تعلن"مواعيد الذهاب الى آخر الزمان"دار الهلال، القاهرة الرواية الجديدة لعبده جبير، عن استئناف كاتب مصري موهوب لرحلته السردية بعد انقطاع دام سنوات عدة، اي منذ صدور روايته المميزة"رحلة رضوان"في التسعينات. ما يلفت النظر في الرواية، هو انها تستوحي فضاء الكويت حيث امضى الكاتب سنوات عاملاً في حقل الصحافة، فعاش على هامش مجتمع يبدو غير منفتح على المهاجرين والوافدين من اقطار اخرى. وما يثير الانتباه ايضاً، اشتمال الرواية على ميتا - سرد يُشركنا في مسألة تشكيل النص وكتابته عبر انعراجات تُفضي به الى بوابة التخييل الذاتي. تتكون الرواية من خمسة ابواب تحمل عناوين: في ثياب الساعات، في ثياب الرسام، في ثياب المصوّر... وتأخذ الكتابة فيها شكل فقرات سردية وحكايات وردت في الصحف، ما عدا فصل"باب في ثياب الرسام"، الذي هو عبارة عن مونولوغ طويل لا تقترن جمله بعلامات الوقف حتى يظل تدفق الخواطر والاستيهامات والتذكرات مسترسلاً، متنقلاً عبر فضاءات وسجلات متباينة. وأعتقد ان هذا الفصل هو بمثابة"النواة الصلبة"التي تضيء إيحاءات الرواية في بعديها السيري والتخييل الذاتي. منذ الصفحات الأولى، يخبرنا الكاتب - السارد، انه توصل الى حل مسألة الكتابة لتكون في شكل رسائل يوجهها الى معارفه او بالأحرى الى عشيقاته في مصر:"كتابة رسائل كل يوم ستُفيدني على الأرجح، وربما خلصتني من هذا الذي - ماذا يمكنني ان اسميه؟"ص 10. واختيار شكل الرسائل يتيح ان يأتي السرد من خلال ضمير المتكلم ويتيح ايضاً استعمال ضمير المخاطب ما دام المسرود له هي العشيقة التي تحمل اسماء متعددة في الآن نفسه: ضُحى، سعاد، ولاء، نهى... للوهلة الأولى يبدو ان هذه الرسائل تختص بسرد ما يعيشه الكاتب في المهجر المحاذي للصحراء والذي يوحي له بأن خروجه من بلاده هو كخروج هؤلاء الآلاف من الحشد المتلاطم الذي يعايشهم في الكويت ويشعر معهم ومن خلالهم، ان"الصحراء"هي منفى ولا يمكن ان تكون مرتعاً للروح كما يزعم بعض المفتونين بها. هذا الشعور، هو ما جعله يتحدث عن كتاب افتراضي يسرد فيه صوراً من هذه البلاد المنغلقة والمفتوحة في آن واحد، حيث تتخذ هيئات الناس وجسومهم طابعاً كوسموبوليتياً يعمّق الشعور بالمنفى. لكن الكاتب سرعان ما يكتشف انه ايضاً ينتمي الى الصحراء:"... تطلعت من النافذة: الصحراء هي انا ايضاً، أقصد - يا لغفلتي - انني ابن الصحراء التي احاطت بالوادي فخنقته". من ثم تغدو"الأبواب"التي اختارها ليطلّ على فضاءات الكويت هي في الآن نفسه كُوى ونوافذ تتسرب منها فضاءات القاهرة وهواجس الكاتب ومغامراته الماضية وأسئلته المحيرة. وما يفرض هذا المزج بين فضاءات الكويت ومصر هو وجود مجموعة اصدقاء مصريين يلتقيهم الكاتب ويعيش معهم قسطاً من زمن المهجر. من هذا المنظور، يتراوح السرد في الرسائل بين مستويين: مستوى ما يعيشه السارد في الكويت متصلاً باليومي المكرور وبالعمل والتجول في المدينة وقراءة الصحف... ومستوى الحياة الحميمية عبر استحضار لحظات الحب والجنس والصداقة والحنين الى الوطن. على مستوى تجربة الهجرة، لا يكتفي السارد بما يلتقطه في الشارع او في العمل، بل يعمد الى حيلتين فنيتين تتيحان توسيع مجال الرؤية وتوسيع النوافذ المطلة على مجتمع الكويت. ففي فصل"يقظة الناجين"، يورد تعليقات الصحف على حالات اشخاص نجوا من الموت في حادث انفجار طائرة كويتية، وهي تعليقات تتخللها