رواية الكاتب الاميريكي جيفري اوجينيدس نالت جائزة "بوليتزر" للرواية عام 2003. إنها تسرد قصة محزنة ومضحكة في الوقت نفسه. فالراوي هو بطلها، ويستهلّ قصة حياته بأنه ولد مرتين: مرة كأنثى، ثم في سن المراهقة ولد مرة ثانية كذكر. فمنذ البداية يشوّق المؤلف القارئ إلى معرفة معنى هاتين الولادتين، وهذا ما يبينه خلال ما يزيد على خمسمئة صفحة، يتنقل فيها البطل/ الراوي بين الماضي البعيد والماضي القريب والحاضر. الماضي القريب قبل ولادته الأولى، راوياً بكثير من الفكاهة كيف تمنى والداه أن يكون بنتاً لأن لهما صبياً، وعلى رغم تنبؤ ملعقة جدته بأنه سيولد صبياً ولد بنتاً، فجمع بين تنبؤ ملعقة الجدة ورغبة الوالدين، فولد خنثى. أما الحاضر، فهو من حاضر سيرته الذاتية، إذ يقول إنه يعيش حالياً في برلين ونحن نعرف من مقابلة أجريت معه أنه نال منحة مالية لينصرف إلى كتابة روايته، فاختار أن يترك مسقط رأسه ديترويت ليعيش في برلين. ويصف مشاعره مبيناً أنه ليس خنثى بكل معنى الكلمة، فشكله وأعضاؤه واشتهاؤه الأنثى من خصائص الذكورة فيه، فقط عدم الصلع ومشيته أحياناً من أثر الأنوثة فيه. ويعود إلى حاضره هذا بين الفينة والفينة واصفاً علاقاته مع الشابات التي اضطرّ إلى إنهائها قبل أن يكتشفن حقيقة أمره، حقيقة عجزه عن مضاجعتهن، حقيقة حرمانه من الحب والزواج والإنجاب. وحين ينتقل البطل/ الراوي إلى الماضي البعيد يقص علينا قصة جديه اليونانيين والكاتب نفسه من اصل يوناني اللذين ولدا في قرية في آسيا الصغرى، ثم اضطرا إلى الهرب من مجازر الأتراك، إثر الحرب بين تركيا واليونان. ولا يتضح للقارئ إلا في القسم الأخير من الرواية سبب هذه العودة إلى تاريخ جديه وعلاقته بأحداث سيرة البطل/ الراوي. ويصف الكاتب المآسي الإنسانية خلال هذه الحرب، حرق الأتراك للمدن والقرى التي فيها أرمن أو يونان، نهبهم المنازل، تعذيب السكان وتشويههم قبل قتلهم، ويبيّن تعقيدات هذه الحرب السياسية والاقتصادية، ودور السلطات الأوروبية فيها، مبطناً بانتقاد لاذع نراه، مثلاً، حين يرفض قائد المارينز البريطاني إنقاذ اللاجئين الأرمن واليونان الهاربين من الأتراك فيما يحاول إنقاذ تبغ إزمير الممتاز لأنه يتمتع بتدخينه. وبين الذين تمكنوا من الهرب جدا البطل/ الراوي. كانا في الحقيقة أخوين، ولكنهما انغرما ببعضهما بعضاً. وحين كانا في السفينة التي أقلتهما إلى الولاياتالمتحدة تظاهرا بأنهما لا يعرفان بعضهما بعضاً، أن الغرام فاجأهما، فعقد القبطان قرانهما، وظلت جريمة سفاح القربى تلاحق الجدة بصفة خاصة حتى آخر حياتها. وهنا نجد ما قد يكون أول أسباب ولادة الحفيدة خنثى. هذا إضافة إلى أن كلا الجدين حمل جينة متحولة على الكروموزوم الخامس. وفي القسم الأخير من الرواية يكتشف البطل/ الراوي فوق ذلك أن القرية التي ولد فيها جداه كثر فيها تزاوج الأقارب والخناثى، فكيف إذا كان الزوجان أخاً وأختاً؟! ولكن ذلك كله يتضح في ما بعد، أما الآن فنتابع بشغف قصة الجدين في الولاياتالمتحدة، في مدينة ديترويت التي يصف بدقة جوها الخانق الملوث بسبب مصانع السيارات التي يعمل الجد في أحدها. ثم إنجابهما والد البطل وعمته، وهاجس زواج القربى يلاحق الجدة قبل كل ولادة إلى أن تطمئن إلى أن الولدين طبيعيان. وفي الولاياتالمتحدة نعيش معهما حياة الجالية اليونانية الأرثوذكسية بكل ما يرافقها من تقاليد