سبحان الخالق البارئ اذا خبر الانسان أمور الافرنج سبَّح الله تعالى وقدّسه ورأى بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوّة والحمل، وسأذكر شيئاً من أمورهم وعجائب عقولهم. لا عقل لهم كان في عسكر الملك فلك بن فلك فارس محتشم افرنجي قد وصل من بلادهم يحجّ ويعود، فأنِسَ بي وصار ملازمي يدعوني "أخي" وبيننا المودة والمعاشرة، فلما عزم على التوجه في البحر الى بلاده قال لي: "يا أخي، أنا سائر الى بلادي، وأريدك تنفّذ معي ابنك وكان ابني معي وهو ابن أربع عشرة سنة الى بلادي يبصر الفرسان ويتعلم العقل والفروسية، واذا رجع كان مثل رجل عاقل"، فطرق سمعي كلام ما يخرج من رأس عاقل، فإن ابني لو أسر ما بلغ به الأسر أكثر من رواحه الى بلاد الافرنج، فقلت: "وحياتك، هذا الذي كان في نفسي، لكن منعني من ذلك ان جدّته تحبه وما تركته يخرج معي حتى استحلفتني أني أردّه إليها"، قال: "وأمك تعيش؟" قلت: "نعم"، قال: "لا تخالفها". ومن عجيب طبهم ان صاحب المنيطرة كتب الى عمي يطلب منه انفاذ طبيب يداوي مرضى من اصحابه، فأرسل اليه طبيباً نصرانياً يقال له ثابت، فما غاب عشرة ايام حتى عاد فقلنا له: "ما أسرع ما داويت المرضى!". قال: "أحضروا عندي فارساً قد طلعت في رجله ]41 و[ دمّلة وامرأة قد لحقها نشاف، فعملت للفارس لبيخة ففتحت الدمّلة وصلحت، وحميت المرأة ورطبت مزاجها، فجاءهم طبيب افرنجي فقال لهم: "هذا ما يعرف شي يداويهم"، وقال للفارس: "أيما أحب إليك تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين؟ قال: "أعيش برجل واحدة"، قال: "أحضروا لي فارساً قوياً وفأساً قاطعاً"، فحضر الفارس والفأس، وأنا حاضر، فحطّ ساقه على قرمة خشب وقال للفارس: "اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها"، فضربه، وأنا أراه، ضربة واحدة ما انقطعت، ضربه ضربة ثانية فسال مخُّ الساق، ومات من ساعته، وأبصر المرأة فقال: "هذه امرأة في رأسها شيطان قد عشقها، احلقوا شعرها"، فحلقوه، وعادت تأكل من مآكلهم الثوم والخردل، فزاد بها النشاف، فقال: "الشيطان قد دخل في رأسها". فأخذ الموسى وشقّ رأسها صليباً وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكّه بالملح، فماتت في وقتها، فقلت لهم: "بقي لكم اليّ حاجة؟". قالوا: "لا"، فجئت وقد تعلمت من طبّهم ما لم أكن أعرفه. وقد شاهدت من طبهم خلاف ذلك، كان للملك خازن من فراسنهم يقال له برناد، لعنه الله، من ألعن الافرنج وأرجسهم، فرمحه حصان في ساقه فعمّلت عليه رجله وفتحت في أربعة عشر موضعاً، والجراح كلما ختم موضع فتح موضع، وأنا أدعو بهلاكه، فجاءه طبيب افرنجي فأزال عنه تلك المراهم وجعل يغسلها بالخل الحاذق، فختمت تلك الجراح وبرأ وقام مثل الشيطان. ومن عجيب طبهم انه كان عندنا بشيزر صانع يقال له أبو الفتح له ولد قد طلع في رقبته خنازير، وكلما ختم موضع فتح موضع، فدخل انطاكية في شغل له وابنه معه، فرآه رجل افرنجي فسأله عنه فقال: "هو ولدي"، قال "تحلف لي بدينك إن وصفت لك دواء يبرئه لا تأخذ من احد تداويه به اجرة حتى أصف لك دواء يبرئه؟" فحلف، فقال له: "تأخذ له أشناناً غير مطحون تحرقه وتربيه بالزيت والخل الحاذق وتداويه به حتى يأكل الموضع، ثم خذ الرصاص المحرّق وربّه بالسمن، ثم داوه به فهو يبرئه"، فداواه بذلك فبرئ، وختمت تلك الجراح، وعاد الى ما كان عليه من الصحة. وقد داويت بهذا الدواء من طلع فيه هذا الداء فنفعه وأزال ما كان ]41 ق[ يشكوه. فكل من هو قريب العهد بالبلاد الافرنجية أجفى اخلاقاً من الذين قد تبلّدوا وعاشروا المسلمين. فمن جفاء أخلاقهم، قبّحهم الله، انني كنت اذا زرت البيت المقدّس دخلت الى المسجد الاقصى وفي جانبه مسجد صغير قد جعله الافرنج كنيسة، فكنت اذا دخلت المسجد الاقصى وفيه الداوية، وهم اصدقائي، يُخلون لي ذلك المسجد الصغير أصلي فيه، فدخلته يوماً فكبّرت ووقفت في الصلاة، فهجم علي واحد من الافرنج مسكني وردّ وجهي الى الشرق وقال: "كذا صلّ!" فتبادر اليه قوم من الداوية أخذوه أخرجوه عني، وعدت أنا الى الصلاة، فاغتفلهم وعاد هجم علي ذلك بعينه وردّ وجهي الى الشرق وقال: "كذا صلّ!" فعاد الداوية دخلوا اليه وأخرجوه، واعتذروا اليّ، وقالوا: "هذا غريب وصل من بلاد الافرنج في هذه الأيام، وما رأى من يصلي الى غير الشرق"، فقلت: "حسبي من الصلاة!" فخرجت فكنت أعجب من ذلك الشيطان وتغيير وجهه ورعدته وما لحقه من نظر الصلاة الى القبلة. ورأيت واحداً منهم جاء الى الأمير معين الدين، رحمه الله، وهو في الصخرة فقال: "تريد تبصر الله صغير؟ قال: "نعم"، فمشى بين أيدينا حتى أرانا صورة مريم والمسيح عليه السلام صغير في حجرها فقال: "هذا الله صغير" - تعالى الله عما يقول الكافرون علوّاً كبيراً. وليس عندهم شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طوّلت عليه خلاها مع المتحدث ومضى. شاهدت من ذلك اني كنت اذا جئت الى نابلس أنزل في دار رجل يقال له معز داره عمارة المسلمين لها طاقات تفتح الى الطريق، ويقابلها من جانب الطريق الآخر دار لرجل افرنجي يبيع الخمر للتجار يأخذ في قنينة من النبيذ وينادي عليه ويقول: "فلان التاجر قد فتح بتيّة من هذا الخمر، من اراد منها شيئاً فهو في موضوع كذا وكذا"، وأجرته عن ندائه النبيذ الذي في تلك القنينة، فجاء يوماً ووجد رجلاً مع امرأته في الفراش فقال له: "اي شيء أدخلك الى عند امرأتي؟". قال: كنت تعبان ]كذا[ دخلت استريح"، قال: "فكيف دخلت الى فراشي؟" قال: "وجدت فراشاً مفروشاً نمت فيه"، قال: "والمرأة نائمة معك؟ قال: الفراش لها، كنت أقدر أمنعها من فراشها؟" ]42 و[ قال: "وحق ديني، إن عدت فعلت كذا تخاصمت أنا وأنت"، فكان هذا نكيره ومبلغ غيرته. ومن ذلك انه كان عندنا رجل حمامي يقال له سالم من أهل المعرّة في حمام لوالدي، رحمه الله، قال: "فتحت حماماً في المعرّة أتعيّش فيها، فدخل اليها فارس منهم، وهم ينكرون على من يشد في وسطه المئزر في الحمام، فمد يده فجذب مئزري من وسطي رماه، فرآني، وأنا قريب عهد بحلق عانتي، فقال: "سالم"، فتقربت منه، فمد يده على عانتي وقال: "سالم، جيد! وحق ديني اعمل لي كذا"، واستلقى على ظهره وله مثل لحيته في ذلك الموضع، فحلقته فمر يده عليه فاستوطأه فقال: "سالم، بحق دينك اعمل للداما" والداما بلسانهم الست يعني امرأته، وقال لغلام له: "قل للداما تجيء"، فمضى الغلام أحضرها وأدخلها، فاستلقت على ظهرها وقال: اعمل كما عملت لي" فحلقت ذلك الشعر وزوجها قاعد ينظرني، فشكرني ووهبني حق خدمتي". فانظروا الى هذا الاختلاف العظيم: ما فيهم غيرة ولا نخوة وفيهم الشجاعة العظيمة، وما تكون الشجاعة الا من النخوة والانفة من سوء الاحدوثة. ومما يقارب هذا انني دخلت الحمام في مدينة صور فجلست في خلوة بها، فقال لي بعض غلمائي في الحمام: "معنا امرأة"، فلما خرجت جلست على المصاطب واذا التي كانت في الحمام قد خرجت وهي مقابلي قد لبست ثيابها وهي واقفة مع أبيها ولم أتحقق انها امرأة، فقلت لواحد من اصحابي: "بالله أبصر هذه امرأة هي"، وأنا أقصد ان يسأل عنها، فمضى، وأنا أراه، رفع ذيلها وطلّع فيها، فالتفت اليّ أبوها وقال: "هذه ابنتي، ماتت أمها وما لها من يغسل رأسها، فأدخلتها معي الحمام غسلت رأسها"، قلت: "جيد ]ما[ عملت، هذا لك فيه ثواب". عجائب طبهم ايضاً ومن عجيب طبهم ما حدّثنا به كليام دبور صاحب طبرية وكان مقدماً فيهم، واتفق انه رافق الامير معين الدين، رحمه الله، من عكا الى طبرية وأنا معه، فحدثنا في الطريق قال: "كان عندنا في بلادنا فارس كبير القدر فمرض وأشرف على الموت، فجئنا الى قس كبير من قسوسنا قلنا: "تجيء معنا حتى تبصر الفارس فلاناً؟ قال: "نعم"، ومشى معنا ونحن نتحقق انه اذا حط يده عليه عوفي، فلما رآه قال: "أعطوني شمعاً"، فأحضرنا له قليل شمع، فليّنه وعمله مثل عقد الاصبع، وعمل كل واحد في جانب أنفه، فمات الفارس ]42 ق[ فقلنا له: قد مات! قال: نعم، كان يتعذب سددت أنفه حتى يموت ويستريح. كتاب "الاعتبار"