل لا تبدو هناك ضرورة لتشغيل النساء بشكل أكبر فحسب، بل ذهب شتراوبهار إلى حد مطالبة المجتمع الألماني بتحضير نفسه لسنوات عمل أطول بحيث يبدأ التقاعد في سن السبعين بدلاً من ال 65، حسب المتبع حالياً. 5- على الرغم من ان ألمانيا عملياً بلاد هجرة منذ عقود عدة فإن أياً من قواها السياسية الرئيسية لم تعترف بذلك من قبل. وبدلاً من الاعتراف، تم خلال السنوات العشر الماضية اتخاذ بعض الإجراءات التي سهلت إمكانات تجنيس أعداد محدودة من المهاجرين. ولكن معطيات النمو السكاني وضغوطها المتزايدة على سوق العمل بدأت تغير مواقف مختلف القوى والتيارات السياسية. وظهر ذلك من خلال السياسة الحالية لحكومة المستشار غيرهارد شرويدر. فبعد قرارها توسيع دائرة من يحق لهم الحصول على الجنسية أصدرت قانوناً يسمح باستقدام خبرات أجنبية لسد الحاجة إلى 70 ألفاً منها في قطاع تقنية المعلومات. وسيتم ذلك على أساس منح القادمين ما اصبح يعرف ببطاقة خضراء تخولهم الإقامة والعمل لمدة خمس سنوات من حيث المبدأ. ولكن علماء وسياسيين يرون أن مثل هذه الإجراءات لن تحل المشكلة. ويستندون على وجود ما يكفي من العراقيل التي تقف في وجه الاعتماد على القوى العاملة الأجنبية على رغم القرارات الأخيرة. ويتفق هؤلاء على أن الحل الذي يبدو أكثر عملية وواقعية يتمثل في اعتماد قانون هجرة أسوة بالعديد من الدول مثل كندا وأستراليا وغيرها. واعتبر فريتس كيون رئيس حزب الخضر أنه كان ينبغي إصدار هذا القانون منذ زمن طويل. فهو لن يساعد فقط على استقطاب مهاجرين جدد وإنما على إدماج وربط الملايين ممن يعيشون منهم في البلاد منذ فترات طويلة. ويبدو أن ارتفاع أصوات المنادين بالقانون تجد آذاناً صاغية في الأوساط الحاكمة. فبناء على اقتراح اوتو شيلي وزير الداخلية يجري في الوقت الحاضر تشكيل لجنة هجرة تضم عشرين من شخصية تنتمي إلى مختلف الأحزاب السياسية. وتشير الدلائل إلى أن رئاستها ستسند إلى السياسية المخضرمة ريتا سيموث رئيسة البرلمان الفيديرالي سابقاً والعضو الفاعل في حزب المعارضة الرئيسي ، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي. ومع ترجيح بدء أعمالها في غضون بضعة أسابيع يتوقع منها أن تتوصل خلال ستة أشهر إلى نتائج ملموسة من بينها وضع الخطوط العامة للقانون الذي تزداد أعداد المطالبين به حتى في صفوف المواطنين كدليل على ازدياد الوعي العام بأهميته. مشكلة مستعصية ويدل حجم المشكلة الديموغرافية الألمانية أنه لا يمكن حلها حتى لو تم اتباع سياسات ناجحة وأكثر فعالية. فمثل هذا الحل يفترض استقدام ما لا يقل عن 3.5 مليون مهاجر سنوياً. وطبيعي أن ذلك غير عملي ولا واقعياً. وعليه فإن كل ما يمكن فعله هو التقليل من حدتها قدر الإمكان. ومما ينطوي عليه ذلك تشجيع الولادات واستقبال مزيد من المهاجرين. وبالنسبة للتشجيع لا بد من قيام الحكومة بتقديم حوافز مادية ومعنوية. ومن بينها على سبيل المثال إعطاء مزيد من الدعم المالي والتسهيلات الضريبية للعائلات الغنية بالأطفال. ولا بد من حماية للأم من أخطار البطالة خلال فترة حضانتها لرضيعها بشكل أقوى. ويجب أن تعطى أهمية لإحاطة أفراد المجتمع بمخاطر الإبقاء على نسبة الولادات المنخفضة. وعلى صعيد المهاجرين، يتطلب استقبالهم تبني سياسات تنطوي على ربطهم وإدماجهم بمجتمعهم الجديد. ولا يعني ذلك اعتماد قانون هجرة فحسب، بل تهيئة مستلزمات نجاحه. ومن هذه المستلزمات تهيئة المواطن الألماني لتقبل حقيقة أنه لا يمكن الاستغناء عن المهاجرين من اجل الحفاظ على مستوى المعيشة وضمان مستقبل البلاد. كما ينبغي التوقف عن تحويل الأجانب إلى كبش فداء من جانب سياسيين يريدون التغطية على فشلهم أمام ناخبيهم. وأخيراً فإن الحاجة إلى قوة العمل الأجنبية ليست مشكلة ألمانية فقط وإنما أوروبية أيضاً. وإذا كان النجاح في استقطاب المزيد منها سيخفف مشاكل القارة العجوز فهو سيساعد بالمقابل على زيادة حدة مخاطر هجرة العقول على بلدان العالم الثالث ومنها بلداننا العربية.