وطقوس ومعتقدات يصفها الكاتب مفصلاً، ممزوجة بالفكاهة. مثلاً، حين يجد حفيدهما أنه، خلافاً لرفاقه الغربيين، يحتفل بعيد الفصح بحسب الروزنامة الشرقية يتمنى من أعماق قلبه أن يؤمن برب أميركي قام من بين الموتى في اليوم الصحيح. ثم يصف البطل/ الراوي معاناة الجدين الفقر أثناء أزمة الثلاثينات الاقتصادية، واضطرار الجدة إلى القبول بالعمل الوحيد الذي وجدته لأنها تتقنه: العمل في ورشة لتربية دود القز وصنع الحرير. ومن سخرية التاريخ أن صاحب الورشة كان مسلماً متزمتاً فرض الحجاب على جميع النساء، فتحجبت الجدة مثل بقية المسلمات، بعد أن كانت هربت من مسلمي تركيا. وتستمع إلى مواعظ هذا المسلم الذي خلط الدين بالتدجيل المضحك الذي يورد الكاتب بعضه. إلى أن اكتشفت السلطات أن صاحب الورشة كان دجالاً فيغلق المركز. ويزداد خوف الجدة من نتيجة زواجها المحرّم حين يغرم ابنها بابنة قريبتها ويتزوجها، على رغم كل ما بذلته لتعرفه بفتيات أخريات، ولم تجرؤ على البوح بالسبب الحقيقي لممانعتها هذا الزواج. ويتابع البطل/ الراوي سرد قصة والديه: عمل الوالد في بار يملكه إلى أن سبّب السكان السود اضطرابات ومعارك في ديترويت سنة 1967 رافقها نهب وحرائق وموت، وقد أدت إلى حرق بار الوالد، فانتقل بما قبض من تأمين إلى حي راق وازدهرت أعماله من جديد. واسم الحي هو الاسم الذي اختاره الكاتب لروايته، "ميدلسيكس"، أي "بين الجنسين" وكأننا به يختار اسماً متمشياً مع بطله الذي كان بين الذكورة والأنوثة. إلى الآن يكون البطل/ الراوي فتاة جميلة، يدللها والدها لأنها البنت التي طالما تمنى. ولكن بعد ذلك وخلال صفحات طويلة يصف الكاتب قلقها واضطرابها حين أدركت أنها كبنت لم تبلغ كبقية البنات في سنها، ولا تعرف لماذا. فتدعي حيضاً لم يأتها، وترتدي صدرية تحشوها لتظهر ثديين لم يكونا لها. صفحات مؤلمة مفعمة بالقلق والخوف والضياع والوحدة. كما يصف التغييرات البطيئة التي طرأت على المراهقة لتحوّلها إلى ذكر. ومن براعة الكاتب أنه يشعر القارئ أنه يقرأ لراوية/ بطلة حين كانت فتاة، ثم لراوٍ/ بطل حين تحوّل إلى ذكر. ففي الرابعة عشرة من عمرها بدأت "كالي" تشعر بشيء ينبت في جسدها، وتغرم بفتاة في صفها، وهي لا تعرف إذا كان ما يحصل لها طبيعياً أو لا. إلى أن صدمتها جرّافة، فنقلت إلى المستشفى حيث اكتشف الطبيب ازدواجية الذكورة/ الأنوثة في جسدها. والقسم الرابع والأخير من الرواية وصف وتحليل مفصلان للفحوصات والدراسات التي أجراها عليها في نيويورك الطبيب المختص بالقضايا الجنسية والشذوذ الجنسي والخناثى، صفحات من المعلومات العلمية والطبية والنفسية عن هذه الحالات الشاذة، صفحات تصف عذاب الفتاة حين اكتشفت أنها خنثى، وأن مرادف الخنثى في المعجم الإنكليزي هو هولة أو مسخ. وحين قرأت تقرير الطبيب خفية واكتشفت أنها أقرب إلى الذكر منها إلى الأنثى هربت تاركة لوالديها رسالة تبيّن ما اكتشفت عن نفسها. وتبدأ بتحويل نفسها لتصبح صبياً: قص الشعر، تغيير الملابس والمشية، تفحّص الجسد لمعرفته. وينتقل الصبي المراهق من سيارة إلى أخرى حتى ينتهي إلى سان فرانسيسكو، ويعمل في ناد للشاذين إلى أن تقبض عليه الشرطة ويسجن. حينذاك فقط يهاتف والديه، يجيب أخوه على الهاتف وينبئه أن الوالد مات. وبدل أن ينبئنا الكاتب كيف مات، يورد عدداً من المكالمات الهاتفية تلقاها الوالد من مجهول يعده بتسليمه ابنته مقابل خمسة وعشرين ألف دولار. ويذهب الوالد بعد منتصف الليل وحده حاملاً المال إلى المكان المتفق عليه، والقارئ يتساءل أثناء ذلك هل كان طالب الفدية مجرماً قتل الوالد بعد أن اخذ منه المال ولم يسلمه البنت؟ ونتابع الوالد في كل حركاته وأفكاره، إلى أن يكتشف أن طالب الفدية ليس سوى صهره الخوري. وتبدأ المطاردة، صفحات وصفحات، سرعة جنونية تعرقلها أحياناً زحمة السير، يختفي فيها الخوري أحياناً عن أنظار الوالد ليعود ويظهر ثانية، ويدرك الوالد أن صهره ينوي الهرب إلى كندا حيث سيفلت من القانون الأميركي، إلى أن تصطدم السيارتان بسيارات أخرى، تهوي فيها سيارة الوالد في نهر فيغرق، فيما يصاب الخوري بجروح ويقبض عليه فيعترف بسرقته. وحين يعود "كال" "كالي" سابقاً إلى البيت بعد أن يخرجه أخوه من السجن تطلعه جدته على سر ماضيها وزواجها، فيتضح له سبب ما هو عليه. والأمثلة على التشويق في الرواية كثيرة. يصف الكاتب، مثلاً، سيارة مهربي الكحول وهي تجتاز بحيرة جليدية، تتحرك بحذر بين قطع الجليد الجامد وبقع الجليد الذائب متجنبة الغرق. وقبل أن نعرف مصير السيارة وراكبيها يقفز الكاتب إلى كابوس زوجة أحدهما وهي تعاني آلام المخاض، ثم يعود إلى وصف ضياع السيارة بين كتل الجليد، ويقطع الوصف مرة أخرى ليسرد إحدى ذكريات طفولته، ويرجع بعد ذلك إلى تخبط السيارة على الجليد. ولا نعرف إلا في الفصل اللاحق أن أحد الراكبين نجا فيما غرق الآخر. وتدهشنا كذلك دقة وصفه مع طرافته. في القرية التركية نضحك ونحن نقرأ محاولات الجدة دزديمونة تغيير شكل الفتاتين البشعتين في القرية لتصبحا جذابتين كصور الفتيات التي شاهدتها في مجلة فرنسية، وذلك لإغراء أخيها بتزوج إحداهما. أو حين يصف أعمال التجميع الآلية السريعة في معامل السيارات التي تذكرنا بفيلم شارلي شابلن الشهير، يكرر في هذا الوصف خلال ثلاث صفحات الجملة نفسها مراراً ليعكس الأسلوب هذه الأعمال الآلية المتكررة. أو يقول في وصف وجه جيمي سيزمو "المتغضن مثل فراش لم يسوَّ". أو أن قصر قامة الخوري من مظاهر إحسانه فكأنه تبرّع بطوله. وفي صمت والد الراوية/ البطلة تقول: "لأنه لم ينطق بكلمة عن همومه أخذت لحيته تعبر بصمت عن كل ما لم يسمح لنفسه بقوله. عقدها وتجاعيدها دلّت على أفكاره التي ازدادت اضطراباً". وفي وصف وجه فتاة كثير النمش: "إن انفجاراً كبيراً حصل عند جسر أنفها، وقد أرسلت قوة هذا الانفجار مجرّات من النمش تندفع وتنجرف إلى كل نواحي كونها المنحني الدافئ الدماء". ويحيي أشخاصه بأن يجعل كلامهم يتماشى مع مستواهم: فالجدة دزديمونة، مثلاً، تتكلم إنكليزية مشوهة حتى آخر حياتها. رواية "ميدلسيكس" من الروايات النادرة التي تناولت موضوع الشذوذ بطريقة علمية وإنسانية مبينة كل ما يعانيه/ تعانيه الشاذ/ة من قلق واضطراب وألم وإحساس بالوحدة وبالعذاب نتيجة ولادة كانت الطبيعة، او الجينات، مسؤولة عنها، فيما يدفع/ تدفع هو/ هي الثمن بسعادته/ ها، بحياته/ ها. إنها تروي مأساة فئة من البشر يتنادر عليها مجتمع متخلف، جاهلاً أو متجاهلاً أعماق هذه المأساة الإنسانية وتعقيداتها النفسية والعاطفية. وربما كان هذا سبب مزج الرواية السيرة الذاتية وسيرة أسرة الراوي/ الراوية بالأحداث السياسية والاجتماعية، إذ يهدف الكاتب إلى إظهار الصلة الوثيقة بين الفرد والجماعة، واستحالة فصل "الأنا" عن "الهم".