يعمل زهير أبو شايب في منطقة شعرية أصبحت مطروقة بوضوح خلال السنوات الأخيرة، فهو يؤلف في شعر كله، منذ أصدر "جغرافيا الريح والأسئلة" 1986، و"دفتر الأحوال والمقامات" 1987، بين لغة المتصوفة والاقتباسات الدينية ولغة أرضية ذات نزعة جسدية دنيوية تمزج السماوي بالأرضي مما يشكل افتراقاً عن اللغة - الأصل التي تقيم في أساس خطابه الشعري وتلونه بتلاوينها وتحشره في أسرة الشعراء "المتصوفة" في الشعر العربي الراهن. لكنه يجهد في شعره للتخلص من حمولة النص الصوفي الكثيفة التي تنوء بكلكلها على عالمه الشعري، فهو، على ما يبدو من القراءة العميقة لشعره، لا ينتمي بصورة خالصة الى تيار النص الصوفي في الشعر العربي الراهن، بل ان اللغة الصوفية، والاقتباسات الآتية من نصوص ابن عربي وغيره من شعراء الصوفية، وكذلك البناء على طريقة لغة شعراء المتصوفة وناثريها، والاقتباسات من النص الديني أو البناء على اسلوبه، تنصهر جميعاً في ما يمكن وصفه بأنه نص أرضي - ترابي يجلو مكابدات الشاعر المعاصر في عالم يضيق ويضيق دافعاً الكائن الى قلب معادلة السماء - الأرض، والفوق - تحت ليصنع سماءه الأرضية ويحلها داخله" وتلك مجازفة صوفية بالأساس على رغم اصرار زهير أبو شايب على تأسيس عالمه الشعري من العناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار، وهي ألفاظ تتكرر في كتابته الشعرية بصورة لا مثيل لها في شعر غيره. في مجموعته الشعرية الأخيرة "سيرة العشب" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999 ينوع أبو شايب على تجربته ذاتها بحيث نصادف المعادلة المقلوبة نفسها وقد أسست مدار هذه المجموعة الشعرية وبرهنت على رغبة الشاعر في الانتماء الى "صوفية أرضية" قائمة على "عناصر الكون الأربعة"، ومن هنا تكرار هذه العناصر والتنويع عليها في معظم قصائد المجموعة المكتوبة على مدار سنوات عشر ماضية. وهو يقسمها الى خمسة أقسام معطياً اياها عناوين تؤالف بين العوالم التي تدور حولها القصائد: أرض فاجأت مطراً، بين السماء وظلها الأبدي، الكهوف، مطر مضيء، دفتر الأحوال والمقامات. والعنوان الأخير يشد أصر مراحل تجربة زهير أبو شايب الشعرية ويدوّر هذه التجربة مذكراً بمجموعته الشعرية الثانية التي تمثل رسوخ شاعريته وتطورها وعثورها على لغتها وعالمها الشعري. في شعر أبو شايب ثمة نوع من الحلولية التي ترتد فيها الذات الى الداخل ويسبق اللاحق السابق في شكل فريد من أشكال التعبير عن أولوية الذات والإصرار على أن الكائن حيثما اتجه فإنه إنما يتجه نحو ذاته، الى داخله الذي يضم الذات والكون في آن واحد. لنأخذ مثلاً على رؤية العالم هذه قصيدة "حبة رمل" التي تعادل الكائن بحبة الرمل في اشارة الى اختصار الكون في عناصره وخضوع هذه العناصر لقانون الفناء في الكون الكلي الذي يجذب هذه العناصر مهما بدت حرة في ظاهر مسيرها في الحياة: "حبة رمل جسدي / بحت بها للريح / ثم مضيت عارياً / كعتمة الفجر / وخافتا / كعطره الفصيح / قلت: / هناك / خلفنا أجسادنا / ونحن عائدون في خطانا / كأننا سوانا". في الأسطر الشعرية السابقة تعبير عن تخلص الروح من أثقال الجسد وتعالي الذات عن جسدانيتها بالموت أو تدريب الجسد على التخفف من مطالبه الأرضية. ومن الواضح أن محمول هذه الأسطر الشعرية يخالف ما قلته سابقاً عن صوفية زهير أبو شايب الأرضية. لكن الأسطر التالية تكشف أن التجربة المعبر عنها في القصيدة هي تجربة الموت تجربة موت الأب تحديداً كما