لمسات الكاتب لتحولها الى حكايات دالة وذات ملامح فانتاستيكية. ويفعل الشيء نفسه في حالات ناجين من حادث الباص حيث يورد نماذج بشرية تنتمي الى طبقات مختلفة. ولا شك في ان هذه الحكايات قد اضفت تنويعاً على طريقة السرد وأضاءت جوانب من العلائق المجتمعية. والأسلوب الفني الآخر ينطوي عليه فصل"باب في ثياب المصور"الذي يحكي تجربة مفترضة قام بها الكاتب لالتقاط صور تراوده وتلح على مخيلته، وقبل التقاطها يقدم لنا وصفاً مسروداً عنها، فيتحدث عن صورة انتحار خادمة آسيوية انتفخ بطنها بعد مضاجعة قسرية مع مشغلها وعن صورة لمركز تجاري كبير يجتمع داخله الفتيان والفتيات والمتبضّعون، وصورة لشاعر نجم من شعراء النبط، واخرى عن سباق الهجن، وواحدة عن تظاهرة نسائية صغيرة الحجم تطالب بالمشاركة في الانتخابات... ومجموع خانات هذه الفسيفساء السردية تتضافر لتملأ فضاء الكويت كما يتبدى للكاتب عبر المرئي والمسموع والمقروء. على مستوى استعادة الحياة الخاصة ومخزونات الذاكرة، يعمد الكاتب الى السرد المفتوح، المتنقل، جاعلاً من ذاته كياناً متأرجحاً بين الاختيارات والافتراضات، لأنه قرر العودة الى بلاده، وأسئلة المستقبل تحاصره، فلا يكف عن اختلاق ذوات اخرى على نحو ما فعل مع السائق الباكستاني:"لكنني اختلقت قصة لحياتي جاءت من وحي الخاطر، فقلت انني في الحقيقة ضابط بوليس سري وانني قادم الى هنا في مهمة سرية... ص46. وفي موضع آخر نقرأ:"... وبإمكاني عندئذ ان أبدأ بداية جديدة حتى ولو اقتضى الامر ان أنسج قصة جديدة لحياتي كلها، أختارها بنفسي وبمحض حريتي، وحتى اسمي يمكنني تغييره.."ص 132. يرتبط هذا النزوع الى التخييل الذاتي وتعديد الهوية بشعور السارد انه يعيش"مزنوقاً"، متستراً وراء الأقنعة: "أنت لا تستطيع ان تبتعد مسافة عن نفسك بعيداً عن قناعك ما الذي جعلك تلبس اسماً آخر؟ لمَ لا تستطيع ان تعلن عن نفسك، عن عملك؟"ص59. وتبدأ المواجهة مع الذات عنده، من تحديد المستقبل ومغادرة منطقة الهجرة الى منطقة الاستقرار المرتبطة بأرض الوطن حيث"الروح الملتهبة، المعذبة، المتراقصة في المسافة بين الوهم والحقيقة، لذا فمن الأفضل ان تعمل كاتب روايات وأنت هناك لأنك، مثلاً، حين تتمشى في العصاري من بيتك في المنيرة عبر شارع قصر العيني، مروراً بميدان التحرير الى باب اللوق، وتجلس هناك على مقهى الحرية، فإنك تلتقي قصصاً مجسدة وترتطم بأجساد تسبح على الأرصفة، وتجد الحيرة، نعم، لكنك تكون قد امتلأت بعشرات القصص، عشرات الحكايا..."ص134. إن ذاك الذي كان يحاصره ولم يستطع تسميته، في بداية الرسائل، قد اتضحت بعض ملامحه من خلال المقارنة بين المهجر - الفراغ - الصحراء، والقاهرة - الرومانيسك والروح الملتهبة. إلا أن هذا التوزع بين فضاءين وعملين واختيارين لا يلغي ذلك القلق العميق الذي تلبَّس السارد وهو يكتشف"الخروج الكبير"لآلاف المهاجرين وما يشبه يوم الحشر وقد اختلطت الأجساد والنباتات والأغذية والأدوية والملابس واللغات... يستعيد السارد تلك المشاهد والأحلام في مونولوغ بديل محاولاً أن يصور بريشة الرسام، فيجعل كل تجليات الحشود في المطارات والحافلات أو الموانئ والأسواق، متجاورةً، متداخلة، توقظ لديه الشعور بالرعب وتسحق ذاته المهتزة التي لا تعرف أن تثبت على علاقة نسائية واحدة:"ولو أنك أردت لرأيت الرؤوس المشرئبة والرقاب المعلقة على الصواري والأيدي المرفوعة المتشنجة الممتدة الى أعلى تهتز وكأنها طالعة من مرجلٍ ضخم يغلي فيشعل السماء بينما أنقاض الجدران تسقط فوق الرؤوس فتتفجر الجماجم وتتمزق السيقان وتتطاير الأيدي المقطعة بينما الشوق يأخذك كمجنون..."