سنتبين في نهاية القصيدة، وهي التي تدفع الذات المتكلمة الى تصعيد حالة الموت وعد الجسد حالة في الوجود عارضة: "هناك، / تحت ظلنا المصلي./ هناك، / في الطين الذي ليل، / وانسد، / وغطى عورة الجذور / في انهدامها الفسيح / نمشي لكي نمشي فينا، / ونرى الأرض التي ترانا". لكن الذات المتكلمة سرعان ما تعود للتعبير عن ثوابت الرؤية التي تقيم في أساس تجربة الشاعر، حيث يتبادل الأب والابن دوريهما وتصبح الذات هي الآخر والآخر هو الذات في ظل ليل يزداد احديداباً وكثافة وثقلاً كجزء من التعبير عن فداحة تجربة الموت: فمن الميت في هذه التجربة؟ أهو الأب أم الإبن؟: "حدّب، إذن وحدك، هذا الليل، يا أبي / وقل لي / أين أضعتني / وأنت نائم محلي؟! / أين أضعت قبرنا / يا طفلي الدفين يا أبي / ولم تقل لي / ؟؟!!". في قصيدة أخرى "عنّي بهذا الرمل" يجلو الشاعر رؤيته الممزقة بين ما هو سموي وما هو أرضي، بين نزعة التعالي الصوفية وتلك النظرة الأرضية المادية الى الكون والوجود التي نعثر عليها في شعر أبو شايب بعامة: "وخرجت من جسدي بلا خجل، / أنا عبد الهواء، / تشدني روحي الى أعلى، / وأسقط حفرتي جسدي". تحكم الرؤية السابقة عالم هذه المجموعة الشعرية حيث يتكرر التعبير عن الرغبة في الانسلاخ من قميص الجسد، من التراب الذي يتساقط من الذات فتعيد بناءه حوائط تعلو وتحجب عن النفس عالمها الآخر: "ما اسمه؟ / ما اسم هذا التراب الذي هرّ / من جسدي المتساقط؟ / ما اسمه / حين هرّ / وحين تكوّم تحت ثيابي / ولبّنته حائطاً إثر حائط؟!". من الواضح أن هذه الثيمة تتكرر في الكثير من قصائد "سيرة العشب" مولدة صيغاً للتعبير عن قوة الجذب الترابية التي تلوم الذات المتكلمة نفسها على تمكنها منها. ان شعر زهير أبو شايب يدور في فلك هذه الثنائية، غير القابلة للحل، بين روحانية تصعيدية، ذات توشيحات صوفية، وجسدانية خالصة مرتبطة بعناصر الطبيعة الأربعة. وقوة الشد بين قطبي هذه الثنائية تولد تمزيقاً للذات وميلاً الى تفضيل الموت سبيلاً الى التخلص من ربقة الجسد وأثقاله، حيث يصبح الموت موضوعاً متخللاً لأكثر من قصيدة في هذه المجموعة، فيما تميل بعض القصائد باتجاه القطب الترابي من الثنائية المذكورة. وللتمثيل على هذا الميل يمكن النظر الى قصيدة "عرق التراب" بوصفها أكثر قصائد الشاعر قرباً من العقيدة الصوفية الأرضية التي تمثل الرؤية الكامنة في مجموعات الشاعر السابقة، والتي تفيض في بعض قصائد المجموعة الحالية حيث تهبط الروح باتجاه التراب الأرض بدلاً من أن تعرج باتجاه السماء التي تميل هي الأخرى لتشم الأرض وتشبك الندى بسفوحها. "باتجاه التراب أرخيت روحي / باتجاه الذي يرق ويوحي / لست أحتاج في يديّ بلاد / وينابيع غبطة ووضوح / ينعب الفجر سائحاً في أساريري، وتمشي السماء دون طموحي / كنت ميّلت قبتي كي أشمّ الأرض كي أشبك الندى بسفوحي / أنا عرق التراب موّج عشب / جسدي، فاستويت فوق جروحي / أنا أسبوع حنطة وتسابيح / وخفق على الثرى، وفتوح / فخذي شهوتي الطرية يا أرض / ولمي العرى عليّ وبوحي...". إن ثنائية التراب الأرض - السماء تسكن الذات المتكلمة، وهي تعبير عن كون تصطنعه هذه الذات لتمثيل انشدادها بين عنصري هذه الثنائية المرهقة التي تجلو، الى حد بعيد، فلك التعبير الشعري الذي يدور فيه زهير أبو شايب الذي يهبط بمتصوفته الى الأرض المعجونة بماء الحياة وهوائها ونارها اللاهبة بدلاً من العروج الى أعلى باتجاه سماء متعالية ناهضة في الفضاء البعيد.