ص 73. إن"باب في ثياب الرسام"يشخص، على مستوى بناء الرواية، اللحمة التي تصل بين الحميمي وما هو خارج الذات من تجليات مرعبة ترتبط بالهجرة وقسوة الطبيعة وكوارثها، وكل ما يفصل الإنسان عن محيطه الخاص ويحرمه من أرضه... ومن خلال هذا الحوار الداخلي المتدفّق، تتلامس مشاهد وذكريات وأفكار جد متباعدة، لكن الذاكرة ترسمها في فضاء واحد، وكأن الكاتب يريد أن ينقل الينا دفعةً واحدة مجموع المشاعر والحكايات والمشاهد التي لا تكتسب دلالتها إلا في فوضاها وتزاحمها"أو بعبارة ثانية، يعمد الكاتب الى اصطناع شكل اللوحة القائم على"التفضية"، أي وضع مختلف العناصر المكونة للوحة متجاورة في فضاء واحد. يكتب عبده جبير هذه الرواية من موقع مغاير للموقع الذي كتب منه نصوصه السابقة. هو، هنا، عاش تجربة الهجرة من أجل العمل، وعانى الشعور بالمنفى الذي جعله يرى الى الأشياء والعلائق من مسافة تسعفه على التأمل والتحليل بعد انجلاء الأوهام. وهو يكتب انطلاقاً من هامش المهجر الذي خلخل مركزية المجتمع الذي ينتمي اليه. بعبارة أخرى، يكتب عن مجتمع مَركَزُه مغيَّب، مختفٍ، إلا أنه باسط سطوته وقادر على التحكم في مصائر أناس كثيرين. من ثم، لا تكاد الرواية تنفُذ الى ما وراء المظاهر والتجليات التي تلتقطها العين أو الأذن. لذلك، لم تقتصر الرواية على فضاءات الكويت، لأن الذات الكاتبة تحمل ذاكرتها وأسئلتها وتلتقي مواطنين يعيدونها الى فضاء الوطن وظلاله العاطفية. وتأتي الرؤية الى العالم، هنا، محملة بغير قليل من المشاعر الكارثية: الشعور بالوحدة وتفاهة الحياة في المهجر، ادمان أفلام البُرنو ومعاينة انهيار الحلم الذاتي والقومي، والانطباع بأن السَّديم يحاصر كل الفضاءات ويعلن عن بدء الرحلة الى آخر الزمان، الى يوم الحشر، في شكل حشود غُفل تهاجر صوب التّيْه... ماذا يفعل السارد - الكاتب وقد اكتشف"فراغ"الصحراء وهبوب علامات القيامة؟ انه يحتمي بالذاكرة وبما اختزنته من لحظات مميزة، ويلجأ الى قذف ذاته وسط مواقف ومشاهد يمتزج فيها الواقع بالخيال، وترتدي فيها الشخوص أقنعةً تتيح لها أن تستوطن ذواتاً متعددة تخرجها من الحيّز الضيق الى معانقة ما هو أوسع على رغم انه مرعب ومزلزل. انه نوع من التخييل الذاتي الذي يتشبث به الكاتب ليُعلي من شأن ذاته القلقة، المتفردة، التي ترفض الانصياع الى روح القطيع. نتيجةً لذلك، وإمعاناً في التشبّث بالذات، يحلم الكاتب ببديل عن الضياع والرعب وحشود المهاجرين، يتمثل إما في العودة الى ضفاف النيل والانزواء عن الناس، أو استيطان أحد جبال النيبال"حيث الجنّيات الصغيرات يتمايلن مع الريح"! في روايته الأولى"تحريك القلب"1981، كان العالم في نظر عبده جبير قابلاً للتمرد والرفض"وفي"عطلة رضوان"1995، أخذت علامات التدهور واختلال القيم تترسخ مؤشرة على رجحان كفَّة القوّى المصادرة للمستقبل... وفي"مواعيد الذهاب الى آخر الزمان"، يبدو الأفق على امتداد كل الفضاءات فاقداً للبوصلة، موصولاً بمجالات وتبدلات ليس هناك من يستطيع التحكم في توجيهها نحو الأفضل... كأنما الرحلة الى آخر الزمان هي رحلة صوب معالم تعلن انتهاء مرحلة لا أحد يدري ما بعدها. كاتب مغربي.